«سنة عامة للبشر»: الفرق بين المراجعتين
من Jawdat Said
(٢ مراجعات متوسطة بواسطة نفس المستخدم غير معروضة) | |||
سطر ١: | سطر ١: | ||
− | + | {{حتى يغيروا ما بأنفسهم}} | |
− | + | إن السنة الموجودة في الآية، سنة عامة تنطبق على كل البشر، وليست خاصة بالمسلمين ولا بغيرهم وإنما هي عامة . | |
− | إن السنة الموجودة في | + | |
ولكن المسلم عادةً ، بشعور منه أو لا شعور ، وبمقدار متفاوتٍ في الوضوح ، يريد أن ينظر إلى الأمور بشيء من الخصوصية . | ولكن المسلم عادةً ، بشعور منه أو لا شعور ، وبمقدار متفاوتٍ في الوضوح ، يريد أن ينظر إلى الأمور بشيء من الخصوصية . | ||
ولقد صادفني مراراً حين كنت أحاول أن أتناول مشكلة المسلمين أن أواجهَ بقولهم : إن هذا الأسلوب الذي تحاول أن تبحث به الموضوع ينطبق على غير المسلمين أيضاً . فأقول نعم . | ولقد صادفني مراراً حين كنت أحاول أن أتناول مشكلة المسلمين أن أواجهَ بقولهم : إن هذا الأسلوب الذي تحاول أن تبحث به الموضوع ينطبق على غير المسلمين أيضاً . فأقول نعم . | ||
+ | |||
وبناء على هذه الخبرة ، أشعر بحاجة لأن أوضح هنا ، أن القاعدة الموجودة في هذه الآية تشمل كل الناس ، بدليل أن كلمة (قوم) في الآية لم تأت مخصصة بقوم معينين ، وإنما هي لكل قوم ، ومجيئها نكرة في الآية يدل على ذلك . | وبناء على هذه الخبرة ، أشعر بحاجة لأن أوضح هنا ، أن القاعدة الموجودة في هذه الآية تشمل كل الناس ، بدليل أن كلمة (قوم) في الآية لم تأت مخصصة بقوم معينين ، وإنما هي لكل قوم ، ومجيئها نكرة في الآية يدل على ذلك . | ||
فمضمون هذه الآية ينطبق على كل البشر أجناساً وأدياناً ، الأبيض والأسود ، والمسلم والكافر . | فمضمون هذه الآية ينطبق على كل البشر أجناساً وأدياناً ، الأبيض والأسود ، والمسلم والكافر . | ||
+ | |||
لكن حين يسأل المسلم ويقول : إن هذا الأسلوب في معالجة المشكلة يعم غير المسلمين . | لكن حين يسأل المسلم ويقول : إن هذا الأسلوب في معالجة المشكلة يعم غير المسلمين . | ||
+ | |||
إن هذا السؤال ليس سؤلاً فارغاً ، بل يحمل وراءه نظراً وعقيدة وفكرة ، فكأن المسلم بهذا السؤال يبصر جانباً لم يكن يبصره من قبل ، ويبرز عنده احتمالُ لم يكن وارداً لديه سابقاً ، فيخرج بهذا من نظر الخصوصية إلى قاعدة عامة تشمل كل البشر ، ومن ضمنهم المسلمون . | إن هذا السؤال ليس سؤلاً فارغاً ، بل يحمل وراءه نظراً وعقيدة وفكرة ، فكأن المسلم بهذا السؤال يبصر جانباً لم يكن يبصره من قبل ، ويبرز عنده احتمالُ لم يكن وارداً لديه سابقاً ، فيخرج بهذا من نظر الخصوصية إلى قاعدة عامة تشمل كل البشر ، ومن ضمنهم المسلمون . | ||
+ | ===مشكلة المسلمين خاضعة لسنن=== | ||
ولكن المسلم لا ينظر عادة ، إلى مشكلة المسلمين بهذا المنظار الذي يجعل المشكلة الإسلامية خاضعة لسننٍ عامة تشمل البشر جميعاً . فهو يرى أنه ينبغي أن تكون مشكلة المسلمين غير خاضعة لما يخضع له سائر البشر في مشكلاتهم ، ويفعل المسلم هذا حين يفعل ، بروح من التسامي والتقديس . ذلك أنه يظن أن رفع شأن المسلمين إنما يكون بعدم خضوعهم للسنن التي يخضع لها سائر البشر . | ولكن المسلم لا ينظر عادة ، إلى مشكلة المسلمين بهذا المنظار الذي يجعل المشكلة الإسلامية خاضعة لسننٍ عامة تشمل البشر جميعاً . فهو يرى أنه ينبغي أن تكون مشكلة المسلمين غير خاضعة لما يخضع له سائر البشر في مشكلاتهم ، ويفعل المسلم هذا حين يفعل ، بروح من التسامي والتقديس . ذلك أنه يظن أن رفع شأن المسلمين إنما يكون بعدم خضوعهم للسنن التي يخضع لها سائر البشر . | ||
سطر ١٧: | سطر ٢٠: | ||
والذي يؤكد عمومية الموضوع أن الله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : | والذي يؤكد عمومية الموضوع أن الله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : | ||
− | « قل بدعاً من الرسل » الأحقاف - 9 - . | + | « قل ما كنت بدعاً من الرسل » الأحقاف - 9 - . |
ويصور الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموضوع بصورة من يرى المستقبل من خلال السنن حين قول : (لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة …) حتى إنه يصل في المشابهة إلى أن يحشرهم في جُحرِ الضَّبِّ . | ويصور الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموضوع بصورة من يرى المستقبل من خلال السنن حين قول : (لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة …) حتى إنه يصل في المشابهة إلى أن يحشرهم في جُحرِ الضَّبِّ . | ||
سطر ٣٢: | سطر ٣٥: | ||
وليس قصدي أن أجعل العقيدة والإسلام موضع تشريح وبحث ، فإن الإسلام ليس مجال البحث في صدقه وحقيقته وصحته ، فالإسلام حقيقة من حقائق الكون ، كالشمس والقمر في مجال المادة . فإن الإسلام في مجال سير المجتمع البشري ، والأمة الواحدة العالمية ، كالشمس والقمر في مجال المادة . | وليس قصدي أن أجعل العقيدة والإسلام موضع تشريح وبحث ، فإن الإسلام ليس مجال البحث في صدقه وحقيقته وصحته ، فالإسلام حقيقة من حقائق الكون ، كالشمس والقمر في مجال المادة . فإن الإسلام في مجال سير المجتمع البشري ، والأمة الواحدة العالمية ، كالشمس والقمر في مجال المادة . | ||
+ | ===مفاهيم المسلمين عن الإسلام كثير منها ظنون=== | ||
فلندع الآن هذه الحقيقة ، ولنرجع إلى الإنسان المسلم الذي ينطبق عليه ما ينطبق على البشر ، من غفلة وجهل ، وعنهجية وغرور ، وطيبة ووداعة ، وسذاجة وحماقة .. فالبشر قد أودعوا نفوسهم أفكاراً عن الشمس والقمر في قديم الزمان ولكن هذه الأفكار مهما كانت خاطئة لم تكن لتؤثر في حقيقة سير الشمس والقمر ، ولم يتغير شيء من نظام الكون من أجل تلك الأفكار ، وبقيت سنن سير الشمس والقمر كما هي لم تتغير . ولم يكن الذي كان في حاجة إلى تغيير حينذاك ، سنة الشمس والقمر ، ولكن الذي كان حاجة إلى المزيد من البحث والعناية ، هو الإنسان ، الذي حشى نفسه بالظنون والأوهام ، وارتفع بها إلى مستوى القداسة ، وكان عنده استعداد أن يزهق الأرواح التي تحمل أفكاراً تخالف ما يحمله هو . | فلندع الآن هذه الحقيقة ، ولنرجع إلى الإنسان المسلم الذي ينطبق عليه ما ينطبق على البشر ، من غفلة وجهل ، وعنهجية وغرور ، وطيبة ووداعة ، وسذاجة وحماقة .. فالبشر قد أودعوا نفوسهم أفكاراً عن الشمس والقمر في قديم الزمان ولكن هذه الأفكار مهما كانت خاطئة لم تكن لتؤثر في حقيقة سير الشمس والقمر ، ولم يتغير شيء من نظام الكون من أجل تلك الأفكار ، وبقيت سنن سير الشمس والقمر كما هي لم تتغير . ولم يكن الذي كان في حاجة إلى تغيير حينذاك ، سنة الشمس والقمر ، ولكن الذي كان حاجة إلى المزيد من البحث والعناية ، هو الإنسان ، الذي حشى نفسه بالظنون والأوهام ، وارتفع بها إلى مستوى القداسة ، وكان عنده استعداد أن يزهق الأرواح التي تحمل أفكاراً تخالف ما يحمله هو . | ||
سطر ٣٧: | سطر ٤١: | ||
وينبغي أن أنبه هنا إلى أمرين أيضاً : | وينبغي أن أنبه هنا إلى أمرين أيضاً : | ||
− | الأول : حين نقول مشكلة عامة . | + | |
+ | '''الأول: حين نقول: مشكلة عامة.''' | ||
+ | |||
في الواقع إن المشكلة عامة ، لأن السنَّة لا تكون سنَّة إلا إذا كانت عامة ، ولكن ليس معنى هذا ، أن مشكلة المسلمين لا تتميز بخصوصية ، من حيث العوارض ، والملابسات الخاصة ، التي ينبغي أن يراعيها المسلم حين يأخذ في معالجة المشكلة ، إلا أن قصدي هنا أن لا يختلط على المسلم القاعدة العامة التي يخضع لها كل الأقوام ، مع الأمر الخاص الذي يخص المسلمين . فمثلاً قد يكون الانخداع بالوهم والتعلق به مما يحول بينهم وبين رؤية طريق الصواب وهذا سنَّة عامة في البشر . ولكن لا يشترط أن يكون الوهم الذي يتعلق به كل قوم ، نوعاً واحداً من الأوهام ، بل يمكن أن تكون أوهاماً متعددة ، ولكن سنَّة التعلق بالوهم واحدة ، وإن كان نوع الوهم مختلفاً . فعلينا أن نراعي هذا في بحث مشكلة المسلمين . | في الواقع إن المشكلة عامة ، لأن السنَّة لا تكون سنَّة إلا إذا كانت عامة ، ولكن ليس معنى هذا ، أن مشكلة المسلمين لا تتميز بخصوصية ، من حيث العوارض ، والملابسات الخاصة ، التي ينبغي أن يراعيها المسلم حين يأخذ في معالجة المشكلة ، إلا أن قصدي هنا أن لا يختلط على المسلم القاعدة العامة التي يخضع لها كل الأقوام ، مع الأمر الخاص الذي يخص المسلمين . فمثلاً قد يكون الانخداع بالوهم والتعلق به مما يحول بينهم وبين رؤية طريق الصواب وهذا سنَّة عامة في البشر . ولكن لا يشترط أن يكون الوهم الذي يتعلق به كل قوم ، نوعاً واحداً من الأوهام ، بل يمكن أن تكون أوهاماً متعددة ، ولكن سنَّة التعلق بالوهم واحدة ، وإن كان نوع الوهم مختلفاً . فعلينا أن نراعي هذا في بحث مشكلة المسلمين . | ||
− | الثاني : حين نقول : إن المشكلة مشكلة | + | '''الثاني: حين نقول: إن المشكلة مشكلة إنسان، لا مشكلة عقيدة.''' |
− | + | ||
− | وهذا | + | كذلك في حاجة إلى تفصيل ، وذلك لأن شرعة القرآن ، وإن كانت حقاً ، إلا أن فهم المسلمين لهذه الشرعة ، وهذا المنهاج في جميع نواحيه ، ليبست في أذهان المسلمين على أصالتها ووضوحها ، وأحياناً يكون فهمهم لها على عكس حقيقتها ، فمن هنا تظهر الحاجة إلى تغيير ما بأنفس المسلمين عن الإسلام ، في قليل أو كثير ، ولاسيما بعد هذا الكود الطويل ، الذي جعل كثيراً من الخرافات والنظرات الخاطئة تحمل قوة قداسة الإسلام والقرآن عند المسلمين . |
+ | |||
+ | وهذا الأمر، يمكن أن يعتبر خصوصية في المسلمين ، من حيث تعلقهم بأوهام وكشف لا صلة لها بالقرآن وكأنها القرآن. وتفصيل هذه الأوهام وكشف النقاب عنها ، شكل عقبات في سبيل الإصلاح ، لأنها تشكل أوزاراً تحملوها وابتدعوها ما كتبها الله عليهم ، فظلت في أعناقهم كأحجار الرحى المدلاة التي تعوق حركتهم وتثقلهم ، وكالغشاوات على الأعين تحول دون رؤية الصواب، بل صارت كالأقفال على القلوب ، التي تمنع إدراك الصواب ، وتجعل أمام إمكانية قبوله صعوبات مضاعفة. | ||
وعلى الرغم من أن هذه الأوهام ، اكتسبت نفس قداسة وقوة آيات الله ، في أنفس المسلمين ، إلا أن المسلم على علاَّته ، عنده من التعلق بالقرآن ما ليس لأحد من أهل الكتاب . فلهذا كانت صعوبة تخلص المسلمين من هذه الأوهام أصعب ، وفي حاجة إلى حذق ورفق ، في تغيير ما بنفسه عن دينه وعقيدته ، من الخطأ إلى الصَّواب . | وعلى الرغم من أن هذه الأوهام ، اكتسبت نفس قداسة وقوة آيات الله ، في أنفس المسلمين ، إلا أن المسلم على علاَّته ، عنده من التعلق بالقرآن ما ليس لأحد من أهل الكتاب . فلهذا كانت صعوبة تخلص المسلمين من هذه الأوهام أصعب ، وفي حاجة إلى حذق ورفق ، في تغيير ما بنفسه عن دينه وعقيدته ، من الخطأ إلى الصَّواب . | ||
وإن عجز المسلم عن هذا التغيير ، يرجع في كثير منه ، إلى غياب وضوح سنن تغيير ما بالنفس ، ولاسيما حين يحدث هذا التغيير خلال عصور طويلة ، وهنا تظهر أهمية معرفة سنن التغيير لما بالأنفس ، سواء كان هذا التغيير الذي حدث ببطء من قديم ، أو الذي يحدث الآن بسرعة كبيرة . | وإن عجز المسلم عن هذا التغيير ، يرجع في كثير منه ، إلى غياب وضوح سنن تغيير ما بالنفس ، ولاسيما حين يحدث هذا التغيير خلال عصور طويلة ، وهنا تظهر أهمية معرفة سنن التغيير لما بالأنفس ، سواء كان هذا التغيير الذي حدث ببطء من قديم ، أو الذي يحدث الآن بسرعة كبيرة . | ||
+ | |||
فهذه المعرفة الواضحة ، لما حدث من التغيير البطيء سابقاً ، وما يحدث من التغيير السريع لاحقاً ، أمر ضروري للسيطرة على التغيير الذي نريده نحن . | فهذه المعرفة الواضحة ، لما حدث من التغيير البطيء سابقاً ، وما يحدث من التغيير السريع لاحقاً ، أمر ضروري للسيطرة على التغيير الذي نريده نحن . | ||
− | # فلا بد من معرفة سنن التغيير لما بالأنفس . | + | # فلا بد من معرفة سنن التغيير لما بالأنفس. |
− | # كما لا بد من معرفة ما ينبغي أن | + | # كما لا بد من معرفة ما ينبغي أن نغيره، من الأوهام، وما ينبغي أن نثبته من الحقائق. |
− | # | + | # ومعرفة، مَنْ هؤلاء الذي ينبغي أن نجري على ما بأنفسهم هذا التغيير ، وإن اختلفت معادلتهم الشخصية وبيئتهم، إذ أنهم مشتركون في أصل البلاء. |
− | فهذه المعرفة المفصلة أمر لا بد منه للبدء في أية عملية تغيير جاد . | + | |
+ | فهذه المعرفة المفصلة أمر لا بد منه للبدء في أية عملية تغيير جاد. | ||
[[تصنيف:حتى يغيروا ما بأنفسهم]] | [[تصنيف:حتى يغيروا ما بأنفسهم]] |
المراجعة الحالية بتاريخ ١٧:٥٣، ٣ أبريل ٢٠٢٠
إن السنة الموجودة في الآية، سنة عامة تنطبق على كل البشر، وليست خاصة بالمسلمين ولا بغيرهم وإنما هي عامة .
ولكن المسلم عادةً ، بشعور منه أو لا شعور ، وبمقدار متفاوتٍ في الوضوح ، يريد أن ينظر إلى الأمور بشيء من الخصوصية .
ولقد صادفني مراراً حين كنت أحاول أن أتناول مشكلة المسلمين أن أواجهَ بقولهم : إن هذا الأسلوب الذي تحاول أن تبحث به الموضوع ينطبق على غير المسلمين أيضاً . فأقول نعم .
وبناء على هذه الخبرة ، أشعر بحاجة لأن أوضح هنا ، أن القاعدة الموجودة في هذه الآية تشمل كل الناس ، بدليل أن كلمة (قوم) في الآية لم تأت مخصصة بقوم معينين ، وإنما هي لكل قوم ، ومجيئها نكرة في الآية يدل على ذلك .
فمضمون هذه الآية ينطبق على كل البشر أجناساً وأدياناً ، الأبيض والأسود ، والمسلم والكافر .
لكن حين يسأل المسلم ويقول : إن هذا الأسلوب في معالجة المشكلة يعم غير المسلمين .
إن هذا السؤال ليس سؤلاً فارغاً ، بل يحمل وراءه نظراً وعقيدة وفكرة ، فكأن المسلم بهذا السؤال يبصر جانباً لم يكن يبصره من قبل ، ويبرز عنده احتمالُ لم يكن وارداً لديه سابقاً ، فيخرج بهذا من نظر الخصوصية إلى قاعدة عامة تشمل كل البشر ، ومن ضمنهم المسلمون .
مشكلة المسلمين خاضعة لسنن
ولكن المسلم لا ينظر عادة ، إلى مشكلة المسلمين بهذا المنظار الذي يجعل المشكلة الإسلامية خاضعة لسننٍ عامة تشمل البشر جميعاً . فهو يرى أنه ينبغي أن تكون مشكلة المسلمين غير خاضعة لما يخضع له سائر البشر في مشكلاتهم ، ويفعل المسلم هذا حين يفعل ، بروح من التسامي والتقديس . ذلك أنه يظن أن رفع شأن المسلمين إنما يكون بعدم خضوعهم للسنن التي يخضع لها سائر البشر .
وينبغي أن يُوضَّحَ هذا الأمر بدقة ، وبصورة كافية ومقنعة ، ولا بد أن أتناوله ، وإن لم أبلغ به الدرجة التي أريد لها من الوضوح والبيان ، لأن وضوح هذا يكون له أثر في نظر المسلم وموقفه من المشكلة . إذ حين يرى المسلم المشكلة خاضعة لسنة عامة تنطبق على سائر البشر ، يدرك أنه يمن أن يستفيد من الوقائع التاريخية البشرية التي حدثت للأقوام قديماً وحديثاً ، والتي لا تزال تحدث الآن .
والذي يؤكد عمومية الموضوع أن الله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : « قل ما كنت بدعاً من الرسل » الأحقاف - 9 - .
ويصور الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموضوع بصورة من يرى المستقبل من خلال السنن حين قول : (لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة …) حتى إنه يصل في المشابهة إلى أن يحشرهم في جُحرِ الضَّبِّ .
ومثل هذا النظر إلى الموضوع ، هو الذي نفتقده الآن ، وعلينا أن نكتسبه ، لأن هذه النظرة القرآنية هي التي تجعل المسلم قادراً على الاعتبار الذي يلح عليه القرآن .
فأمامنا تجارب القرون الماضية ، تجارب كثيرة تظهر فيها سنن التغيير الأقوام ، التي يخضع لها المسلمون أيضاً ، كأي قوم من الأقوام .
وفي الواقع ، إن هذا النظر القرآني يجرد الإنسان ملابساته ، ويرجعه إلى أصله المجرد الذي يخضع للسنن . فإذا حصَّلنا هذا النظر نكون قد أخرجنا المشكلة من مجال الغموض والتكهنات ، إلى مجال الرؤية الواضحة ، التي يُمكن النظرُ إليها كمشكلةٍ إنسانية ، لا على أنها مشكلة مبادئ ، بمعنى أن ننظر إلى الموضوع كمشكلة مجتمع ، لا كمشكلة دين وعقيدة . وبعبارة أخرى كمشكلة بشرٍ مسلمين لا مشكلة إسلام . وهذا أيضاً في حاجة إلى شرح أيضاً .
فحين أقول : مشكلة مجتمع ، لا مشكلة دين ، لا أريد أن أنزع المسلم من دينه وعقيدته ، بل حرصي عليه أن يبقى على دينه كحرصه بل أشد . ولكن ما أريده هنا : أن أفرق بين السنن التي تجعل الإنسان عاجزاً ، والسنن التي تجعل الإنسان مجتهداً عاملاً .
وليس قصدي أن أجعل العقيدة والإسلام موضع تشريح وبحث ، فإن الإسلام ليس مجال البحث في صدقه وحقيقته وصحته ، فالإسلام حقيقة من حقائق الكون ، كالشمس والقمر في مجال المادة . فإن الإسلام في مجال سير المجتمع البشري ، والأمة الواحدة العالمية ، كالشمس والقمر في مجال المادة .
مفاهيم المسلمين عن الإسلام كثير منها ظنون
فلندع الآن هذه الحقيقة ، ولنرجع إلى الإنسان المسلم الذي ينطبق عليه ما ينطبق على البشر ، من غفلة وجهل ، وعنهجية وغرور ، وطيبة ووداعة ، وسذاجة وحماقة .. فالبشر قد أودعوا نفوسهم أفكاراً عن الشمس والقمر في قديم الزمان ولكن هذه الأفكار مهما كانت خاطئة لم تكن لتؤثر في حقيقة سير الشمس والقمر ، ولم يتغير شيء من نظام الكون من أجل تلك الأفكار ، وبقيت سنن سير الشمس والقمر كما هي لم تتغير . ولم يكن الذي كان في حاجة إلى تغيير حينذاك ، سنة الشمس والقمر ، ولكن الذي كان حاجة إلى المزيد من البحث والعناية ، هو الإنسان ، الذي حشى نفسه بالظنون والأوهام ، وارتفع بها إلى مستوى القداسة ، وكان عنده استعداد أن يزهق الأرواح التي تحمل أفكاراً تخالف ما يحمله هو .
فإذا رجعنا إلى الإنسان المسلم ، نجد أن نظرته ومفهومه عن الإسلام ، كمضمون ، وكطريقة لحل المشكلات ، كمثل نظر أولئك إلى الشمس والقمر ، من حيث البعد عن الحقيقة . فالمنهج القرآني مثلاً في بحثه لمشكلات التقدم والتخلف المادي عند الناس ، يواجهها كمشكلة عامة ، وكمشكلة أقوام ، لا كمشكلة دين وعقيدة ، وإنما مشكلة صلة بدين .
وينبغي أن أنبه هنا إلى أمرين أيضاً :
الأول: حين نقول: مشكلة عامة.
في الواقع إن المشكلة عامة ، لأن السنَّة لا تكون سنَّة إلا إذا كانت عامة ، ولكن ليس معنى هذا ، أن مشكلة المسلمين لا تتميز بخصوصية ، من حيث العوارض ، والملابسات الخاصة ، التي ينبغي أن يراعيها المسلم حين يأخذ في معالجة المشكلة ، إلا أن قصدي هنا أن لا يختلط على المسلم القاعدة العامة التي يخضع لها كل الأقوام ، مع الأمر الخاص الذي يخص المسلمين . فمثلاً قد يكون الانخداع بالوهم والتعلق به مما يحول بينهم وبين رؤية طريق الصواب وهذا سنَّة عامة في البشر . ولكن لا يشترط أن يكون الوهم الذي يتعلق به كل قوم ، نوعاً واحداً من الأوهام ، بل يمكن أن تكون أوهاماً متعددة ، ولكن سنَّة التعلق بالوهم واحدة ، وإن كان نوع الوهم مختلفاً . فعلينا أن نراعي هذا في بحث مشكلة المسلمين .
الثاني: حين نقول: إن المشكلة مشكلة إنسان، لا مشكلة عقيدة.
كذلك في حاجة إلى تفصيل ، وذلك لأن شرعة القرآن ، وإن كانت حقاً ، إلا أن فهم المسلمين لهذه الشرعة ، وهذا المنهاج في جميع نواحيه ، ليبست في أذهان المسلمين على أصالتها ووضوحها ، وأحياناً يكون فهمهم لها على عكس حقيقتها ، فمن هنا تظهر الحاجة إلى تغيير ما بأنفس المسلمين عن الإسلام ، في قليل أو كثير ، ولاسيما بعد هذا الكود الطويل ، الذي جعل كثيراً من الخرافات والنظرات الخاطئة تحمل قوة قداسة الإسلام والقرآن عند المسلمين .
وهذا الأمر، يمكن أن يعتبر خصوصية في المسلمين ، من حيث تعلقهم بأوهام وكشف لا صلة لها بالقرآن وكأنها القرآن. وتفصيل هذه الأوهام وكشف النقاب عنها ، شكل عقبات في سبيل الإصلاح ، لأنها تشكل أوزاراً تحملوها وابتدعوها ما كتبها الله عليهم ، فظلت في أعناقهم كأحجار الرحى المدلاة التي تعوق حركتهم وتثقلهم ، وكالغشاوات على الأعين تحول دون رؤية الصواب، بل صارت كالأقفال على القلوب ، التي تمنع إدراك الصواب ، وتجعل أمام إمكانية قبوله صعوبات مضاعفة.
وعلى الرغم من أن هذه الأوهام ، اكتسبت نفس قداسة وقوة آيات الله ، في أنفس المسلمين ، إلا أن المسلم على علاَّته ، عنده من التعلق بالقرآن ما ليس لأحد من أهل الكتاب . فلهذا كانت صعوبة تخلص المسلمين من هذه الأوهام أصعب ، وفي حاجة إلى حذق ورفق ، في تغيير ما بنفسه عن دينه وعقيدته ، من الخطأ إلى الصَّواب . وإن عجز المسلم عن هذا التغيير ، يرجع في كثير منه ، إلى غياب وضوح سنن تغيير ما بالنفس ، ولاسيما حين يحدث هذا التغيير خلال عصور طويلة ، وهنا تظهر أهمية معرفة سنن التغيير لما بالأنفس ، سواء كان هذا التغيير الذي حدث ببطء من قديم ، أو الذي يحدث الآن بسرعة كبيرة .
فهذه المعرفة الواضحة ، لما حدث من التغيير البطيء سابقاً ، وما يحدث من التغيير السريع لاحقاً ، أمر ضروري للسيطرة على التغيير الذي نريده نحن .
- فلا بد من معرفة سنن التغيير لما بالأنفس.
- كما لا بد من معرفة ما ينبغي أن نغيره، من الأوهام، وما ينبغي أن نثبته من الحقائق.
- ومعرفة، مَنْ هؤلاء الذي ينبغي أن نجري على ما بأنفسهم هذا التغيير ، وإن اختلفت معادلتهم الشخصية وبيئتهم، إذ أنهم مشتركون في أصل البلاء.
فهذه المعرفة المفصلة أمر لا بد منه للبدء في أية عملية تغيير جاد.