يظهر أثر ما بالنفس ولو كان ما بالنفس وهماً
من Jawdat Said
يبقى سلوك الإنسان مترتباً على ما بنفسه ، بغض النظر عن صواب وخطأ ما بالنفس . فقد يقتنع الإنسان بوهم من الأوهام إلا أنه يصدقه كأنه حقيقة ، فهذا الوهم يتسلط على سلوك الإنسان ومواقفه إزاء الأحداث . ومن هنا نعلم أن الناس الذين يحملون أوهاماً عن أي أمر من الأمور ، تأتي نتيجة أعمالهم وفقاً لهذا الوهم ، ويتصرفون طبقاً للوهم الذي انطبع في نفوسهم ، كما تصرف العملاق حين شاهد القدمين ، وتوهم أن والد الطفل الذي هذا شانه سيكون ضخماً جداً ، وعلى هذا ينسحب بسرعة من الورطة التي وقع فيها ، فإن ما حدث من الوهم في نفسه وقنع به ، أعقب عنده هذا المسلك المضحك لمن يعرف حقيقة الأمر . ولكن العملاق لم يكن ضاحكاً حين هرب ، بل كان جاداً كل الجد .
إن مثل هذا الموقف يمكن أن يحدث لأية أمة من الأمم ، ولأي شعب من الشعوب إذا حمل أفكاراً وهمية خصمه أو صديقه ، سواء في الاعتماد عليه في موضعه كإقدام العملاق أولاً بكل حماس ، ثم انسحابه المريع مرة أخرى بكل خزي وعار . وسيظل يقبل ويدبر ما دام ما بنفسه عن الموضوع ليس حقيقة ، وإنما أوهام كونها هو بنفسه ونظراته الذاتية الخاصة ، أو وضعها له اختصاصي بارع . والخَلاص من الوهم يتم بادراك الأمر على وجهه الصحيح ، وإدراك الوجه الصحيح لا يتم إلا بفتح السمع والبصر .
ولكن كيف يمكن أن يفتح سمعه وبصره إن كان في وهمه أن فتح السمع والبصر أخطر من أي خطر آخر ؟ وكم في العالم الإسلامي من الأسوار الوهمية التي تُعيقُ حركته ، وكم رأى قدمي الحركة الوهابية ضخمتين ، حين امتلأ رعباً من الفكرة الأولية البسيطة التي تتضمنها في ترك ما لا دليل عليه .
ولأبي حامد في كتابه المستصفى ، كلام حسن يتعلق بهذا الموضوع ، ذكره حين بحث الحسن والقبح ، والخلاف حولهما .. قال : « الغلطة الثالثة : سببها سبق الوهم إلى العكس … » إلى أن قال : « ومن هذا نفرة الملدوغ من الحبل المرقش … ولكن خلقت النفوس مطيعة للأوهام ، وإن كانت كاذبة . حتى إن الطبع لينفر من حسناء سميت باسم اليهود . والنفرة من المذاهب إذا نسبت إلى من يسيء الاعتقاد فيهم ليست طبعاً للعوام خاصة بل طبع أكثر العقلاء والمتسمين بالعلوم ، إلاَّ العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقاً وقواهم على اتباعه . وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعةٌ للأوهام الكاذبة … وأكثر إقدام الخلق وإحجامِهم بسبب هذه الأوهام ، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس ، ولذلك ينفر طبع الإنسان عن المبيت في بيت فيه ميِّت فتنبه لهذه المثيرات » .
وهذا الموضوع بحر متلاطم الأمواج علينا أن نتذكر ما مَّرت به الأفكار من الغموض إلى أن وصلت إلى درجة الوضوح والتسخير . فإن المعرفة العامية البسيطة لفكرة ما غير المعرفة العلمية التي تسخر الفكرة لمعالجة مشاكل البشر .
وعلينا أن ندرك كيف يمكن الاستفادة من هذا الموضوع في حماية البشر والمجتمع من الانقياد للأوهام . إن الغزالي ذكر هذا الموضوع وألقى عليه في بضعة أسطر ضوءاً ساطعاً . ولكن الاستفادة من هذا الموضوع ونَقله إلى المجال العلمي ، في كشف سنة تسخيره لحماية الأمة من الوقوع في الأوهام شيء آخر ، ليس كمجرد وجود الفكرة في ذهن فرد متوقد ، لأن هذا يحتاج إلى متخصصين في الموضوع لتشقيق الجوانب المتعددة لتطبيقاته في النشاط البشري . إن الإنسان الذي اكتشف التيار الكهربائي وإمكان إمراره في السلك ، يختلف أمره عن الآلاف المؤلفة من المهندسين الاختصاصيين في استغلال هذا التيار فيما لا يحصى من الأغراض لخدمة الإنسان في حاجاته اليومية . كذلك موضوع تسلط الأوهام على البشر حين تحول بينهم وبين رؤية مشكلة على حقيقتها .
يذكر راسل(1) كيف يُشِلُّ الخوفُ الناشئ من الوهم المتسلط ، جهدَ الكائن الحي حتى في مجال الحيوان . يذكر عن دابة كانت في مكان وقد حدث أن شبت النيران فيه ، وبذل المشرفون على إطفاء الحريق جهودا شاقة في إنقاذ الدابة وإخراجها من المكان الذي هي فيه ، ولم يكن الجهد صعبا إلا لأن الدابة لا تريد الخروج لما سيطر عليها من الوهم وأصابها من الخوف . وراسل على أسلوبه الساخر ، لا تفوته الفرصة في أن يعمم هذه القاعدة ، التي على أثرها قامت الدابة بتعطيل جهد الذين سيسعون لإنقاذها . قال راسل : أن الخوف الناشئ من الأوهام المتسلطة على عقول ساسة العصر ، الذين يشرفون على هذا العالم ، وهم لا يقلون تأثراً بالأوهام عن الدابة ، يمنعهم من الخروج من المشاكل الوهمية المحيطة بهم والتي تعرضهم لأخطار متزايدة على مر الزمن » .
وربما لا يتيسر لكل أحد أن يرى الدابة محصورة ضمن النيران تمتنع عن الخروج منها ، ولكن أيسر من ذلك أن نرى الدابة تُشد من أمام وتُدفع من الخلف لاجتياز ساقية ، أو عبور جسر أو السير في مدخل ما ، فلا تتقدم لما تخشى من وقوعها في خطر ماحقٍ .
ويمكن أن نرى مجتمعاً بأكمله يصاب بمثل هذه الأوهام . وفي الواقع إن الغزالي كان بارعا حين قال : « وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام ، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس » .
ونحن وإن كان يصعب علينا إخراج القاعدة إلى حيز المعقولية ، إلا أن وراء إظهار القاعدة صعوبة أخرى أشد وعورة ، وذلك حين نبدأ في تطبيق القاعدة على الجزئيات من المسائل المعنية التي تدخل تحت القاعدة.
يقول في ذلك ابن تيمية « يسهل على الناس التسليم بالقاعدة على عمومها . ولكن إذا مست القاعدة الجزئيات التي تخصهم ، تغير موقفهم ولم يقبلوا تفصيل ما قبلوه عموماً » . وما أحوجنا إلى الحذق في كشف الأوهام التي توقف حركة العالم الإسلامي أمام ممرات معينة – كوقوف الدابة لا ينفعها الشد ولا الدفع – لتتمكن من العبور بأمان من بين الأخطار التي يتخيلها في وهمه ، بينما في الواقع لا وجود لها إلا في نفسه . وحسبك مراجعة ما لقيه المصلحون من العنت ، والبطء الشديد ، حتى وصل الناس إلى درجة إمكان التساهل مع أفكارهم أو قبولها .
ومع ذلك لا أشعر أني دللتك على خريطة أو أعطيتك « بوصلة » تخرجنا من الأوهام التي نعيش فيها وتجعل سيرنا في أمان ، في هذه الغابة التي لا تزال تعمر بالغيلان ، لأننا لم نملك بعد البصيرة الكافية .
إن التبصر في الحياة هو المسنونة الزرق كأنياب أغوال ، وكم نتعلق بأنواع من القش لتنقذنا ، بينما التبصر هو سفينة النجاة ، وبيننا وبين التبصر أهوال ترعبنا . كيف لا يكون كذلك ونحن نعتبر التبصر قنطرة اللادينية ؟ فكيف يمكن أن نعبر مثل هذا الجسر مهما كان الشد من أمام والدفع من خلف ؟ ما دام المربون في العالم الإسلامي تهددهم مثل هذه الأخطار الوهمية ؟ ويوحون إلى طلابهم الخوف والرعب الذي ورثوه . وحين نرى مثل صاحب مجلة المسلمون الدكتور سعيد رمضان في مجلته(1) عنوانا مثل :
« همسات … في أذن قادة الرأي والفكر في دسار الإسلام » .
ثم يضع تحت هذا العنوان مثل هذه الكلمات الآتية :
(إن ثورة اجتماعية توشك أن تعم العالم الإسلامي كله . إننا لا نشك في هذا لحظة .. بل نراها كما نرى الشمس الساطعة . وسيكون عنوان الثورة « حرية الفكر والضمير » . فإذا لم تحملوا أنتم هذه الرايات وأنتم أحق بها من غيركم فسيحملها غيركم ….
ثم يقول : لا تستهينوا أيها السادة بهذه الكلمات فإن الشعوب الإسلامية سائرة إلى هذا المصير وعلى هذه الطريق ولن يثنيها عن ذلك شيء … فاحذروا .. احذروا ظان تفلت الرايات من أيديكم) .
نجد مثل هذا الكلام تحت عنوان همسات في أذن قادة الرأي والفكر في ديار الإسلام . أي أن الحديث عن هذا لم يتجاوز بعد الهمسات فقط وفي أذن البعض أيضاً وفي ؟أسلوب خطابي .
حقاً إن الأمر يحتاج إلى همس ، إذ أن ثلوج جمود الفكر وحبس الضمائر لم يذبها بعد شعاع التبصر والاعتبار « فاعتبروا يا أولي الأبصار » الحشر – 2 .