«فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الثاني»: الفرق بين المراجعتين

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
(صفحة جديدة: {{قالب:فقدان التوازن الاجتماعي}} ==عالم الغيب وعالمَ الشهادة== « قَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ: ...)
 
(لا فرق)

المراجعة الحالية بتاريخ ٠٧:٥٦، ١٧ أغسطس ٢٠٠٩

كتب جودت سعيد

كن كابن آدم


Fuqdanaltawazon.jpg
تحميل الكتاب
مقدمة وتمهيد
فقدان التوازن الاجتماعي مقدمة
الفصول
فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الأول
الشُّعور بالمنبوذية
فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الثاني
أثر المُبرّر
فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الثالث
عالم الغيب وعالمَ الشهادة
فقدان التوازن الاجتماعي الفصل الرابع
بين المبدأ وضغط الواقع



عالم الغيب وعالمَ الشهادة

« قَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي » البقرة - 260.

ورد في الكلام السابق جملة (المجتمع الذي يعجز عن أن يقدم للفرد الناشئ فيه توازناً، أو ما يعيد إليه توازنه).

فكيف يحصل المجتمع على هذه القدرة، وعلى هذا الرصيد، الذي يمكنه من أن يدعم الفرد الناشئ فيه؟ هنا نحتاج مرة أخرى إلى مثلٍ يقرّب الموضوع.

إن الفتاة حين تلبس الجلباب الإسلامي، تجد العناء في بيتها، وفي المجتمع الخاص كالمجتمع العربي، ثم تجد صعوبات أكبر عندما تتقل إلى المجتمع العام العالمي.

إن الفتاة المسلمة التي تريد أن تحترم المثل الأعلى للإسلام، تعاني من صعوبات وعقبات كثيرة، تقصم ظهر الكثيرات، إلا أننا نشاهد نماذج تتغلب على عقبات الأسرة، وعقبات المجتمع، ويمكن أن نلاحظ أن كل عقبة أصعب من التي سبقتها، ولكن يمكن أيضاً ملاحظة اللواتي استطعن المقاومة، واقتحام العقبة، ويمكن أن يقع تحت ملاحظتنا وإدراكنا كل خطوة تخطوها الفتاة في مقاومتها النبيلة هذه والأشياء التي تعتمد عليها حين تتمسَّك بمثلها العليا.

وهنا أتذكر يا أختاه ملاحظتك التي كنت قد حدثتني بها في مناسبة ما وتذكرك لمراحل معينة، وتجارب خاصة مررت بها، ولست أدري، إذا كُنتُ قد أصبْتُ حين قَسَمْتُ الأمر إلى مرحلتين: سميت الأولى: مرحلة (الإيمان بالغيب) والثانية: مرحلة (الإيمان بالشهادة).

المرحلة الأولى:

يوم كنت تملكين القدرة على تحدّي العالم والتضحية بكل شيء في سبيل الخلاص الأخروي، ونيل مرضاة الرب، وكفى.. بصرف النظر عن أي شيء آخر من متاع ومتع الحياة الدنيا.

تذكرين مزايا هذه الحالة من الذوبان، والعيش في كنف الرحمن، ولاشك أن تحصيل هذه الحالة جيد جداً، ويمتاز بطعمه الخاص، وحلاوته في القلب، وأنها أيسر انتقالاً وحملاً وانتشاراً، لأن في الإنسان شيئاً يساعد على قبولها عموماً، إلا أن هذه الحالة مع ما لها من حلاوة الذوبان، كذلك لها من مرارة الشعور بالحرمان الخفي، وفيها نوع من السلبية، وعدم القدرة على التأثير الإيجابي، وهذا مما يجعلها محدودة المدى، فاقدة السلطان، تنبئ بجانب من النقص.

ويمكن القول: إنها إيجابية من جانب الطهر والتضحية. إنها سلبية من ناحية كونها تجربة وجدانية فردية، والإنسان في هذه الحالة يرافقه ولاشك انصراف عن المجتمع مشحون ببغض له، أو بيأس منه.

هذه الحالة.. يجب أن يستفاد منها، ولا يتوقف عندها، فهي مرحلة ضرورية يمكن فهمها من خلال قول الأصحاب رضوان الله عليهم: « أوتينا الإيمان قبل أن نؤتى القرآن » أي: أننا قبلنا الاتجاه الإيماني، قبل أن نتفقه في الدين.

والمهم هو الانتقال إلى الحالة الثانية ؛ رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس، والتي ندعم بها إيماننا، فمع هذا الصفاء القلبي والنفسي نكون قد تمتعنا بالإيجابية والعلمية، واتخاذ المواقف السليمة.

وكما أن الإيمان بالغيب يعطي قوة التماس، وكذلك فآيات عالم الشهادة تزود الإنسان بنوع آخر من التماسك، ومما يؤسف له أن النوع الأول لا يطمع في أن يغير الواقع، ولا في السيطرة على آيات الله في الآفاق والأنفس، وتزويد الناس بما هم في حاجة إليه، وباختصار: يجب دعم الإيمان الغيبي بالله والكتاب، بآيات الآفاق والأنفس، ليأخذ الإيمان صبغته الإيجابية على المستويين: النفسي، والاجتماعي.

المرحلة الثانية:

وأما هذه فيمكن أن نسميها: مرحلة الإيمان بالشهادة، أو مرحلة الوعي، أو مرحلة فهم أن ما يأمر به الله هو الذي يقتضيه العقل والفطرة، وعين الصواب. فالوصول إلى هذه المرحلة وتحصيل هذا الوعي لذاك الذوبان بريقاً خاصاً لا يملك الإنسان أمامه إلا الاعتراف والإقرار، فهذا النوع من الوعي لأمر الله هو الذي يعطي التوازن للإنسان في جميع المستويات، في الأسرة، والمجتمع الخاص، والمجتمع العالمي.

وكلما زاد الإيمان بالغيب، والإيمان بالشهادة، وتواطأ الجانبان في الموضوع زال الجانب السلبي، وحلت الفعالية محله.

وإنني لأتذكر: لمَ كان واضحاً لديك شعورك بهاتين المرحلتين في حياتك، وينبغي أن نكون أقدر على التعبير، وكشف الأمور التي ساعدت على الوعي، فهذا الوعي هو الذي يساعد على التوازن في كل مجتمع، وهذا الوعي هو الذي يرفع الشعور بالمنبوذية، كما أن هذا الوعي هو الذي يعطي للإنسان هذا المبرر للوجود، وهو الذي يمكِّن من رؤية جانب النقص في العالم. ومن رؤية ما يملكه الإنسان مما يحتاج إليه العالم، وإذا كان هذا الوعي يعتبر في الماضي مزية، فهو الآن ضرورة، لأنه هو الذي يدعم الإيمان بالغيب حتى يصير له البريق المفقود الذي لم نعد نراه، وهذا الوعي هو الذي نحن في شوق إليه، وعند تحصيل هذه الحالة النفسية، سوف يشعر الإنسان بالأناقة وبالعزة وكرامة الإنسانية، مهما كان مجرداً من الأعوان ودعمهم: أشخاصاً كانوا أم أشياء، وسيغدو كما قال الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) النحل -120.

وهذه الحالة هي التي كانت تدعم بلالاً رضي الله عنه أثناء محنة المسلمين في مكة، وهو مجرد من دعم الأشخاص والأشياء، لأنه كان يستلهم الأناقة من عالم الأفكار (الإيمان)، لا من عالم الأشخاص ولا من عالم الأشياء، وتحصيل هذه الحالة اليوم لأي فرد سيعطيه هذا الثبات، مهما كان مجرداً من السند، ودعم الأشخاص والأشياء له.

وبروز هذا الوعي، وانتشاره في المجتمع، هما اللذان يعطيان التوازن المفقود لدينا، وحين تقل كمية الوعي الموجود في المجتمع يظهر عدم التوازن في أفراده في مجالات شتى، ومجموعهُ يؤدي إلى شيئين خطيرين كانت الأخت المسلمة قد أوجزتهما لا شعورياً في هاتين الحالتين النفسيتين، واللتين تعتبران نتيجتين لا سببين. وهما:

1- الشعور بالمنبوذية.

2- الشعور بضرورة الهرب من المجتمع، والاحتباس في البيت.

ومثل هذه النتائج لسنا في حاجة إلى مزيد من شرحها وبيانها لأنها مدركة بالشعور، ومرئية بالعين، وإنما الشيء الخفي هو: القدرة على تحصيل الوعي، فهو لا يُدرك بالشعور، ولا يرى بالعين، وخفي من وجه ثالث حيث أننا مقتنعون بأنه لا يمكن كشف خطأ عند العالم المتقدم، وكشف صواب عندنا، وبذلك يتم طمس إمكانية الفهم تماماً، ويتم اغتيال مقياس الكشف.

ولعلك تذكرين كم كنت أطيل البحث في الإخلاص والصواب، في القلب والعقل، في الضمير والفهم، إلى آخر المصطلحات الكثيرة التي كنت أوردها في بحث مشكلة المسلمين، فإن كمية الصواب التي عند الإنسان قد تكفي في مرحلة ما، لإعطاء التوازن للإنسان في مرحلة الأسرة، أو المجتمع الخاص، إلا أن كمية الصواب تحتاج إلى نوعية معينة لإمكان السير في طرق وعرة مع القدرة على التوازن وإلا فسيسقط الإنسان صريعاً على وجهه، أو على جانب آخر. وكما يسقط الإنسان الذي فقد توازنه الجسدي والطاقة الحيوية في الجسم، فكذلك إن فقد مجموعة الطاقة الفكرية التي تكون الوعي، فإنه يفقد التوازن الذي أنا بصدد بحثه، والذي أشرت إلى بعض نتائجه المختلفة في مستويات عديدة بدءاً من أنواع الصراع الذي ذكره الله في القرآن الكريم: (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ) البقرة - 275. وانتهاءً بالوسوسة في طلب القربان، وسيحظى الشيطان به لأنه قد نجح من قبل في الإخراج من جنة التوازن، وخلع لباس التوازن، فبدت العورات والسوآت، في المجالات كلها، والمشكلة كما أشرت إليها في أن النتائج مرئية بالعين، فنحن نشاهد السَّوْآت مكشوفة في الشوارع، ونسمع - إن لم نَرَ - بأخبار القرابين التي تقدم، وأخبار الجبهات الإسلامية التي يتم تسليمها، وانحسار المسلمين عنها، لكننا لا نتمكن من رؤية الأسباب الخفية لأنها كالشيطان تجري في العروق، وكالشيطان - مرة أخرى - لأن رؤيتها لا تتم بالبصر ولا بالسمع، وإنما يكون إدراكها بالعقل والوعي، لأن من طبيعة الشيطان: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الأعراف - 27.

ونرجع مرة أخرى إلى تأمل حدثٍ خضع لتجربتنا، وهو الانتقال من مرحلة الإيمان بالغيب فقط، إلى مرحلة الإيمان بالغيب على أساس من دعم عالم الشهادة.

والإيمان بالغيب على درجات، والذي عنده إيمان بالغيب يستطيع أن ينقذ نفسه، على قَدْرِ ما يملك من الإيمان، وهذا القدر يتفاوت من مثقال ذرة من الإيمان، إلى أن يصل إيمان الفرد إلى إيمان يوازن إيمان أمة بأكملها.

والإيمان بالغيب الذي لا يصحبه إيمان بعالم الشهادة قد ينقذ الفرد، لكنه لا يمكن يؤثر في الآخرين، وأن ينال إعجابهم، ولهذا نجد في القرآن الانتباه إلى أهمية عالم الشهادة، حيث فيه صدق ما جاء من عالم الغيب، ولهذا أيضاً نستطيع أن نقول: إن التبشير في العالم الإسلامي قد توقف بسبب قلة بضاعته من عالم الشهادة.

وبقدر ما يحصل المرء من إيمان بالغيب وبالشهادة معاً يتمكن من اجتياز العقبات، واقتحامها، وهداية الآخرين، والتأثير فيهم، وبما أن الإسلام جعل أدلة عالم الغيب من عالم الشهادة كان القرآن بذلك خاتم الكتب السماوية أولاً، وللناس كافة ثانياً، وهذا ما يحقِّق له أن يظهر على الدين كله.

إن إدراك الانتقال من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالشهادة يمكن أن يتحقق لكل من الفرد والمجتمع، فالفرد الذي جمع الإيمان بالغيب والشهادة، ينتقل من الانتصار على عقبة الأسرة في إنقاذ نفسه أولاً، ثم يرتفع شيئاً فشيئاً إلى إنقاذ الأسرة، لا مجرد المخالفة وإشباع المثل الأعلى، ويمكن أن نضرب مثلاً للفرد الذي تغلب على مجتمعه المحلي، ودخل المجتمع العالمي بـ « محمد إقبال » - رجمه الله - بما امتاز به من إيمان بالغيب، وإيمان بالشهادة. وبهذا استطاع أن يحصل على التوازن الذي مكنه من مقابلة المجتمع العالمي بدون مركَّب نقص، وهذا يمكن أن يفهمه كل من دَرَسَ إقبالاً بشكل وافٍ.

هذا على مستوى الفرد، ويكمن فهم الانتقال على مستوى المجتمع: بالمجتمع الياباني، فالمجتمع الياباني كان مثل المجتمعات الشرقية محل احتقار من أصحاب الأناقة، إلى أن استطاع الوصول إلى مستوى إثبات الذات، والوقوف بثقل مماثل أو أشد، أمام الآخرين.

ذكر شكيب أرسلان - رحمه الله - في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) أن أحد زعماء اليابان قال له ما معناه: « إن العالم ظل يحتقرنا، لا يبالي بنا، إلى أن تعلَّمنا كيف نقاتل، فلما هاجمتنا الروس متحدين القوانين كلها، أفنينا منهم الفيالق، عندها بدأ العالم يحترمنا، وأنتم أيها الشرقيون.. ستظلون كذلك حتى تفوقوا العالم الآخر ».

هذه النصيحة تبين كيف يمكن لمجتمع محلي أن يتجاوز ضغط المجتمع العالمي،بصرف النظر عن الحكم الأخلاقي لهذا التجاوز، كما سبق في البحث والاستشهاد بقوله تعالى: (يُحبونهم كَحُب الله).

ولاشك في أن اجتياز عقبة المجتمع العالمي يحتاج إلى إحاطة بأرقى ما وصل إليه نمو الضمير العالمي وذكائه، أي: في أخلاقه وعلمه، وليس المراد معرفة ما وصل إليه فقط، لأن هذا لا يكفي زاداً من أجل التمكين في اجتياز العقبة، بل لابد من تحصيلٍ أعلى وتطلعٍ أسمى، يمكن معه كشف النقص والاستدراك الذي يبين بوضوح حاجة العالم إلى هذا الفهم الجديد.

وهذا الفهم نوع من عالم الشهادة يقتضيه التمكن من تجاوز ضغط المجتمع العالمي، وعالم الشهادة هو الذي يرجع البريق الذي تمت إليه الإشارة سابقاً، وبيان أهمية عالم الشهادة هو ما نسعى إليه، حث أن المسلم يحصر اهتمامه كله بالإيمان بعالم الغيب، وبترسيخ هذا الجانب فقط والتأكيد عليه، والاكتفاء به، وعدم المبالاة بأهمية أثر عالم الشهادة.

واحترام المبدأ من قبل الآخرين يرجع دائماً إلى ما يتضمنه عنصر عالم الشهادة في الإيمان بالغيب، لهذا يؤكد القرآن دائماً أن عالم الشهادة (آيات الآفاق والأنفس) سوف يشهد لهذا القرآن في المستقبل: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فصلت - 53.

بينما الإيمان بالغيب المفتقر إلى عالم الشهادة لا يجلب احترام الآخرين وإعجابهم، وإن جلب شيئاً فإنما يجلب التعجب من شدة الإيمان، وهذا النوع من الإيمان يمكن أن يكون حتى عند الوثنين.

وأرجو من المسلم أن لا يتعجل، وأن لا يرجع إلى يأسه، إن لم يبن له كل شيء في سطرين أو كتابين، ولعل وجود بعض الخبرة عندي بمرضه يساعدني على عدم اليأس من شفائه، وهذا ما يحميني من التعجل في اتهامه تهمة تجعلني امرؤاً فيه جاهلية، فأعيره بما لا يجوز لي أن أعيره فيه، وإن كنت سوف لا أكف عن تذكيره بتقصيره وببعض نظراته الخاطئة، التي يكون سكوتي عنها بغضاً له، لا حباً به، وستراً عليه كما يظنّ البعض ويريدون مني..

ولكن هذا التمسك الناشئ عن الإيمان بالغيب فقط يستطيع صاحبه أن ينقذ به نفسه، أما أن يؤثر على الآخرين فها مما ليس في الإمكان عمله، إذ أن الإيمان يبدأ بإنقاذ الذات، وينتهي بإنقاذ المجتمع، وإن الإيمان الذي يقتصر على المرحلة الأولى يكون إيماناً سلبياً.

والفرد الذي يمكنه أن يشرح كيفية انتقاله من إيمانه من إيمان بعالم الغيب، إلى إيمان مدعوم بعالم الشهادة بوضوح، يكون قد قام بخدمة كبرى.

ومثل هذا الفرد الذي يتذكر هذه المراحل، يمكنه أن يتصور إمكان وجود مراحل أخرى أيضاً، وإن لم يصل إليها بعد، كما يمكن أن يتصور إمكان اجتيازها، وكما يمكن أن يتصور الزاد المعين الذي يحتاج إليه للاجتياز، لأن لكل مرحلة زاداً خاصاً معيناً بها، وكما يمكن للفرد أن يتذكر المراحل لموضوع معين، ويتصور له المراحل التي لم تأتِ بعد.. كذلك يمكنه أن ينقل ما حدث لهذا الموضوع إلى موضوعات أخرى: من الجلباب في الأسرة وفي المجتمع المحلي الخاص، وفي المجتمع العالمي العام، وكذلك: الصلاة، والدعوة إلى الإسلام.. إلى تحمل السجن، والعذاب.. إلى القدرة على رفض تعذيب المسلمين.. إلى عدم كتمان الإسلام، إلى عدم شنق المسلمين.. الخ.

ثم إنه لا يمكن لأحد أن يجتاز مرحلة من المراحل إلا بتحصيل الطاقة المكافئة لتلك المرحلة لإمكان اجتيازها، فكما يمكن أن يستمر كل جهاز في سيره إلى أن يستنفذ القوة الدافعة، ثم يقف، كذلك الإنسان الفرد يستطيع أن يستمر في السير إلى أن يصل إلى مرحلة معينة فوق طاقته، فعندها يقف (هذا ما نلاحظه في كثير من الذين يقبلون على الإسلام أو المبدأ بحماسة ، ثم نجدهم في مرحلة ما قد فقدوا كل شيء). إذ لكل إنسان في علاقته بمثله الأعلى شبكةُ علاقات كمية وكيفية، فحسب تمام شبكة العلاقات كماً وكيفاً، يستطيع بها الفرد أن يستمر في تعلقه بالمثل الأعلى، فكلما قلت الشبكات أو تقطعت، وكلما كانت الشبكات منحطة في الكيف، بالية، لا طاقة لها في التحمل، لا يمكن لصاحبها أن يجتاز بها إلا مراحل معينة، أو يؤدي به الأمر في النهاية إلى التبرؤ من هذا النسيج البالي كله، ومن ثم يتوجه وجهة أخرى.

فإذا كانت الأخوات يذكرن كيف تغلبن على بعض الموضوعات. واستطعن أن يلزمن المثل الأعلى فيها، ويتذكرن المراحل التي مَرَرْن بها، وكيف حصلن على الطاقة التي ساعدتهنَّ في فرض الاحترام والإعجاب دون مجرد الانسحاب من المجتمع، بل والسير لغزو المجتمع، فإذا استطعن إدراك ذلك، أو استرجاع فهمه، فهذه التجربة التي نظنها صغيرة، ما هي إلا رصيد كبير، لإمكان إدراك السنة في مشكلة المسلمين، وتطبيق السنة في حلها، ففي مستوى الأسرة مثلاً ينبغي للمرء أن يجتاز معارضة الأسرة، ويفرض احترامه عليها، وفي مستوى المجتمع العالمي ينبغي له هذا أيضاً، وهذا لا يتم بمنطق السهولة، وإنما يقتضي من الفرد ذكاء وإخلاصاً كبيرين، حيث يبدأ في طريق صعب، لا يتمكن من السير عليه إلا بإيمان بالغيب مدعوم بعالم الشهادة (آيات الآفاق والأنفس).

فالفرد الذي يدخل في هذا الموضوع، ويكشف الصواب فيه قد يعارض في أول الأمر، ويجد أن المعارضة تأخذ أشكالاً مختلفة من إهماله ثم الرثاء له لسخافة فكرته واتجاهه، ثم السخرية منه، ثم الضغط عليه بصور مختلفة.. الخ.. إلى أن يبلغ في النهاية إلى تقدير المجتمع واحترامه له.. ولو بعد وفاته.

يقال: إن أول من حمل المظلة (الشمسية) سخر منه في أول الأمر، ثم إن حاجة الناس إليها جعلتهم يقبلونها ويستخدمونها. وعلى قدر ما يثبت المرء صحَّة وجهة نظره في معالجة مشكلات المجتمع والإنسان الذي يعيش فيه بقدر ما يكون ثباته راسخاً أو مهلهلاً. فالفرد الذي يكشف سخف ما عليه المجتمع، والنظرات الخاطئة التي تجرّ على البشر الذين ينتمون إليه مختلف المصائب هو الذي يستطيع أن يحتفظ بالتوازن أمام المجتمع، وأن يهدي المجتمع.