من أي شيء تتكون الإرادة
من Jawdat Said
2- من أي شيء تتكون الإرادة؟
ممّ تتكوّن الإرادة؟ ومم تنشأ؟ وبتعبير آخر: إذا كان العمل يتولد من زوجين هما الإرادة والقدرة، فمن أي زوجين تتولد الإرادة يا ترى؟
إذا كان الله قد خلق من كل شيء زوجين، فإننا نستطيع القول: إن الإرادة تتولد من زوجين أيضاً، وهما: المثل الأعلى وعقل الإنسان أو جهاز تمييزه. فإذا التقى المثل الأعلى بجهاز التمييز مع استيفاء شروطه وانتفاء موانعه، تولدت الإرادة بإذن الله تعالى، كما يتولد من كل زوجين - عند توفر الشروط وانتفاء الموانع - مولود جديد؛ وبهذا وحده أمكن استمرار الحياة، فهذا الاستعداد لإنجاب مولود جديد عند وجود الزوجين الوالدين، هو الذي يجعل الحياة مستمرة؛ وكذلك الاستعداد الموجود في فطرة الإنسان للتلاقح مع المثل الأعلى، ينجب الإرادة عند الإنسان.
وبهذا نكون قد عرضنا الإرادة: تعريفها، كيف تتولد؟ ومن أي شيء تتولد؟
(من شروط لمثل الأعلى: وضوحه وإبرازه بجلاء لإخفاء فيه؛ إذ ليس كل من عرض المثل الأعلى، استطاع أن يوضحه.
وموانعه: كل ما يقف أمام العقل من الموانع التي تخرجه عن الفطرة أو تحول بينه وبين التفكير.
ويمكن أن تتفرع الشروط والموانع إلى فروع كثيرة، وهي التي تمنع من حصول المولود - بالرغم من وجود الزوجين - بسبب من موانع ترجع لأحد الزوجين أو كليهما، وعلينا أن نتذكر أن هذه الموانع قابلة للمعالجة والشفاء من حيث الأصل لقوله (ص): (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء). رواه البخاري في كتاب الطب.
ومن الملاحظ أن الإنسان إذا خفيت عليه الأمور، فقد يختار مثلاً أعلى سيئاً لجهله أو لاتباعه هواه؛ وعلينا أن نزيل جهله بالعلم، وهواه بإبراز الرشد؛ وهذا واجب الأنبياء والمصلحين والآمرين بالقسط من الناس. وإن الذين يتبعون أهواءهم، م الذين يعارضون المصلحين، ولذلك فإن السعي لإزالة الجهل هو معركة الحياة وموطن ابتلاء الإنسان.
فإذا حصل البلاغ المبين بعدم كتمان العلم، زال الجهل وحينئذ سيشع الحق ﴿بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون﴾ (سورة الأنبياء: الآية 24).
وهناك أمر آخر.. هو أنه كلما زاد وضوح المثل الأعلى قويت الإرادة، وكلما عرف الإنسان كيفية تحقيقه في حياة الناس زاد إيمانه وتعلقه به، وكلما علم أركان المثل الأعلى الحق أبصر جزئياته أكثر؛ وكلما توضحت الأركان المحكمة من المثل الأعلى الحق، توضحت الأمور المشتبهة؛ كما هو الأمر بالنسبة للآيات المحكمات والآيات المتشابهات؛ وكما هو الأمر بالنسبة للأمور الدقيقة من العلم، فكلما عرف الإنسان القواعد الأساسية زادت قدرته على تطبيقاته الجزئية.
عرفنا كيف تنشأ الإرادة، وعرفنا أبويها، وعرفنا أنها بدورها تشكل زوجاً يساهم في مولود جديد ألا وهو العمل الصالح.. ومع هذا علينا أن نلقي أضواء أكثر على مشكلة الإرادة لأننا نريد إيجاد العمل الإسلامي الصالح، وهو لا يتولد إلا من الإرادة الصالحة؛ التي لا تتولد إلا إذا برز المثل الأعلى الحق بوضوح وجلاء أمام العقل الإنساني. وكلما كان العقل على الفطرة - أي قبل أن تطرأ عليه عوامل الإفساد - كان النجاح أمثل وأكبر. ومهما أفسدت الفطر، تبقى إمكانية الإصلاح موجدة؛ وربما يعرض لكثير من الناس اليأس حين يرون في ظروف معينة إعراض الناس عن الحق، وانتقال هذا الإعراض إلى صغارهم كما قال نوح عليه السلام: ﴿ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً﴾ (سورة نوح: الآية 27)؛ وسأعود إن شاء الله لبحث هذه النقطة في بحث القدرة. إلا أنه لابد من توضيح الشبهة في دعوة نوح عليه السلام.
إن نوحاً عليه السلام لما قال: ﴿ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً﴾ (سورة نوح: الآية 27): لم يقصد أن الأطفال يولدون فجرة كفرة؛ لأن هذا مخالف لسنة الله الواردة في الحديث الصحيح: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) (صحيح مسلم - باب القدر) وإنما كان قصده أن عوامل التربية المحيطة بهؤلاء الأطفال ستشوه فطرهم وتبعدهم عن اتباع الحق.
وبما أن قصة نوح عليه السلام تذكر دائماً لتبرير عدم نجاح الدعوة التي استوفت الشروط، علينا أن نذكر أن الشروط التي ترجع إلى الفرد غير الشروط التي ترجع إلى المجتمع وقد شرحت هذه الفكرة في كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) عندما بينتُ أن الآية تدل على المسؤولية الدنيوية لا على المسؤولية الأخروية، وعندما بينت أن الآية أيضاً تدل على التغيير الاجتماعي لا على التغيير الفردي.. لهذا فإن عدم نجاح نوح عليه السلام، لا ينبغي أن يطرح حجة لعدم نجاح الأعمال الإسلامية التي توفرت لها القدرة والإرادة؛ أي لا يجوز استخدام القصة مبرراً لفشلنا. ونقول:
1- إن نوحاً عليه السلام نجح على سنن قدرات عصور الأنبياء السابقين، فقد أغرق الله بالطوفان كل الكافرين وأنجى المؤمنين في الفلك المشحون، وهذا هو النجاح المبين، وقد جعله الله آية للعالمين.
2- إن القدرات تتفاوت حسب العصور والأزمان..
3- إن استعراض قصص الأنبياء، يدل على ظاهرة واضحة هي: أن الله تعالى قبل بعثة محمد (ص) كان يهلك أعداءه بالآفات.
﴿فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا.. وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ (سورة العنكبوت: الآية 40)
إلا أن أسلوب انتصار محمد (ص) على قومه لم يكن بمثل هذه الأساليب، وإنما كان قضاءً من رسول الله (ص) على أعدائه بسنن طبيعية بشرية بأيدي المؤمنين:
﴿ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض﴾ (سورة محمد: الآية 4).
وهذا حدث جديد ودليل آخر على تطور مسألة النبوة إلى مستوى آخر. فالنبي محمد (ص) والذين اتبعوه أقاموا المجتمع الجديد بالجهود العادية للبشر العاديين، وهذه ملحوظة هامة يزيل استحضارها كثيراً من العقبات. وإنه (ص) من أجل هذا صار رسولاً إلى الناس كافة، وكان خاتم النبيين حتى لا يكون للناس على الله حجة بعده، وحتى لا يقول قائل: كيف ننتصر على خصومنا ولم يعطنا الله ما أعطى الأنبياء السابقين من التأييد بالمعجزات؟ !!
ونحن مطالبون باتباع منهج رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهو خاص به لأنه من خصوصيات ختم النبوة التي تميز بها وحده.
ويظهر هذا الأمر - وهو النصرة - في مستوى الجماعة أكثر مما يظهر في مستوى الفرد، لهذا كان القرآن يخاطب رسول الله (ص) فيقول:
﴿فإما نرينَّك بعض الذي نعدهم، أو نتوفينَّك﴾ (سورة غافر: الآية 77).
فكان من الاحتمال أن يرى الرسول نهاية أعدائه أو لا يرى؛ ولكن: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم، وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً﴾ (سورة النور: الآية 55). وهذا الوعد للمجتمع وليس للفرد.
وإن الذين يبررون نتيجة أعمالهم الفاشلة بالاستشهاد بقصة نوح عليه السلام مع قومه، يريدون أن يثبتوا بذلك الخطأ الشائع الذي يقول: (عليَّ أن أسعى، وليس عليَّ أن أدرك النجاح). فهمها اختلفت الحجج والعبارات، فالمشكلة تكمن في الدفاع عن الذات، والإعراض عن بحث أسباب أزمان المشاكل. ليس المهم أن نحل عند مسلم اليوم شبهاته في دعوة نوح، ولكن المهم أن يحدث للمسلم نظر سليم للمشكلات، وهذا لب الموضوع. والاستشهاد بقصة نوح عليه السلام لا يثبت الدعوة التي نريد نقضها: علينا أن نسعى وليس علينا إدراك النجاح.
إن هدفي ليس حل الاشكلات في بعض الأمثلة والشبهات وإنما تغيير نظر المسلم إلى الأمور، وسأحاول إزالة عقبة من العقبات التي تجعل المسلم مرتاح الضمير حين يرى إخفاق الحركات الإسلامية. إن المسلم اليوم لا يبذل جهداً ليرى جانب الخطأ الذي وقع فيه مفكرو المسلمين، بل - مع الأسف - يعتقد أن هؤلاء المفكرين والعاملين قد توضحت لهم كل شروط النجاح ومارسوها، إلا أنهم لم ينجحوا، ولا ضير إذ: (علينا أن نسعى وليس علينا إدراك النجاح) وأن الأمر ليس بيدهم وإنما هو بيد القدر الأعلى..!!
هل عرفت أيها القارئ الكريم، لماذا أطيل البحث وأطارد المشكلات في جحورها؟ كل ذلك، لنخرج العوامل المعطلة للحركة الإسلامية.. وإن مثل هذه المسلَّمات تسد آفاق المسلم، بل هي آصار وأغلال عليه، وتحول بينه وبين مراجعة النفس. مراجعة النفس: هي التوبة بالمعنى الشرعي.
وإن اعتقاد المسلمين بأن النجاح ليس نتيجة حتمية للسعي الصالح، هو من أشد المعوّقات التي تمنع المسلمين مراجعة أعمالهم ونقدها لأنهم لا يفرضون فيها الخطأ، بل يفرضون أنها كانت صائبة، ولكن لم تأت النتيجة المطلوبة لأمر أراده الله. إن مواجهة هذه النقطة أمر جوهري لتحويل نظر المسلم في رؤية سبب الإخفاق. كما أن هذا النظر الخاطئ يمنع الشباب من السعي لتحويل أشخاصهم إلى الكفاءات التي يحتاج إليها المسلمون والمجتمع الإنساني؛ وكلما تأخر إدراكهم لذلك، تأخر توفر الكفاءات اللازمة لتحقيق التغيير.
ومهما شرحت الموضوع أو طاردته، فإنني لا أشعر أن عندي الإحاطة الكاملة لإبراز المشكلة بما ينبغي أن يكون عليه البحث، ولكن إلقاء بعض الأضواء تعين على إدخال الشك في نفس القارئ وإخراجه من برد اليقين إلى قلق الشك لأنه يشعر وهو في برد اليقين أنه لم يقصر، بل سنن الله قد أخلفت الوعد. وأريد أن أشكك في هذه المسلمة حتى يتحول الشك إلى يقين، بأن سبب تخلف المسلمين يرجع إلى سعي خاطئ أو ناقص على الأقل، أدى إلى تخلف النتائج؛ ولا يرجع إلى سعي صحيح تخلفت عنه النتائج.
لهذا على الإنسان أن يرجع إلى نفسه ليصحّح عمله، لا أن يقعد ويقول: عملي صالح، ولا يشترط أن ينتج من العمل الصالح النجاح.
إن هذا الكلام يمكن أن يكون صادقاً في مستوى الفرد، إذ لا يشترط لكل فرد أن يصل إلى نتائج النجاح في الدنيا؛ وه غير صحيح قطعاً على مستوى المجتمع، بل إن منشأ الخطأ والضلال أن نطبق هذه الفكرة على المجتمع، إذ أن نجاح الفرد في الدنيا مرتبط بسعيه وبمقدار ما يقدمه مجتمعه إليه من عون وضمانات. ويمكن أن نرى هذا في مستوى الرسول (ص) كفرد حيث يقول الله له:
﴿فإما نرينَّك بعض الذي نعدهم، أو نتوفينَّك …﴾ (سورة غافر: الآية 77).
فلا يشترط أن يرى الرسول (ص) النتائج كفرد، ذلك أن نجاح الفكرة إنما يتم على مستوى المجمع، وهذا واضح في قوله (ص) لعدي بن حاتم:
(… فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله … ولئن طالت بك حياة لتُفتحنَ كنوز كسرى.. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه … قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم (ص) يُخرجُ ملء كفه …).
ينبغي أن نطمئن كل الاطمئنان وبالوضوح الكامل إلى ضرورة إزالة اللبس والغموض الذي يحيط بفكرة ﴿هو من عند أنفسكم﴾ (سورة آل عمران: الآية 165). وعلينا أن نحدد مكان النقص عند المسلمين، وأن تكون عندنا مقاييس دقيقة حتى نبيّن موطن النقص الذي يرجع إلينا، ونحدده بدقة تحديد المجهر للجراثيم التي تختبئ في أعماقنا.
وما يزعجنا حقاً أن المسلم اليوم مقتنع بأنه لا تقصير سواء لدى المسلمين أو الحركات الإسلامية، وأن ما يلحق المسلمين من الفشل يرجع إلى أمر خارجي: إنه من قدر الله، أو من الاستعمار أو من أذنابه... وهو لا يرضى مطلقاً أن يعتبر التقصير راجعاً إلى نظر المسلمين إلى المشكلة.
إن نظر المسلمين الخاطئ قد اكتسب قداسة تتحدى القرآن، والسنن، بل تتحدى الله حين نفرض أننا مقصرين، بل يمكن أن يخلف الله وعده فلا يعطينا النجاح. ومن المخزي أننا يكن أن نفرض كل شيء للدفاع عن أخطائنا ونبحث عن كبش الفداء في كل مكان دون أن ينبض فينا عرق، أو تختلج فينا عضلة، ولكن إذا حاول أحد أن يقول:
إن فشلنا هو من جهلنا بمعرفة الطريق، وهو من تنكّب أهل الحل والعقد للصراط المستقيم، أو ﴿هو من عند أنفسكم﴾ (سورة آل عمران: الآية 165)، هنا فقط تنتفخ أوداجنا، وتتوتر عضلاتنا، ويا غارة الله … لمن؟ لهذا المخرّب الذي يسير بأصابع الاتهام حين يفرض عدم الفهم، وحين يفرض الخطأ في الحركات الإسلامية نفسها.
إن هذا الصمت المطبق الذي يخنق الأنفس، في عدم مراجعة المسلمين لذاتهم هو نتيجة لهذه الفرضيات الطفولية.
إن مثل هذه المواقف التي يقفها المسلم في الدفاع عن ذاته كأي طفل لم يبلغ الرشد، حين يصف أخطاءه بأنها حدثت بنفسها، ولا دخل له فيها … إن هذه المواقف المظلمة التي يتستر بها المسلم ينبغي أن نسلط عليها بعض الأضواء ليتمكن من أن يبصر نفسه وما حوله، فيخجل من التفسيرات العنكبوتية التي يحمي بها نفسه، لأن أحداً لم يستخدم أداة فيها قوة تهدم هذا البيت الواهن الذي يحتمي به مسلم اليوم وهو غارق في أحلامه. ومن هنا نعلم:
مدى وهن الوسائل التي يريد المسلمون أن يصلحوا بها أنفسهم.
هناك أمثلة واضحة فاضحة للموضوع الذي يحيط به غموض مطبق. وإن الحذق كل الحذق أن نعرف كيف نقرب الغامض؟ وكيف نضيء الأسباب المظلمة بأضواء المعرفة؟ .
فإننا مثلاً نضحك من النعامة حين تدفن رأسها وتقع في الفخ من جراء تصرفها الغبي؟ ولكن هل لدينا القدرة أن نرى النماذج الرفيعة من رجال العالم الإسلامي يقعون في مثل هذا الخطأ حين يدفنون عقولهم، ويبرزون عواطفهم. كما يمكن أن نرى هذا في مَثَلِ المؤذن الذي تأخر في إقامة صلاة الفجر حتى كادت الشمس تشرق. قال بعضهم: إن ساعتك متأخرة، ولقد أخرتنا؟ !! فأجاب بكل بساطة: إن ساعتي صحيحة، ولكن الشمس أسرعت في الشروق!.
وحتى أن مثل هذا الخطأ يقع في مستوى حركة الحضارة، ففي عهد الإصلاح في الغرب لما نشر فيساليوس (1541م) طبعة جديدة من النص اليوناني لجالينوس، أدهشته أخطاء بدرت عن جالينوس وكانت خليفة بأن يدحضها أبسط تشريح لجسم الإنسان … ص.
قال ديويوا: (إن جالينوس لم يخطئ ولكن جسم الإنسان عراه تغير من عهد جالينوس..).
إن مثلاً كهذا يدل على بساطة هذا الرجل الطيب، ومحاولته للدفاع عن ذاته وما يتصل بها من ساعته. إن تغيير نظام الكون وارد وحدوث المعجزات التاريخية ممكن.. لكن هناك شيئاً آخر غير ممكن ألا وهو أن تكون ساعتنا متأخرة!! أو أن يكون جالينوس قد أخطأ. (انظر: قصة الحضارة، جـ27، ص 154).
إلا أن إمكانية رؤية تبريرات المسلمين لمواقفهم إزاء المشكلات ليست في مثل هذا الوضوح. وقد تكون بعض المواقف بالوضوح نفسه، ولكن المشكلة ليست في أن تكون واضحة، بل أن تكون واضحة لنا؛ فكم من خطأ نقع فيه من غير أن نشعر، فيحول بيننا وبين اهتدائنا إلى الحق في حل مشكلاتنا..
وكما نكشف بعض الأخطاء، أو الغموض في بعض مواقف من سبقونا، فلا يضيرنا أن يكشف من يأتي بعدنا جوانب القصور في فهمنا للأمور، بل إن هذا الكشف من اللاحق يشرف السابق أيضاً، لأن السابق كان سبباً في دلالة اللاحق على الاهتداء إلى الصواب بوجه من الوجوه إن لم يكن بكل الوجوه، بل يكون من سعادتنا أن يتوضح النقص والغموض عندنا، فيتلافاه من يأتي بعدنا، ولا يتناوله للتشفي منا، وإنما لمساعدة من بعدنا وبعده، وليخفف عنه بعض الأثقال التي نحملها، أو ليزيل بعض الغموض الذي يجعل سعينا ناقصاً، وهذا هو معنى الدعاء المأثور
(اللهم اغفر لي ما أخطأت وما تعمدت وما أسررت وما أعلنت وما جهلت وما تعمدت).
ولا ننزه أنفسنا عن الوقوع في رؤية الحق خطأً أو عمداً ولكن نرجو أن يكون هذا الفهم سبباً في تقليل الحواجز التي تحول دون مراجعتنا لعواقب أعمالنا، وفي تنكبنا عن الحق خطأً أو عمداً.
وانطلاقاً من هذا المفهوم أرجو أن أوفق إلى إضافة بعض الوضوح أو التقدم خطوة أخرى في الخطوات التي خطاها إلى الأفق الوضاح الذي تقدم إليه الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الذي يحلل فيه نكبة حزيران: (درس النكبة الثانية … لماذا انهزمنا … وكيف ننتصر؟ ).
ففي تحليله للنكبة يصل إلى نقطة متحارجة حين يتساءل: هل السبب في القادة أم في الشعب؟ وذلك بعد أن تحدث عن المناخ السياسي، وعن صلاح الدين المرتقب.. ثم وضع المؤلف العنوان الآتي: (مسؤولية الفكر). وفي الواقع إنني طربت لهذا العنوان كما يطرب أي إنسان يعثر على بحث في الموضوع الذي يهمه، فكان مما قال: (طريق الخلاص الجهاد، والجهاد يقتضي التغيير والتعبئة، وهما يحتاجان إلى القيادة المؤمن، والقيادة لا تظهر إلا في أمة تستحقها، فكيف التخلص من هذا الدور؟ الأمة تحتاج إلى قيادة، والقيادة إلى أمة). ويتابع الموضوع بعقله الأصولي فيقول: (والحق انه لا دور، ولا تناقض، فظهور القائد المنشود والحاكم المرتقب يحتاج إلى أرض حرة يرتكز عليها، وإلى كتلة قوية تشد أزره، وإلى تيار فكري ينادي به ويشعر الأمة بضرورة وجوده).
(وهنا تبرز مسؤولية الفكر ورجال الفكر، ودورهم في إعداد الأمة وتعبئتها وتهيئتها للمرحلة الحاسمة)(3).
الحق أنني شعرت هنا بنشوة الظفر، والخروج من الدور والتسلسل، وأنه قادنا إلى المخرج من التيه، وما وصل إليه أعتبره إضافة جديدة إلى الفكر الإسلامي المعاصر لا نجده بمثل هذا الوضوح عند مؤلف آخر، هذه الإضافة لها أهميتها البالغة، وذلك أننا تجاوزنا في سعينا في تحليل المشكلات من إلقاء اللوم على القادة وعل الشعب، إلى إلقاء اللوم على الفكر ورجال الفكر.
أجل إنه تقدمٌ عن الأسلوب المتعارف عليه في تحليل القضية، له قيمته، ولا يقدّره من لم يعانِ التقدم وصعوبته، وأهمية الإضافة الجديدة مهما كانت ضئيلة. وأرى هنا أن هذه الإضافة ليست ضئيلة، بل هي مرصد جديد لكشف آفاق جديدة، ومجال جديد لتحرك أهل الحركة..
ثم بدأ في شرح الفكر الذي ننشده: (بأنه الفكر الحر الأصيل الشجاع الواقعي)، ثم الأوصاف بأنه (الفكر الحق) واهتم أكثر بصفة (الحر)، واعتبر آية الفكر الحر الأصالة. والأصالة: أن تنبع من أمتنا، كما لم ينس أن يحترز مما يمكن أن يفهم من الأصالة فبيّن بأن هذا ليس دعوة (إلى إغلاق النوافذ الفكرية بيننا وبين العالم من حولنا، ودون أن نفقد أصالتنا، وأن لا يهولنا ضخامة الأصنام وهالات التقديس والسدنة).
إن هذا الكلام جيد، ولكن سأتقدم به خطوة أخرى إلى الأمام - في أرض بكر على الأقل بالنسبة لجونا الخاص - ومع اعترافي بفضل خطوته السابقة التي ساعدتني على الخطوة التالية، فلا أريد أن أحمله تبعة هذه الخطوة، لأنه يمكن أن يقال بكل وضوح: إن هذا المعنى الجديد ليس في كلامه الصريح؛ وأنا كذلك لا أقول: إن هذه الخطوة ليست في ذهن المؤلف الحيف، وإن كنت لا أعلم بالدقة العوامل التي جعلته لا يتابع الخطوات، واترك بيان ذلك للذين سيخطون الخطوات التي تلي خطوات وقفنا عندها.. والخطوة التي أريد إضافتها هي أن نتساءل:
إذا كانت المسؤولية هنا مسؤولية الفكر ورجال الفكر، فكيف يكون حل المشكلة؟ .
جواب هذا السؤال هو ما يقع على عاتق رجال الفكر إن كان عندنا رجال فكر، وعلى عاتق من يهيئون أنفسهم ليكونوا رجال فكر إن كان هناك من يتطلّع إلى ذلك.
في الواقع، إننا نفتقد رجال الفكر والمتطلعين إلى أن يكونوا رجال فكر، أو إنهم من الضآلة بحيث لا يشكلون تياراً فكرياً يتأثر به قطاع عريض من الناس؛ بل إننا نفتقد الذين يعملون كيف يبح الرجل رجل فكر؟
وهذا الاعتراف هو المرحلة الثانية إذا اعتبرنا الاهتداء إلى تحميل المسؤولية لرجال الفكر مرحلة أولى.
ولكن بعد أن وقف القارئ عند الكلمات الطيبة التي نقلناها، يمكن أن يحمل مسؤولية رجال الفكر لأقوام مجهولين، أو لخصوم تابعين للفكر غير الأصيل، وقد لا يفهم أن حديثه عن مشكلة المسلم والمفر المسلم ومسؤوليته!! وكأن المفكر المسلم قد أدى دوره، وكأن هناك آخرين غير لا يؤدون دورهم.. إن المشكلة ليست في المفكر غير المسلم، بل في المفكر المسلم بالذات، وهذا التعيين والتوضيح هو الخطوة الأخرى التي أتحمل تبعتها وحدي، وإذا أضيف هذا المفهوم إلى المعنى السابق الذي نقلناه فلا يتيسر للقارئ أن يمر دون أن يحس بأزمة وبخطورة، ودون أن يشعر بأن الأرض بدأت تهتز من تحته وتتزلزل.
إنني لست هاوياً أن أصدم الشباب المسلم في الفكر الإسلامي المعاصر، ولكن لا أرضى أيضاً أن نصنع لهذا الفكر سدنة نحيطهم بهالة القداسة.
ومع ما لهذا الفكر من فضل فيما بثه من انتعاش في أبناء الجيل، فإنه لم يخرجهم من التيه الذي يضيعون فيه، ولهذا لا أريد أن يعطى هذا الفكر من التقدير أكثر مما يستحق، حتى لا يكون ذلك سبباً للعطالة وإيقاف التقدم.
وإن رجال الفكر أو الذين يتبوءون هذه المكانة، لا يوحون إلى قرائهم بأن ما حصلوه ليس كل شيء، وإن على الأجيال التي تقرأ لهم أن يكملوا كشف الطريق وتوضيحها.
كان علماء السلف يقولون: (لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا). ومع ذلك فقد ذهبت هذه الوصايا أدراج الرياح، لأن التيار المضاد كان أقوى. ولهذا ترك العالم الإسلامي اتباع مثل هذه الوصية، وقلدوا مالكاً بل من هم دون مالك.
ولكن من المؤسف أن الذين يشغلون مكان رجال الفكر والعلم في هذا العصر، لم يقدروا أن يتفوّهوا بهذه النصيحة التقليدية التي أطلقها السلف، فكيف يكون حالنا في مثل هذا الجو العقيم، غير القحط العام!؟
إننا لا نعرف حتى الآن معنىً لآيات الآفاق والأنفس، ولا نعرف أنها هي التي ستدل على صحة آيات الكتاب، ولا أنها مصدر من مصادر المعرفة الحقة، فهل قادة الفكر في العالم الإسلامي يعتمدون آيات الآفاق والأنفس في بيان صدق آيات الكتاب؟ .
أليس كل قادة الفكر في آيات الآفاق والأنفس من غير العالم الإسلامي في العصر الحاضر؟ ومبلغ علم من يُعتبر من رجال الفكر في العالم الإسلامي أن يستشهد بأقوالهم.
ولهذا يجب أن نعرف مبلغ جهلنا، وألا نخفي هذا عن الجيل الذي يأتي بعدنا، ليعلم أن واقعنا نتيجة لعملنا؛ فإن كان لا يرضيه هذا الواقع فلينظر إلى علم أحسن، فإن ما عندنا من علم لم يعط إلا ما رأى.
إن بروز مسؤولية قادة الفكر كعنوان في بحث لتحليل عوامل حدث تاريخي كبير، إنما هو إنعاش للبذرة الأصلية التي احتوت عليها الثقافة الإسلامية وهي: أن صلاح الأمة في طائفتين من الناس: العلماء والأمراء، أي في قادة الفكر، وقادة السياسة.
إن وضع عنوان (مسؤولية قادة الفكر) إعادة الحياة لمسؤولية العلماء ومكانتهم بين الشعب وقادته. وهذه الوظيفة التي أصابتها ظواهر الإهمال، والتي كفّ المسلمون عن التنافس في تأهيل أنفسهم لأدائها، قد جعلتنا نرى القذى في أعين الناس، ونعجز عن رؤية الجذع في عيوننا، إنه أوان ذهاب العلم الذي ينتج عنه توزيع اللوم مجاناً على كل أحد، خلافاً لأمر رسولنا (ص) عن ربه:
(يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه).
ونحن عندنا استعداد أن نبحث عمن نلومه، ولو بادعاء أن الشمس غيرت مجراها حتى لا يتوجه اللوم إلى شيء يتصل بنا، فضلاً عن أن نتمكن من لوم أنفسنا.
إن لوم النفس هو التوبة - وهو النقد الذاتي في المصطلح الحديث - ومن لا يقدر على لوم نفسه، لا يقدر أن يتوب. ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ (سورة الأعراف: الآية 23). ومن لا يقدر أن يتوب لا يمكنه أن يصحح سلوكه، فلهذا لا تستقيم أمورنا.
إننا نُبصر أخطاء غيرنا، ونزحلق أبصارنا عن خطئنا … كأن قادة الفكر من المسلمين قاموا بما عليهم من فهم وتفهيم، ولكن الأمور لم تستقم مع ذلك!!ا
إن واجب الفهم والتفهيم والتحليل والتوضيح لجذور المشكلات، إما يقع على قادة الفكر، فهم الذين عليهم أن يعرفوا علاج الشعب وقادته.
ولكن ساعتنا صحيحة، وإنما الذي تخلف الجهد السياسي، والمسؤولون عنه غيرنا، وبذلك صرنا في أمان وبراءة وشعور بعدم المسؤولية، فهذا الذي يجعلنا نوزع اللوم!!
إننا في العالم الإسلامي لم ندخل بعد عالم الأفكار ولا نزال نعيش في عالم الأشياء والأشخاص. إن قيمة الفكر وقادة الفكر، لا تزال في المكان الذي كان أبو تمام وضعهم فيه منذ زمان طويل حين قال: السيف أصدق أنباء من الكتب (وحين قاله أبو تمام، كان يقصد بالكتب أقوال المنجمين، أما الذين يستشهدون به فيقصدون تفضيل القوة على الفكر والعلم) إن فكرنا مازال يسيطر عليه ما توحي به كلمة (عنترة) حين تذكر في الأدب الشعبي.
ولا يسعني هنا إلا أن أقتطف بكثير من الاغتباط فقرة من مقال مطوّل للأستاذ الدكتور محمد الطالبي بعنوان: (التاريخ ومشكلات اليوم والغد). (ولعل فشل سياستنا اليوم، وسلبيتها في كثير من الأحيان يُعزيان إلى انعدام المختصين في صفوفنا في شؤون الأمم التي تتعايش معها أو تتصادم. لقد سبق أن قلنا: إن التاريخ بقي أيضاً بالنسبة إلينا - لكن بمفهوم جديد - مدرسة لتخريج الإطارات السياسية، وليس معنى ذلك أن رجل السياسة ينبغي أن يكون مؤرخاً. إن التاريخ اختصاص يفني - كغيره من العلوم - الأعمار، ولا يترك المجال للاشتغال بما سواه، لكن يجب أن يجد القائد السياسي من بني جلده وحوله، من المؤرخين الأكفاء، ومن الدراسات التاريخية المتينة، ما ينير له السبل، ويمكنّه من إدراك الوضع بوضوح حتى يحسن الخطاب والتصرف ويحقق النجاح، لا لأنه كما توهم القدماء يستطيع أن يغترف حلولاً جاهزة من الماضي يطبقها على الحاضر - مما قد يؤدي إلى الكوارث الجسام - بل لأن الحكم على الشيء كما قال المنطقيون فرع عن تصوره. وفي التاريخ عون عظيم على التصور الصحيح؛ وإذا صحَّ ما قدمناه من مقدمات، فإنه يصح أيضاً أن نقول: إن إخفاق السياسة في معالجة شؤون اليوم؛ إنما هو إلى حد بعيد إخفاق الجامعة قبل كل شيء …). مجلة عالم الفكر - المجلد الخامس - العدد الأول - عام 1974 - مقالة للأستاذ الدكتور محمد الطالبي بعنوان التاريخ ومشاكل اليوم، ص 24.
وفي معرض أهمية الدراسة التاريخية في حل المشكلات، ضرب مثل مشكلة الوحدة العربية الإسلامية وقال فيها:
(إننا أخفقنا إلى اليوم في حل أهم قضية من قضايا عصرنا، لأننا لم نحس تصور كامل أبعداها، ولم نحسن ذلك التصوّر لأننا لم نحس التحليل التاريخي، ولم نمدّ رجال السياسة منا بما يضمن لمساعيهم التوفيق …).
إن هذا التصور للمشكلات، وهذا الحكم إزاءها يخالف الأسلوب الذي تعودنا عليه. عن حديثنا ينطلق - عادة - من أننا نعرف كل شيء، ولكن الخبثاء لا يطيعوننا … أما أن نقول: إن هؤلاء تنقصهم معرفة الطريق إلى حل المشكلة، ونحن لم نقدم لهم كيفية الحل، فهذا لا يخطر في بالنا.
وكذلك الأمر حين نقول: (إن إخفاق السياسة في معالجة شؤون اليوم، هو إخفاق الجامعة قبل كل شيء). أي: هو إخفاق الرجال المسؤولين عن الفكر، وهذا الإخفاق ناشئ من تزحلق في الرؤية. أقصد عدم رؤية أثر الفكر، أي عدم كشف آيات الآفاق والأنفس التي تدل على الحق بوضوح.
ومما يوضح الحوار الذي يدور داخل نفس المسلم حين يقف المفكر إزاء هذه المشكلات، ذلك المقال الذي كتبه سيد قطب رحمه الله بعنوان: (قوة الكلمة) أي: قوة الفكر. وقال فيه: (في بعض اللحظات، لحظات الكفاح المرير الذي كانت الأمة تزاوله في العهد الذي فات … كانت تراودني فكرة يائسة، وتلحّ عليّ إلحاحاً عنيفاً أسأل نفسي في هذه اللحظات: ما جدوى أن تكتب؟ ما قيمة هذه المقالات التي تزحم بها الصحف؟ أليس خيراً من هذا كله أن تحصل لك على مسدس وبضع طلقات، ثم تنطلق لتسوّي بهذه الطلقات حسابك مع الرؤوس الباغية الطاغية؟ ما جدوى أن تجلس إلى مكتب فتفرغ حنقك كله في كلمات وتصرف طاقتك كلها في شيء لا يبلغ إلى تلك الرؤوس التي يجب أن تطاح؟ ! ولا أنكر أن هذه اللحظات كانت تعذبني، وكانت تملأ نفسي ظلاماً ويأساً، كانت تشعرني بالخجل أمام نفسي خجل العجز عن عمل شيء ذي قيمة، ولكن هذه اللحظات ولحسن الحظ لم تكن تطول، كان يعاودني الأمل في قوة الكلمة، كنت ألقى بعض من قرؤوا لي مقالاً، أو أتلقى رسائل من بعضهم فأسترد ثقتي في جدوى هذه الأداة، كنت أحس أنهم يتواعدون معي على شيء ما شيء غامض في نفوسهم، ولكنهم ينتظرونه ويستعدون له ويثقون به!.
كنت أحسّ أن كتابات المكافحين الأحرار، لا تذهب كلها سدى، لأنها توقظ النائمين، وتثير الهامدين، وتؤلف تياراً شعبياً يتجه إلى وجه معينة، وإن لم تكن بعد متبلورة ولا واضحة، ولكن شيئاً ما كان يتم تحت تأثير هذه الأقلام. ولكنني مع هذا كنت أعود - في لحظات اليأس والظلام - أتهم نفسي، كنت أقول: أليس هذا الإيمان بقوة الكلمة تلَّة العجز عن عمل شيء آخر؟ ألا يكون هذا ضحكاً من الإنسان على نفسه ليطمئن إلى أنه يعمل شيئاً، وليهرب من تبعة التقصير والجبن؟ وهكذا كنت أعيش طوال فترة الكفاح الماضية حتى شاء الله أن يطلع الفجر الجديد، وأن تنكشف الغمة المعتمة، وأن يتنفس الناس الهواء النظيف الذي حملته الثورة، وأن يصبح هذا الصراع ذكرى يضمها التاريخ في ثناياه …) سيد قطب - دراسات إسلامية - الطبعة الثالثة ص 124.
هذه الكلمات الصادرة من الأعماق وثيقة هامة لتصوير حال المفكر المسلم في تلك المرحلة، وكيف أن عدم رؤية أهمية الفكرة وفعاليتها يؤدي إلى العذاب ويملأ النفس ظلاماً ويأساً، بل يشعر الإنسان بالخجل أمام نفسه لأنه لا يقوم بعمل شيء ذي قيمة.
كما يمكن أن يفسر الإيمان بقوة الكلمة - قوة الفكر - تعلّة العاجزين عن عمل شيء آخر، وهروباً من تبعة التقصير والجبن: فهذا التصوير دقيق للواقع - المؤلم - ينبض بالحياة. إلا أن ما اعتبره فجراً جديداً لم يكن لقوة الكلمة بمقدار ما كان نتيجة لقوة المسدس.. ولهذا لا نزال نحمل قابلية الانخداع بالفجر الكاذب، والمساهمة في صنعه بالمسدس، ونحن نظن أننا نصنع فجراً صادقاً.
والذي جعلنا نكتب هذا الاستطراد الطويل، ظن كثير من الناس أنه يمكن أن تتوفر الإرادة الجازمة والقدرة التامة، ثم لا يحدث العمل الناجح ضرورة.