مقارنة بين المجتمع النبوي الديني والديمقراطية

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

هذه المقارنة ضرورية وينبغي أن تكون المقارنة معمقة وخاصة في الظروف البشرية الحاضرة. ويمكن أن نقول: إن الكائنات الحية تتوجت بالإنسان الكائن المبدع الذي نُفِخ فيه من روح الله واستخلف في الأرض ليقضي على الفساد وسفك الدماء. ولكن أبدع ما وصل إليه هذا الإنسان في تاريخه بأن توج أعماله بابتكار الديمقراطية التي لبها وجوهرها حرية العقيدة حرية الانسان في اختياره عقيدته في الحياة الاجتماعية وخاصة نظام الحكم والسياسة في المجتمع الإنساني كان هذا إبداعا وانعطافا في تاريخ الانسان الذي ظل مستلبا خلال التاريخ مهما نادت الحضارات والحكماء بالعدل والرحمة وينبغي أن لا ننسى أن رصيد الديمقراطية وعي الناس بمعاناة البشر.

وظاهرة الديمقراطية حديثة العهد في التاريخ الإنساني مع كل النقص في عمقه وامتداده في حياة البشر إلا أنها جاءت مع معاناة البشر وفرضته الظروف المتطورة وهي لم تنبت من فراغ وإنما من معاناة البشر ومن أصل كبير كان الأنبياء قد بشروا به من وقت مبكر من عهد نوح الأب الثاني للبشرية بعد آدم فبعد أن تحمل آدم وزوجه مسؤولية وأمانة المعرفة وربط الأسباب بالنتائج والاعتراف بالخطأ الذي هو بدء طريق التغيير والإصلاح والنقد الذاتي الذي هو "التوبة" بالمصطلح الديني بدل أن يلقي التبعة على إغراء الشيطان وبدل أن يسوغ خطأه بأمور خارجية، إن هذا التصور الديني للانسان فاتحة استخدام الاستفادة من الخبرة التاريخية وتأصل هذا بموقف ابن آدم في نزاع أخيه معه في رفض اللجوء إلى رد العنف بالعنف حيث كان هذا إيذانا بأن الانسان قابل للمعرفة والاستفادة من الخطأ وكيفية حل المشكلة كأنه يعلن قائلاً: إنني خلق جديد ومزود بقابلية اكتساب المعرفة من التاريخ ونقل هذه المعرفة بالحوار وتأمل الوقائع وتحليلها وليس باللجوء إلى العنف والتدمير. والشيء الرائع الموجود في هذا الموقف الذي بذرت فيه بذرة الديمقراطية بذرة اللاإكراه في المعرفة والسلطة لأن السلطة مولود المعرفة ونتيجتها لأن الديمقراطية هي قبول الفرقاء جميعا للاإكراه واللاعنف في المعرفة والسلطة إن ظاهرة الديمقراطية ولدت في غموض ولم تكن واضحة ومبسطة ومضاءة مثل قصة ابن آدم حيث أوضح بجلاء من الذي بدأ من الفرقاء بنبذ العنف والإكراه وتحدى العنف والإكراه باللاعنف واللاإكراه، فهذا هو البلاء المبين والموقف الصعب بل وإضاءة ميلاد اللاإكراه واللاعنف والديمقراطية في بذرتها الأولى وكينونتها الميلادية إنه ظهور إبداع اللـه بوضوح أن الكون خلق من الأزواج ولكن الزوجية ولدت من فرد واحد، خلق اللـه منه زوجه "خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها". "ومن كل شيء خلقنا زوجين" الحياة في البدء لم تكن من الأزواج وإنما من الانقسام ولكن الزوجية طرأت على الحياة فبعد أن كانت بالانقسام صارت بالالتحام وفي هذا الالتحام وجدت فرصة التطور إلى الأفضل والزيادة في الخلق وبقاء الأنفع وما ينفع يمكث والزبد يذهب جفاء إن الفكرة الدينية النبوية واضحة المعالم وجلية في موضوع من الذي خرج من لعبة الإكراه أولا ومن لعبة العنف. الأنبياء جميعا كانوا مثل ابن آدم الذي رفض العنف بكل الوسائل وقبل التحدي تحدي العنف الصارخ باللاعنف المبين، والله تعالى يأمرنا أن ننظر كيف بدأ الخلق، يأمرنا أن نسير في الأرض لأن بدء الخلق والزيادة فيه مبثوثة في أرجاء الأرض فلابد من السير فيها وتتبع كيف بدأ الخلق، بدء الحياة والزيادة في نموذج الحياة وظهور الانسان القابل للمعرفة، ونمو المعرفة وأطوار المعرفة في التاريخ وتاريخ المعرفة تاريخ العلم كيف بدأ خلقه وكيف زاد خلقه وأين تحققت الإضافات والزيادات فحين نعترف بولادة الديمقراطية وظهور أول مجتمع ديمقراطي لاإكراهي لاعنفي إننا بهذا العرض الموجز السريع كالبرق الخاطف نلقي شعاعا من الضوء على بدء الخلق حتى في ظهور الالتزام الأخلاقي من طرف واحد ولم يكن له زوج ليبث منهما سلالات محسنة "خلكقم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً" كانت المواقف المعرفية العلمية الأخلاقية تتولد عند الأفراد إن المعرفة كانت تستغل كأداة للعنف والإكراه والتسلط فبدأت المعرفة في الزيادة فنشأت الأفراد الذين خرجوا من هذا الموقف الاستغلالي الاستكباري الاستلابي ولكن لم يكن ليتكون مجتمع على هذا الأساس خلال التاريخ الماضي فكان الأفراد يناجون أنفسهم أنبياء يتلقون، ولكن الرسالات تطورت في الخروج من المناجاة الذاتية إلى الدعوة لإحداث ملـة جديدة وعلاقات جديدة تليق بالقدرات لهذا يأتي يوم القيامة النبي وليس معه أحد ويأتي النبي ومعه شخص واحد والنبي معه شخصان إلى أن يأتي النبي ومعه ما يسد الأفق. بعد موقف ابن آدم المتحدي للعنف باللاعنف الفردي، يأتي مع نوح معاناة شديدة ولمدة طويلة تدعو إلى الملل إن ابن آدم كان يريد أن يثبت ذاته ولكن نوحا كان يريد أن يصنع ملة جديدة ومجتمعا جديدا لهذا كانت معاناته شديدة فكما اللـبسم الله الرحمن الرحيم أوحى إلى محمد (ص) قصةابني آدم بقوله تعالى: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق" كذلك أمره أن يتلو علينا نبأ نوح فقال:"واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر" نبأ ابني آدم حوار شخصي يحمل بذرة ميلاد ملة جديدة أو أمـة جديدة أو مجتمع جديد فرد يحاور فردا ولكن نبأ نوح فرد مع أتباعه يحاور ملة وأمة ومشروع مجتمع جديد في رحم الغيب وهكذا يقص اللـه علينا في القرآن مسيرة وبدأ خلق إخراج الناس من عبودية العباد من المستكبرين في الأرض إلى الإنابة إلى الواحد الأحد الصمد الرحمن الرحيم في نبأ إبراهيم الأواه الحليم، فيأمر اللـه نبيه محمدا (ص) أن يتلو علينا نبأ إبراهيم:"واتـل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين " وهو الذي حاور أباه وقومه والنمرود الذي آتاه اللـه الملك، وإبراهيم الذي هاجر إلى ربه وهو الذي قال: "إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له اسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" إنه هاجر وقطع الفيافي ما بين دجلة والنيل وتوضحت معالم ملة إبراهيم. "وتركنا عليه في الآخرين ســلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين".

ثم جاء موسى الذي نشأ في بيت فرعون أعظم حضارة في وقته ليحمل دعوة ملة إبراهيم في إخراج الناس من عبادة الطاغوت ليتحقق التوحيد ويترسخ وتتضح معالمه، وحيث أن رسالة الأنبياء جميعا هو الخروج من عبادة الطاغوت. "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" وقيل لموسى: "اذهب إلى فرعون إنه طغى" ولما ذكر عادا وثمود و "فرعون ذي الأوتاد" قال عنهم "الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد" وليس في القرآن حوار أطول من الحوار الذي دار بين موسى وفرعون حيث ذكر اسم موسى أكثر من مائة مرة وفرعون أكثر من سبعين مرة هذا الحوار الطويل المكرر ليتبين معالم مشكلة الطاغوت والطغيان وأساليب الطغاة ومشاعرهم الدقيقة بتفصيل كأنه معاصر لنا يصف الطبيعة البشرية بتفاصيله الدقيقة ودخائله المخبأة من الترغيب والترهيب والتخيل إن فرعون ذي الأوتاد لا يزال يتحدى بأهراماته وما كان مقتدرا عليه من إبداع قبره أكثر من القصر الذي كان يسكنه في حياته. ثم بعث محمدا (ص) في مهجر إبراهيم الذي بنى بيتا متواضعا تحول إلى مثابة للناس وأمناً فأمته (ص) اليوم هو الشغل الشاغل للعالم أجمع إن مهجر رسالة المسيح الذي انتقل حواريوه إلى روما ملتزمين اللاعنف لمدة أربعة قرون حولوا الإمبراطورية الرومانية بدون عنف وأهل روما مندهشون في تحول أبناء الأرستقراطيين إلى دعوة المسيح فاضطر قسطنطين أن يعلن تنصره ليكون دليلا على أن الملوك على دين شعوبهم وليس العكس. فهذا الحدث اللاعنفي الذي استغرق أربعة قرون قطعه محمد (ص) في عشر سنوات فقط من البعثة إلى الهجرة، فإذا كانت أوربا تتحد على كلمة سواء، فإنا نأمل بيقظة المسلمين أن يتحقق اتحاد الإنسانية على كلمة سواء فيتم نور الله الموعود وهذا ما نعمل من أجله وقد تهيأ العالم لذلك فهو كما يقول إقبـال:

والعشق فياض وأمة أحمـد يتحفز التاريخ لاستقبالـها.