كتاب اقرأ وربك الأكرم، الفصل الأول
من Jawdat Said
يذكر ابن تيمية ومن قبله الإمام الغزالي.. وسواهما أن مراتب الوجود أربع:
محتويات
مراتب الوجود
- الوجود العيني أو الوجود الخارجي.
- ثم الوجود الذهني أو الصورة الذهنية للوجود الخارجي.
- ثم الوجود اللفظي.
- ثم الوجود الرسمي (الكتابي).
فالوجود العيني الخارجي هو وجود الشيء في الواقع كوجود الرعد والبرق والبحار وسائر الموجودات من الذرة إلى المجرة.
وأما الوجود الذهني فهو الصورة الذهنية التي تحدث للإنسان عن هذه الموجودات الخارجية.
وأما الوجود اللفظي، فهو اللفظ الذي يطلقه الإنسان على الصورة التي حصلت عنده عن الواقع الخارجي، وهو وضع الأسماء والرموز على الصورة الذهنية (وعلم آدم الأسماء كلها..) (سورة البقرة / 30).
وأما الوجود الرابع فهو الوجود الرسمي الكتابي، ويقصد به وضع رمز موسوم ليدل على اللفظ الذي ينطق به الإنسان، فاللفظ آني لحظي يتكلم به الإنسان فينتشر في الهواء موجات صوتية تتلاشى، وأما الرسم الكتابي الذي يدل على اللفظ، فيبقى موسوماً على الورق أو الحجر أو أي شيء آخر، ومعرفة هذا الرسم نوع من القراءة، أو هي القراءة ذاتها.
وقد ذكر الغزالي هذا الموضوع في مقدمة كتابه (المستصفى من علم الأصول) واعتبر هذه المقدمة مقدمة العلوم كلها، لا مقدمة علم الأصول وحده، واعتبر أن الذي لا يحيط بها لا ثقة بعلومه أصلاً، فقال:
«اعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر الغرب وهو يطلبه، ومن قرر المعني أولاً في عقله، ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى. فلنقر المعاني أولاً فنقول: الشيء في الوجود له أربع مراتب:
- حقيقته في نفسه.
- ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو الذي يعبر عنه بالعلم.
- تأليف صوت بحروف تدل عليه، وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس.
- تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة.
فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم إذ يدل عليه، والعلم تبع للمعلوم إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأَوَّليْن وجودان حقيقيان لا يختلفان في الأعصار والأمم، والآخران اللفظ والكتابة يختلفان لأنهما موضوعان بالاختيار..».
الغزالي والعلم والاعتقاد
كما ذكر الغزالي تعريف المعتزلة للعلم بأنه: «اعتقاد الشيء على ما هو به» فناقش اعتقاد فقال: «العلم يستحيل بقاؤه مع تغير المعلوم، لأن العلم كشف وانشراح، والاعتقاد عقدة على القلب، والعلم عبارة عن انحلال العقد، فهما مختلفان، ولذلك لو أصغى المعتقد إلى المشكك لوجد لنقيض معتقده مجالاً في نفسه، والعالم لا يجد ذلك أصلاً وإن أصغى إلى الشبه المشكِّكة، ولكن إذا سمع شبهة لا يحصل له شك في بطلان الشبهة بخلاف المقلد. وبعد هذا التقسيم يكاد يكون العلم مرتسماً في النفس بمعناه وحقيقته من غير تكلف تحديد..».
وفي الكلام الذي يذكره الغزالي معنى أرى أن نحرص عليه في مجال تعريف العلم وهو قوله: «لو أصغى المعتقد إلى المشكك لوجد لنقيض معتقده مجالاً في نفسه، والعالم لا يجد ذلك أصلاً». وهذا معنى شريف يمكن أن نحس به في أعماقنا، فالمعتقدات أو المسلمات بغير قابلة للزعزعة في أعماق نفس المعتقد وإن كابر وتمادى في المماراة، ولكن العالم لا يتزعزع ما في نفسه مهما عرض عليه من شبهات وشكوك، فهو راسخ ثابت كالطود، ولكن قد يهتدي لنقل ما عنده من علم للآخرين وقد لا يهتدي.
فجاليلو مثلاً، بعد أن أقسم ويده على الكتاب المقدس أنه يشجب، ويعلن، ويحتقر ما قيل، أو كُتب من خطأ وبدعة حول حركة الأرض، كان مثله كمن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان، وذلك لأنه أدرك بالدليل العلمي صحة ما وصل إليه، وإن كان مع ثقته سيشعر بالمرارة لعجزه عن نقل علمه إلى الآخرين، وربما يشعر بضرورة التفكير في توفير الشروط التي تجعل أفكاره الصحيحة تنال قبول المنكرين، وهذا موضوع آخر يدور حول أسلوب التعليم ومشكلاته وتذليل العوائق التي تحول بين الناس وقبول الحقائق التي اهتدى العلم إليها، وفي هذا ورد في مقدمة صحيح مسلم عن ابن مسعود قال:
«ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
إنكار الحقائق الجديدة
فإن الإنكار الشديد الذي يُجابه به أصحاب الحق والعلم كثيراً ما يرجع إلى أن المهتدي إلى الحق تدفعه حماسته فيعلن الحقائق التي وصل إليها على قوم بينهم وبين هذه الحقائق درجات منقطعة، ومراحل مفقودة، وبين علمهم القديم والعلم الجديد فجوات واسعة، عجز هذا العالم المتحمس عن سدها، فيكذبون هذه الحقائق وينكرونها، ولا تقبلها أفهامهم. والتاريخ مليء بمثل هذه المواقف المؤلمة. وإن تطور المعرفة مع الزمن سيحل المشكلة حين ترتقي مفاهيم الناس حول الموضوع (ولتعلمن نبأه بعد حين) (سورة ص / 88).
ولكن مع ذلك تبقى مأساة المقابلة الأولى ماثلة في ضحايا من العلماء وأصحاب الأفكار، الذين استبد بهم حماسهم للجديد الذي وصلوا إليه، مع سوء تقديرهم للظروف وموانع فهم العلم الجديد. أو في ضحايا من الناس الذين جابهوا العلم، وأعرضوا عن الحق، لقلة علمهم في موضوع معين، أو لإخلاصهم لبعض القيم، وسيطرة الهوى على نفوسهم فكانوا جدار ظلام في وجه النور، وأداة إساءة إلى العلماء.
وهذه الموضوعات تظهر أنها واضحة كنظريات حين نفرضها، ولكن الممارسة العلمية لها تُظهر أن المشكلة ما تزال قائمة، وأن كثيراً من العلماء الحاذقين الذين يشعرون بالفهم الدقيق، يقعون في سوء التقدير، وتأتى النتائج لتؤكد أن المشكلة ليست بهذه السهولة، وأن كشف العلم ليس كافياً لقبول الناس له واستفادتهم منه. لأن إيصال العلم بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، لا تزال في مركز الصدارة في مشكلات البشرية.
والقرآن يضيف إلى البلاغ كلمة المبين، ليحدد الشروط التي ينبغي أن يتصف بها الموضوع الذي يراد نقله إلى الآخرين، إذ لا بد أن يتصف هذا المنقول أو هذا المبلغ بالمبين والبينات، فتوفير هذه الشروط للبلاغ هو واجب العلماء والآمرين بالقسط من الناس. وقد يحذف وصف المبين أحياناً من كلمة البلاغ، إلا أن هذا الحذف لا يعني الاستغناء عنه، لأن البلاغ لا يكون مُلزماً إلا إذا كان مبيناً إلى درجة أن يصل المخاطب إلى أن ينكر الشيء وقد علمه وفهمه، أي أن يصل إلى درجة (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) (سورة النحل / 14). وفي الواقع إن المبلَّغ إن لم يصل إلى هذه الدرجة، لا يشعر أنه يخون ضميره ويكابر في قبول الحق، فإن المُعارض ما دام يشعر أنه على حق فلا يزال معذوراً في معارضته، وربما جاء النقص من أن صاحب الحق لم يستطع أن يوضحه، وهذه مشكلة لابد من العودة إليها (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) (سورة الأنبياء آية 24).
وكلمة الجاحظ التي سبق ذكرها تشير إلى أن حياة العلم البيان، وربما أهم ميزة للإنسان قدرته على البيان، والمتمكنون في البيان هم الذين سيحصرون العلم والزمان بالبيان (خلق الإنسان علمه البيان) (الرحمن آية 4).
طلب المعاني من الألفاظ
حول قول الإمام الغزالي: (من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر الغرب وهو يطلبه).
هذا معنى شريف يحسن أن نبحثه مرة أخرى بأسلوبنا - حسب طاقتنا - وذلك لأن نشرح المرتبة الأولى من مراتب الوجود الذي سماه الغزالي: (حقيقة في نفسه)، أو الوجود الخارجي أو العيني حسب تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية.
فالرعد - مثلاً - له وجود خارجي يظهر في الجلجلة التي نسمعها بعد وميض البرق في السحاب. فهذا الوجود الخارجي هو حقيقة الرعد. ومثله الشمس والقمر والنجوم والماء والنبات والحيوان، وعادات المجتمعات.. فهذه كلها لها حقائق خارجية موجودة بشكل مستقل عن الصورة الذهنية التي تحصل للإنسان عند أول اتصاله بها.
فالإنسان الأول سمع الرعد، ورأى البرق كما نسمع ونرى، ولكن الصورة الذهنية التي تحصل للإنسان من هذا الاتصال لا يمكن أن تكون واحدة عند الجميع، إلا إذا جردنا الإنسان من تفسير الأحداث واعتبرناه آلة تصوير، أو آلة تسجيل فقط.
لو سألنا التاريخ: كيف فسر الإنسان وفهم حقيقة الرعد والبرق وأسباب حدوثهما؟ فإننا نجد التفسيرات مختلفة جداً، ولا يزال الناس يسعون للوصول إلى إدراك أقرب لحقيقة كل من الرعد والبرق، وما ينتج عنهما، وما يؤديان من وظيفة..
إذاً قول الغزالي: (إن الوجودين الأولين - الوجود الخارجي والوجود الذهني - لا يختلفان في الأعصار والأمم)، قول صحيح إذا كان الإنسان مجرد آلة تسجيل أو تصوير والإنسان ليس كذلك.
إن كل الناس شاهدوا الشمس تشرق كل صباح، ولكن فهم حقيقة وكيفية شروقها كان من الاختلاف والتباين إلى درجة تباين النقيض للنقيض. وهذا مثل مهم عن إمكان حدوث الخطأ في تفسير الصور الذهنية التي تحصل للإنسان من الحقائق الخارجية. وإن تقدم البشرية في إدراك حقائق الأشياء، وكيفية حدوثها وبدء خلقها، لا يزال بطيئاً برغم ما يبذله الإنسان من جهد لإدراك ذلك.
إن ما يحصل عند الناس من صور ذهنية عن البرق والرعد، والشمس، والنبات والحيوان، متفاوت تفاوتاً كبيراً عريضاً وطويلاً وعميقاً، فلهذا نختار أن نقول: إن الوجود الخارجي لكل من الفيزياء والمجتمع له حقيقة واقعة، أما تصور الناس لها فهو الذي يتفاوت الناس فيه، فكل يرى حسب خلفيته الفكرية. وهذا ما يميز الناس عن آلة التصوير والتسجيل، ويجعلهم يختلفون في فهم الأمور على مر العصور. هذه هي العلاقة بين الوجود الخارجي والصور الذهنية، فالوجود الخارجي هو الثابت الذي كلما اختلفنا في تفسيره رجعنا إليه، ودققنا النظر والبحث والتعامل معه، لنصحح الصور الذهنية. وهذا ما أردنا إثباته هنا في حديثنا عن كلام الغزالي في هذا الموضوع.
فالوجود الخارجي: هو الحقيقة الثابتة التي نرجع إليها عند الاختلاف، والصور الذهنية قابلة للزيادة والنقصان.
فعلم الفلك، والطب، والكيمياء وسواها. حقائق خارجية ثابتة السنن، ولكن الصور الذهنية عنها تتفاوت تفاوتاً كبيراً على مر الزمن. وكم يكون مفيداً إدراك هذا جيداً ليمكن الانتقال إلى موضوعات أخرى وعلوم أخر، كي لا تتكرر النزاعات المريرة، حيث كان الناس يفقدون أسلوب البحث والتحقيق، ولا نزال نقع في مثل هذا إلى الآن في مجالات أخرى من العلوم لأننا نفقد الاعتبار ولا نعقل الأمثال. (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (سورة العنكبوت آية 43)، (فاعتبروا يا أولي الأبصار) (سورة الحشر آية 2). إذاً هناك فرق بين الصور الذهنية والحقائق الخارجية، والمرجع عند النزاع هو الحقائق الخارجية وليس الصور الذهنية.
المرتبة الثالثة: الوجود اللفظي
اُنقر الرابط التالي لقراءة الصفحة الكاملة لمرتبة الوجود الثالثة
والمرتبة الثالثة هي التي شرحها الغزالي بقوله: (تأليف صوت بحروف تدل عليه، وهو العبارة الدالة على المثال الذي في الذهن). هذه المرتبة هي مرتبة إطلاق الأسماء على الموجودات الفيزيائية، كالأرض، والسماء، والذرة، والمجرة، والاجتماعية، كالحب، والبغض، والصداقة، والعداوة، والبر، والعقوق، والحياء، والوقاحة، والصدق، والكذب، والأمانة، والخيانة.
المرتبة الرابعة للوجود: التعليم بالقلم
اُنقر الرابط التالي لقراءة الصفحة الكاملة لمرتبة الوجود الرابعة
مرتبة التعليم بالقلم، وهي تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر، وتدل على الفظ، وهي الكتابة، فالكتابة تبع للفظ، واللفظ تبع للعلم - الصورة الذهنية - والعلم تبع للمعلوم؟ أي أن الصورة الذهنية تبع للحقيقة الخارجية.
اعتبرنا اللغة أو القدرة على وضع الأسماء، المقام الذي رفع الله آدم - عليه السلام - إليه حين علّمه الأسماء كلها؛ وهذا ما جعل الملائكة يعترفون بنقصان علمهم عنه، ومن هنا تطرق الخلل إلى حكمهم على آدم بأنه لا يستأهل خلافة الأرض، فهو يفسد فيها ويسفك الدماء.
والقدرة التي نتحدث عنها هي اللغة؛ أي نقل الأفكار والتجارب بالألفاظ والحديث. فحين وضع آدم الرموز اللفظية - الأسماء - للأشياء والأحداث، اعترفت الملائكة بنقصان علمهم.
المرتبة الخامسة: الوجود السنني
اُنقر الرابط التالي لقراءة الصفحة الكاملة لمرتبة الوجود الخامسة
ذكرت أن الإمام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية قسما مراتب الوجود إلى أربع، وذكرت تفصيل كل مرتبة، إلا أنه يبدو لي أن هناك مرتبة خامسة للوجود هي الوجود السنني.
يقال - أحياناً - إن هذا الذي نسميه جمال الطبيعة، من ضياء الشمس وزرقة السماء وحمرة الشفق وخضرة النبات، لا وجود لها في الخارج، وإنما الموجود في الخارج موجات ضوئية فقط، والإنسان هو الذي يفسرها. فدماغ الإنسان لا يفسر مظاهر الطبيعة كأرقام فقط - كأن يقول: إن يفسرها بشكل آخر بأن يضفي عليها جمالاً، فيفهم الرقم كصورة، وهو نوع من التحويل والترميز. لهذا يقولون في المنطق: إن اللون عَرَض وليس جوهراً، ولكن يمكن أن يقال عن الجوهر أيضاً - طول الموجة في مثالنا السابق - مثلاً - إنه عَرَضٌ للسنة؛ أي للقانون الذي يخضع له الموجود.