قضايا إسلامية معاصرة: السؤالان الأول والثاني
من Jawdat Said
|
|
سؤالكم الأول: ما هي أبرز المحطات في مساركم الفكري + أبرز المكونات الثقافية؟
الجواب: شكراً لك أيها الأخ الرفاعي. ينبغي أن أصارحك بأنك استطعت أن تحملني على الإجابة على أسئلتك، وكثيرا ما أتجاهل أسئلة توجه إلي. ولكن لأهمية ودقة أسئلتك أشعرتني أنك دخلت إلى عالمي الفكري ودخلت إلى الزوايا الخاصة لهذه التركيبة الفكرية، ولامست بقوة القضايا التي تشغلني جداً. شكراً لك مرة أخرى على الجهد الذي تبذلونه لإحياء الفكر وهنيئاً لك على هذا التخصص الذي كرست نفسك لخدمته والعمل فيه.
محطة التساؤل فلسفي
تسألني عن المحطات الفكرية في مسيرتي. إنه سؤال مهم ودقيق ولكن هل يمكن أن أجيب على مثل هذا السؤال؟ هل يمكن أن يتذكر الإنسان الظروف التي وجهت حياته الفكرية؟ لا أظنني أستطيع أن أحيط بدقة بالمؤثرات التي جعلتني كما أنا، ولكن مع ذلك فإن المحاولة ليست غير مفيدة، بل علينا أن نذكر ما أمكن من هذه المؤثرات. ربما يمكن أن أقول أنني عدت مرة من المدرسة وأنا في الصف الثاني الابتدائي وقد أخذنا درساً في الصلاة عن ماذا نقرأ في القعدة الأخيرة من الصلاة وكان الكتاب الذي نتعلم منه يذكر صيغتين للتشهد: الصيغة التي يرويها ابن عباس والأخرى التي تروى عن ابن مسعود. وفي ذلك الوقت لم يكن لي قدرة على التمييز. فلما عدت إلى المنزل سألت والدتي عن التشابه والاختلاف في الدعائين، فنظرت بدقة في الكلمات المكتوبة على التعليق وقالت لي، هذه الصيغة هي التي نحن عليها فهي الصيغة التي اختارها الإمام الأعظم أبو حنيفة وهذا مذهبنا والأخرى للمذهب الشافعي. هكذا كان الجواب، ولكن أين ذهب تفكيري أنا. لقد كنت أخجل من السؤال ولم نكن نجرؤ على سؤال الأستاذ أو الوالد وكنا نتجرأ على سؤال الأم فلهذا سألت والدتي. وهكذا أجابت أن هذه الصيغة هي الصحيحة وهي مذهب الإمام الأعظم. ولكن الذي خطر في بالي بعد جوابها لم أجرؤ حتى أن أوجهه لوالدتي. فقد خطر لي أن الطفل الذي على المذهب الشافعي لو رجع إلى بيته وسأل والدته لقالت له نحن على مذهب الإمام الأعظم الشافعي. كيف أعرف الصواب بين هذا وذاك؟ لا أعرف ما هي المؤثرات التي جعلت هذا التساؤل يخطر في بالي. ولكن هذا التساؤل الأولي المبكر لا يزال هو التساؤل الفلسفي الذي يشغل العالم. لقد تطور السؤال بعد ذلك ليس إلى معرفة الصواب والحق في المذاهب الفرعية للسنة أو الشيعة بل إلى الأديان المختلفة، إلى المؤمنين والذين لا يؤمنون، بل إلى كيف نعرف الحق.
إن هذا التساؤل الطفولي والفلسفي العميق هو الذي جعلني أصل إلى سؤالك الرابع حين قلت في ذاك السؤال:"تشدد كتاباتكم على وجود مصدرين للمعرفة هما: القرآن وتاريخ العالم وأن الذي يجهل التاريخ لا يمكن أن تكون معرفته سليمة. ما هو موقع تاريخ العالم من القرآن وكيف يكون تاريخ العالم رديفاً للقرآن؟" ما أدري كيف سأقرب للقارئ الفيافي والقفار التي قطعتها حتى وصلت إلى جعل التاريخ مصدر المعرفة. اقتضى هذا مني أكثر من نصف قرن وأنا أحمل هاجس كيف أعرف، وأنني أعرف أنني أعرف. لقد قلبت وجهي في السماء لأجد القبلة التي تعرفني الحق. هذه المحطة الأولى محطة إنسانية.كل إنسان يهجم عليه هذا السؤال المصدع والمحير:كيف أعرف الحق؟ في هذا الخضم كيف سأخرج من سفسطائية الذين يقولون أنه لا يوجد حق كما في الفلسفة القديمة أيام اليونان والفلسفة الحديثة التي اصطدمت بجدار العدمية؟ إن الإنسان العامي البسيط يعاني من هذا وهو لا يكتم ذلك حين يقول لو ولدت في بلد كذا لكنت على دين كذا، وهذا ما في الحديث من أن كل مولود يولد على الفطرة ثم بعد ذلك فأبواه وبيئته تصنعه مسيحياً يهودياً مجوسياً إلخ… هنا يبرز أثر البيئة والآباء كمصدر للمعرفة. والقرآن يدين جعل الآباء مصدر للمعرفة. البيئة الاجتماعية والآباء ليسوا هم مصدر المعرفة. بل مصدر المعرفة يحكم على الآباء والبيئة الاجتماعية بالصواب والخطأ. وهنا من غير أن نشعر اصطدمنا بالسؤال الثامن من أسئلتك التي وجهتها إلى حين قلت: "تكرر في كتاباتك الدعوة للتحرر من [[العلم والآبائية. أي التخلص من تعظيم الآباء وإعطاء العصمة لهم، وتبرر ذلك بأن الآبائية تحجب أية رؤية جديدة. هل يعني ذلك أنك تدعو للقطيعة مع التراث؟ أليس النمو من دون جذور هو نمو موهوم لأنه كنمو الهوام؟" هنا أتذكر اسم كتاب للرئيس الإيراني خاتمي "بيم موج" ضمنه بيت من الشعر الفارسي ترجمه المترجم بقوله:
يا خفيف الجناح
يا من يتنعم بالنسيم
ما يدريك ما نحن فيه من الظلام والحيرة.
محطة الآباء
ربما آخر المحطات الفكرية التي وصلت إليها، وإن كنت لا أزعم أني مررت بها، هو التخلص من سلطة الآباء. لابد من تحليل سلطة الآباء، سلطة ثقافة الآباء أو الآبائية. إن جعل الآباء مصدر المعرفة مشكلة، وتجاهلهم مشكلة. ولكنهم بشر، "بل أنتم بشر ممن خلق". إنني أختار عناوين لكتبي أجزاء من آيات قرآنية. وأطمع أن أكتب كتاباً بعنوان "بل أنتم بشر ممن خلق". شبهة تعظيم الآباء تأتي من أننا صفر بدون آباء. وكان سؤالك معبراً لما قلت: "أليس النمو من دون جذور هو نمو موهوم كنمو الهوام؟"
هنا تداعي الأفكار وتداعي أسئلتك يذكرني كيف عثرت على فكرة انقلابية عند مالك بن نبي في تعريف التاريخ على هامش كتاب-أظنه "ميلاد مجتمع"- لما قال: التاريخ هو التغير والنمو لأن الزمن الذي لا يحصل فيه نمو وتغير زمن ميت. وضرب المثل بالنمل والنحل أنه من ملايين السنين هي على ما هي عليه في حياتها. فلو حذفنا مليون من تاريخها ووصلنا السابق باللاحق لما شعرنا بأن شيئاً سقط. بينما الإنسان ليس كذلك. الإنسان صيرورة مستمرة "يزيد في الخلق ما يشاء…ويخلق ما لا تعلمون ". يا خفيف الظل، يا من يتمتع بالنسيم، يا أخي عبد الجبار، كم نحن في حاجه إلى البيان وإلى النور وكم نعيش في الغبش والظلام، وكم نحمل من آصار "أثقال" تعيق نمونا وحركتنا، وكم نحمل من أغلال على أيدينا وأرجلنا. ومهمة النبوة هي "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم".
محطة آخر الزمان
محطة فكرية أخرى في ضحى يوم في نهاية الأربعينيات من هذا القرن. حين كنت أدرس في الأزهر في القاهرة خطر لي وقلت لنفسي إنهم يوحون إلينا أننا في آخر الزمان وأنه ما من يوم إلا والذي بعده شر منه. فكيف سأجند نفسي لمبدأ محكوم عليه بأن يومه أسوأ من أمسه وغده أسوأ من يومه. لولا أن حاجة الإنسان إلى الإيمان لا يمكن قهرها لقطعت الأديان. ولكن الأديان مهما أفسدت تحمل حاجة إنسانية وشعوراً بأن هذا الكون ليس عبثاً وأنه يوجد فيه حق، وإن كان يؤجله البعض إلى اليوم الآخر إن لم يتمكنوا من رؤية ذلك في حياتهم الدنيا. وعند ذلك خطر لي تساؤل: من أين جاءت فكرة "آخر الزمان"، وهل لها وجود في القرآن؟ وقرأت القرآن على هذه النية فلم أعثر على شيء من ذلك، بل عثرت على "من يعمل مثقال ذرة خيراً يره" ووجدت "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد".. ومن كان يظن أن لن ينصره الله فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع…" ونجد "وعد الله الذين آمنوا… ليستخلفنهم في الأرض …" الخ. ولكن المجتمعات حين تكف عن الزيادة في الفهم والخلق "الصيرورة" تصاب بالإحباط وتنتشر فكرة آخر الزمان، لأن الزمان توقف عندهم.
أخي عبد الجبار، أنا لست صاحب بيان دقيق. لهذا أطيل الكلام والمحتوى ضئيل. ماذا أقول لك؟ أنا أوجه الخطاب إليك وليس إلى القارئ لأنك أنت الذي أثرت الشجون ولمست الجراح.
إن العالم الإسلامي عاش في التيه ولا يزال وببطء شديد يتحرك. هذا بالنسبة لنا نحن المتلهفين ليقظة العالم الإسلامي، ولكن الذين ينعمون بنومنا ينظرون إلى الموضوع بشكل مختلف، كأننا نتحرك بسرعة إلى الوعي والفهم.
يا أخي، مشكلة الآباء مشكلة فنحن بدونهم صفر، لأن تراكم تجاربهم هي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه وبدونهم ينبغي أن نرجع إلى الكهف والغابة التي تمد من يعيش فيها بالغذاء بدون زراعة. ولكن إذا وقفنا عند ما وصلوا إليه وأنهينا التاريخ عندهم نكون رجعنا إلى الكهف ولكن بمعنى آخر وكهف آخر لأننا نكون أوقفنا عجلة الزمن أيضاً. إن العلاقة السليمة بالآباء هي أن "نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم". إننا في حالة صعبة، لا قدرة لنا على تجاوزهم. يا رب الضوء! الضوء! نريد أن نرى الأمر كما هو وليس كما رأى آباؤنا. نعم إنهم من ألف وأربعمائة عام ظلوا في انحدار وكل هزيمة ترقق الهزيمة التي قبلها. أنا لا أحمل أي ضغينة للآباء. إنهم أدوا دورهم ولم يكن أمامهم تاريخ مثل الذي أمامنا. إنهم معذورون، ولكن ينبغي أن نتخلص من السلبيات ونرى ما زاد الله في خلقه المستمر. والذين قاموا بالحركة كانوا غيرنا، ولم يكن العالم الإسلامي وراء الإضافات الحديثة في العالم. "وتلك الأيام نداولها بين الناس".
إلى الآن لم نفهم الواقع والتاريخ لأنهما ملغيان عندنا بواسطة النص، بينما التاريخ والنص هما الزوجان الذي بدون أحدهما يصاب الوجود بالعقم. إن تقنية الكتابة هي نقل المعنى والخبرة بالرمز، شيء جديد في حياة الإنسان. ميزة الإنسان عن غيره من الكائنات الحية أنها كلها تحمل سلوكها في جيناتها. بينما الإنسان لا يخرج من بطن أمه ومعه سلوكه ومستقبله كباقي الأحياء. الإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً ويبدأ تعلم سلوكه بعد الولادة. كان المناطقة يقولون: الإنسان حيوان ناطق، لأن الإنسان كان ينقل الخبرة بالنطق، بالكلام. ونحن لا نعلم متى تكلم الإنسان بدقة. ولكن نعلم بدقة متى كتب ونعلم ذلك بدقة لأنه ترك أثره على الحجر والجلد والورق من خمسة آلاف سنة، وهذا الذي نسميه نص وكتاب. الكتاب مقدس لأنه التقنية التي حفظت الخبرة البشرية. كانت الخبرات تذهب وتضيع بموت الإنسان لأن الدماغ البشري حين يموت تموت معه الخبرة. عاش الإنسان في الحياة الشفهية وأخذ هذا وقتاً طويلاً جداً. ولم ينّزل الله كتاباً حتى تعلم الناس الكتابة وحتى آخر الأنبياء لم يكن كاتباً. لهذا قال الله عن آدم من أنه علم آدم الأسماء ولم يقل أنزل عليه كتاباَ. الإنسان تعلم كيف ينطق ويضع الرموز الصوتية على المعاني، له قدرة على التسمية. إذا حصلت الخبرة والفهم يمكن أن يضع الإنسان الاسم لكل المستجدات المادية والفكرية. هذا معنى علم آدم الأسماء، لا أنه علمه جميع اللغات. ولكن الإنسان تعلم تقنية الكتابة لاحقا. ولهذا "القرآن" -وهذا الاسم بالذات من تقنية الكتابة وفك الرموز، أي قراءتها. وأول كلمة في آخر رسالة هي "اقرأ"، لأن الرمز لا يستقل بذاته فنحن الذين نولد العلاقة بين الرمز والمرموز، وهنا مشكلة النص. النص لا قيمة له بدون ارتباط بواقع، والواقع ضائع بدون نص، فصار النص شيئاً أساسياً في حياة الإنسان. لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون نصوص. والتقنيات ازدادت ليس بالكتابة فقط بل بحفظ الكلام والصوت، بل وأضيفت إليه الصورة. إننا نتعلم بتبلد شديد صلة النص بالواقع أو الاسم بالمسمى. لهذا الله بالذات يقول لنا إذا عرفتم الواقع ستعرفون أن هذا الكتاب حق لأن الكتاب المنفصل عن الواقع يمكن أن يضل بل ينبذونه وراءهم ظهريا. ولو اقتصرنا على النص في فهم الفلك الدوار لظللنا نقاتل بعضنا بعضاً على التفسير ولكن الذي حسم المشكلة ليس النص بل النظر إلى الفلك والنظر إلى ما في السماوات وما في الأرض، إنها آيات الآفاق. والنظر إلى طبيعة الجهاز العصبي الخازن للخبرات هي "آيات الأنفس". ما لم نقر ونعترف بالعلاقة بين النص- الكتاب- والواقع الذي يتحدث عنه سنظل في التيه وتكفير بعضنا بعضا.
محطات أخرى
محمد عبدو: لما قرأت سطراً واحداً لمحمد عبدو يقول فيه: هؤلاء الذين يقيمون القيامة على الدين لم لا يقيمونها على حبهم للدنيا؟ هذا الكلام أثر في كثيراً. مزق التابو المحرم. مزق الحاجز. فقلت في نفسي: إذن يمكن أن نفهم الوضع بشكل مختلف.
محمد أسد: وكذلك لما قرأت كتاب" الإسلام على مفترق الطرق" لمحمد أسد- لا أذكر الفكرة – عثرت عنده على فكرة حلت مشكلة عندي. فصارت المشكلات كلها قابلة للحل.
وبعدها فهمت قوله تعالى "سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون." "سخر" أي كلفه خدمة بدون أجر. نحن نأمر والكون ينبغي أن يستجيب وإذا لم يستجب فالخلل ليس في الكون وإنما فينا نحن. ولكن نمو الأفكار كان بطيئاً وإن كانت هناك محطات مضيئة.
محطة مالك بن نبي
مالك بن نبي هذا وأنا طالب وكلي عين وأذن وأطبخ ما أرى وأسمع وأحلل إلى أن تخرجت من الأزهر في أواسط الخمسينات من هذا القرن الميلادي. فوقع في يدي كتاب"شروط النهضة" لمالك بن نبي فكانت المحطة الكبرى في المسيرة الفكرية. أول مرة لم أفهم جيداً ماذا يريد ولكن أحسست بنموذج جديد للفهم والتحليل فقرأت وقرأت ودرست. بعد ذلك كنت أقرأ كل كتاب كان يصدر له بتأمل حرفاً حرفاً سطراً سطراً أجمع المتماثلات المبعثرة في كتبه من أماكنها وأقربها للنظر ثم أبعدها وأتأمل فيها. ربما قرأت كتاب الأفريقية الآسيوية أكثر من ثلاثين مرة، وكنت أبدأ عند تدريسه بالفصل الخاص بالأفريسيوية والعالم الإسلامي وأعظم ما أثر في فكرة "القابلية للاستعمار". هذا المفهوم كبير وينبغي أن يكبر أكثر مما عند مالك. إنه المفهوم القرآني "ما أصابك من سيئة فمن نفسك". إن مالكاً شذ عن النغم الذي كنا تعودنا سماعه عند الأفغاني وعبده وحتى إقبال. كم صدمني هذا حين حول نظره عن لوم الأعداء: الاستعمار، الإمبريالية، الصليبية، الصهيونية، الماسونية، وكل الأعداء. حيث لم يكن متدين أو علماني يقف على منبر إلا ويلقي اللوم والتبعية على الآخرين المذكورين كلهم. ولكن ما أشد خفوت الصوت والكلام عن سيئاتنا التي تمكن الآخرين من التلاعب بنا- هذا إن وجد صوت وكلام عن سيئاتنا. هذه فكرة عملاقة. إنها تغيير في توجيه المسؤولية، وكم كان مفاجئاً لي لما قال: إن العالم الإسلامي حين يلتقي في المؤتمرات يجعل المشكلة الفلسطينية هي المشكلة الأولى للعالم الإسلامي وهذا خطأ لأن القابلية للاستعمار والتخلف الذي نعيشه هو المرض الحقيقي، وما فلسطين وكشمير وأريتيريا و و…إلا أعراضاً للمرض الأساسي، وكم كان مؤلماً لي حين قال: إن القابلية للاستعمار تكونت عندنا قبل أن يخطر في بال الاستعمار أن يستعمرنا. وكم كان المخطط الذي رسمه لمسيرة الفكرة الإسلامية في كتابه "شروط النهضة" معبراً حين جعل المنطلق من غار حراء إلى صفين إلى ابن خلدون ثم إتمام الانحدار إلى الاستعمار والتخلف، وكم كان صادقاً ومفاجئاً حين قال: إن القابلية للاستعمار لم تصنع في باريس ولندن وواشنطن وموسكو، وإنما صنعت وتكونت تحت قباب جوامع العالم الإسلامي ومساجده من بخارى وسمرقند ودهلي وطهران وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان محور طنجة، جاكرتا. وكم كان محدقاً بعمق للمشكلات حين قال أيضاً: إن إنساناً يجهل إضافات القرن العشرين للمعرفة الإنسانية لا يمكن إلا أن يجلب السخرية والتشنيع إلى نفسه. ترى يا أخي عبد الجبار والألم يعتصر قلبي من بطء الحركة والتبلد الذي نبديه، ليس فقط أننا متبلدون بل نلقي حلة مثالية على عوامل تخلفنا وعندنا استعداد حتى الموت في سبيل الحفاظ عليها.
محمد أركون: ماذا سأذكر من المحطات؟ ربما آخرها أيضاً قراءتي لمحمد أركون. هذا الرجل عنده شيء لا هو مقدس ولا هو دنس حقير كما يقول مالك بن نبي عن العالم الإسلامي الذي يرى الأمور إما بشكل طاهر مقدس أو دنس حقير وما أسهل وأسرع أن يتحول أحدهما إلى الآخر فيتحول المناضل إلى عميل خائن والمؤمن إلى كافر زنديق.
محطة محمد إقبال
أما محطة إقبال ليست مثل محطة مالك بن نبي، المهندس الكهربائي. إن إقبالاً شاعر صوفي محلق في الملكوت يحاور الإنس والجن والشياطين والاستعمار ويحاور رضوان، خازن الجنة. يقول إقبال:
أبصرت عيناي نبض الأنجم وبعرق البدر دورات الدم
علم إقبال كَمّ هذا الكون وكيفه، وفهم أن الإنسان جارحة القدرة الإلهية وهو الذي علمني أن الإسلام والقرآن وإن نشئا في عصر ما قبل العلم فإن القرآن بشر بعصر العلم. وهو الذي علمني قيمة آيات الآفاق والأنفس حين قال: القرآن يعتبر الآفاق والأنفس مصدراَ لمعرفة الحق. وهو الذي أضاء ولا يزال يزداد ضوءاً قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد"، وإقبال هو الذي قال عن نفسه وعن جلال الدين الرومي:
صير الرومي طيني جوهرا من غباري شاد كوناً آخرا
كذلك وضعني إقبال على طريق المعرفة كما قال الرومي عن شمس الدين التبريزي حين افتقده وظل يبحث عنه دون كلل حتى تنبه يوماً فقال: أنا ما كنت أبحث عن شمس، أنا كنت أبحث عن نفسي فوجدتها. فعاد وكف عن البحث عن شمس تبريز. إقبال هو الذي فهم مغزى ختم النبوة. وما أهم هذه الفكرة. التاريخ هو الذي سيكشف في المستقبل أهمية هذه الفكرة. نحن نقول إن محمداً (ص) خاتم النبيين، ولكن ما ثقل ووزن هذه الفكرة؟ إن النبوات من عهد نوح إلى محمد أقل من خمسة آلاف عام من بدء النبوة وختامها. وبعد مليون سنة كيف سيكون الناس؟ إقبال يقول: حق أن تختم النبوة حين صارت آيات الآفاق والأنفس مصدراً لمعرفة الحق. إن إقبالاً هو الذي ساعدني على معرفة كيف أعرف الصواب والخطأ بين المذهب الحنفي والشافعي لما قال: إن طريق معرفة الحق في المذاهب والفلسفات والأديان والثقافات والحضارات هو أن تنظر إلى نموذج الإنسان الذي أنتجه هذا الدين أو الثقافة. وإقبال كان نظره الفزيولوجي قصيراً ولكن رؤيته الفكرية كانت محلقة. فإقبال حل لي مشكلة الشريعة بأفكاره العملاقة، شريعة الله هو العدل وكل ما هو أقرب إلى العدل هو شريعة الله. إن المحور الذي تدور عليه الشريعة هو العدل. وأما بالنسبة لتفاصيل الأحكام فكل عصر يمكن أن يقترب من العدل والإحسان كأهداف أسمى. لقد ذكر ذلك حين ناقش مسيرة الأتراك ومفكري الأتراك أيام الانقلاب العثماني.
ماذا سأقول... يا طير، يا خفيف الجناح، يا من يتمتع بالنسيم، ما يدريك ما نحن فيه من الظلام والحيرة والاقتتال والذبح لبعضنا؟ أين المضاءة أين الدايزين على رأي هيدغر؟ أين النور؟
أظن إلى هنا حاولت أن أجيب على السؤالين الأولين: المحطات الفكرية والمكونات الثقافية.
المسار والمحطات
إنني بدأت بالاتجاه السلفي ثم توقفت على محطة الأفغاني وعبده ثم تابعت السير مع إقبال ومالك بن نبي، ولكن أركون شدني إلى ما يقال عنه الحداثة وكان هذا أشده علي. لأن سيطرة الغرب على العالم غلاب لا يمكن أن يكشف على هناته بيسر. وساعدني إقبال على ذلك لما قال مخاطبا الغرب: إن حضارتكم هذه ستبخع نفسها بخنجرها لأن العش الذي يبنى على غصن ضعيف لا يثبت، وإن ناركم لم تحرقني لأنني على ملة إبراهيم، وإن نوركم لم يخلب بصري لأنني اكتحلت بأثمد المدينة. إن الغرب مشكلة. حبذا لو تمكنا من تقبل أحسن ما عندهم وأحسن ما ابتكروه ونتجاوز عن سيئاتهم. إن الحداثة بحلوها ومرها تقدم لنا. ومشكلتنا أن بعضنا لا يرى فيها إلا الضلال والفساد، وبعضنا لا يرى ولا يمكن أن يرى إبداعهم وما دفعوا إليه البشرية. إن هؤلاء الغربيين لم يبتكروا وسائل نقل غير الحمير والبغال والخيل والجمال فقط. إنهم أيضاً ابتكروا وسيلة لانتقال الحكم غير الذبح والسحق والسحل، وهذا أعجب كثيراً من وسائل نقلهم المادية التي نتلهف على شرائها، شرائها لا صناعتها إلى يومنا هذا. ولكن وسائل النقل في السياسة والحكم فلسنا مهيئين إلى الآن لتقبله وسبب ذلك أنه لا يوجد فينا من يؤمن بقوة الفكرة وأنه يمكن أن يقنع الناس بدل أن يرهبهم- لا العلماني ولا الإسلامي- وبخصوص الديمقراطية وانتقال الحكم بإقناع الناس ولو بالتلاعب وليس بالتسلط عليهم بالكرباج والحديد والنار. هذا الحدث جديد جداً وإن كان قديماً في رؤية أخرى. إن المسلمين لما فقدوا الرشد أحسوا بأنهم فقدوا شيئاً كبيراً وعبروا عنه بقولهم: أتريدون أن تعيدوها هرقلية، إذا ذهب هرقل جاء هرقل؟ ولكن لما تطورت البشرية وزاد الله في خلقه ما يشاء وخلق ما لا نعلم من الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون.
قلب المفاهيم إن الحداثة هي التي قلبت مفاهيم الناس عن الكون حين قلبت فكرة مفهوم الشمس التي تدور حولنا وأننا نحن المركز. حين تحولت المركزية عنا فزعنا فزعاً شديداً أعني الإنسان، وكان عند الناس استعداد أن يموتوا في سبيل بقاء الفكرة القديمة وأن يقتلوا الآخرين كذلك من أجله. هذا الانقلاب الفلكي كان بدء الحداثة وأخذوا صورة جديدة عن العالم، ثم خلقوا المحرك البخاري والناري وخلقوا بدل الخيل والبغال مراكب لم يخطر على بال السابقين ولا في خيالهم. ثم بعد النظر بالمرقاب إلى الأفلاك نظروا إلى الصغائر بالمكبرات فكشفوا عوامل المرض والأوبئة، فتعافى الناس من كثير من الأمراض ولا يزالون يسيرون بخطى حثيثة.
أما الانقلاب الكوبرنيكي الآخر في علوم الاجتماع لم نحس به بعد. حدث انقلاب سياسي واجتماعي وإنساني حين تمكن الناس- ليس كلهم بل بعضهم- من فهم أن سبب ظاهرة الليل والنهار ليست حركة الشمس وإنما حركة الأرض ولكن الناس كانوا يرون الشمس صغيرة فلا حرج أن تركض حولنا. أما نحن الأرض فهي كبيرة لا يعرف طرفها وينبغي أن لا يتحرك ويكون ثابتاً. فخلال التاريخ فهمنا الظاهرة الاجتماعية بشكل عجيب يدعو إلى التأمل. رأينا الملوك كباراً جداً غير قابلين للزحزحة، وإن أزيلوا بالقتل لا تزول مكانتهم وإنما تنتقل إلى الذي حل محلهم. ورأينا الشعوب جاهلة خاملة غوغاء عوام وهوام ولا حول لها ولا طول يسجدون لمن يحتل منصب الحكم. إلا أن الانقلاب الفلكي في الغرب تبعه انقلاب اجتماعي أيضاً، فإذا الملوك تأخذ حجماً أصغر حتى بقيت في بعض مجتمعات الحداثة كمخلفات يحتفظون بهيكلها ولم يعد لها سلطان وإن كانوا يتوارثون إلى الآن. وأن الحكم والقوة والاعتبار بدأت تتحول إلى الشعوب وإن كان ببطء شديد في العالم كله. وهذه حداثة اجتماعية كبيرة. لقد كبر حجم الإنسان أو بدأ يكبر وأن وعي الإنسان بالتاريخ يفهم كيف كان الناس يقربون القرابين البشرية، وكيف تحول هذا مع إبراهيم إلى إلغاء القربان البشري. وربما مغزى الاحتفال بهذه الذكرى في عيد الأضحى، عيد الحج عند المسلمين ترمز إلى هذا التطور البطيء. إن الذي حاج إبراهيم في ربه قال: أنا أحيي وأميت. وجواب إبراهيم الفلكي الانقلابي، إنك لن تستطيع تحدي قوانين وسنن الكون. فكما بهت الذي كفر مع الظاهرة الفلكية، كذلك بهت العالم وبهر بالانقلاب الاجتماعي حين أعلن في حجة الوداع ذكرى إبراهيم وإلغاء القرابين كلكم لآدم وآدم من تراب وليس لعربي أو أعجمي أو أحمر فضل على آخر إلا بالتقوى. وقال لنا أن لا نرجع كفاراً أو ضلالاً يضرب بعضنا رقاب بعض. وأوصى بالمستضعفات، العواني النساء. لقد تحولت الأمور من الناحية النظرية وإن كان التحول العملي لا يزال بطيئاً جداً.
وأنا وإن كنت أذكر أشياء خارج الأسئلة فإن الأسئلة هي ضمن مشكلتنا الإسلامية الإنسانية. إنني أرى الوقائع تدل على أشياء تعيد للنصوص التي كانت فرغت من المعنى. إن رسالات الأنبياء جميعاً واحدة. مهما وصفنا المسيحية واليهودية بالشرك والعنصرية، فإن الرسالات واحدة. لب وجوهر النبوة واحد وهو التوحيد الذي إن صح لا تضر معه معصية وإن فسد لا تنفع معه طاعة. "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت". لكل رسول، ورسالات الأنبياء جميعاً واحدة: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت. والطاغوت لم يأخذ ما ينبغي من التوضيح والتفصيل في الثقافة الإسلامية التي كتبت حول الكتاب والسنة بل أحاط به الغموض.فَـفُهم الطاغوت على أنه الشيطان أو الأوثان، بينما القرآن يقول لموسى اذهب إلى فرعون إنه طغى ويقول: "وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد". فالطغاة والطاغوت تتمثل في فرعون أكمل تمثيل. ولم يرد اسم غير اسم الله أكثر من ورود اسم موسى الذي واجه فرعون، وتوارد اسم فرعون أكثر من سبعين مرة. فهذه مواجه لأعظم حضارة وجدت على ظهر الأرض في تلك الأزمنة. إن القرآن ينطق فرعون بكل مشاعر الطغاة وأحاسيسهم الخفية وما يعلنون وما يخفون. وكذلك ينطق موسى بتوجساته. وينطق ما يحيط من مجتمعات مستسلمة للطاغوت. ينطقهم جميعا. وقصة موسى وفرعون من أكثر القصص التي تكررت في القرآن بأشكال وأطوال مختلفة جديرة بالدراسة لنفهم بنية الطغيان والطاغوت ومنبته ومكوناته. وإذا كانت هذه القصص تحتل من القرآن هذا الحجم فلا شك أنها -وإن لم تخدم بما تستحق- ستكون مادة خصبة لتحليل المشكلة الاجتماعية السياسية.
مشكلة التوحيد يا سيدي الكريم عبد الجبار لقد أثرت في بأسئلتك شجوناً. إن التوحيد والشرك ليسا مشكلات إلهية سماوية غيبية وإنما هي مشكلات أرضية إنسانية اجتماعية وسياسية. إنها تصحيح علاقات، لأن وحدانية الله لم تكن مجهولة عند قريش الذين رفضوا ما جاء به الرسول فهم كانوا يقرون بوحدانية الله كما نقر نحن الآن، ولكن النزاع كان عن المجتمع الذي يعطي لبعض الناس امتيازات، أي أنهم فوق الشريعة. إن المجتمع الذي يطبق الشريعة على فاطمة كما يطبق على أية امرأة بدوية لم يكن ليطيقه البشر في ذلك الزمان ولا يطيقه الناس في زماننا هذا. ولهذا نجد حق الفيتو في أكبر مؤسسة عالمية ولا ينكره أحد لأن الجميع يتلمظون أن يكونوا في ذلك المكان يوماً ما، لا أن يزول هذا الشرك الأكبر والطاغوت.
لهذا كان إقبال يقول: التوحيد ليس ضد الكثرة، أي تعدد الآلهة. ولكن ضد الشرك أي أن يكون بعض الناس لا يطبق عليهم القانون أو الشريعة، أي أنهم فوق الشريعة. إن فرعون لما…(فحشر فنادى وقال: أنا ربكم الأعلى) أي هو المصدر الأعلى للشريعة "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". ولما يقول: "ما علمت لكم من إله غيري" ولما يقول: "لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين". ويقول لسحرته: "آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى". إن في هذه القصص معالم. كما أن عالم الكيمياء له قوانينه كذلك عالم الطغيان له قوانينه في الهدم والبناء. والإنسان كفء أن يبني ويهدم ويهدم ويبني. و"قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". والآن كما كان، إن الله يقول أن السحرة جاؤوا بسحر عظيم وأن الحبال والعصي يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى. إن الصواريخ والرؤوس النووية مثل الحبال والعصي. إن كلاهما من المواد الكيماوية الذرية، فهي تحت سيطرة الإنسان وليس الإنسان تحت سيطرتها. ولكن نحن مسحورون يخيل إلينا أنها تسعى. إنها لم تستجب للاتحاد السوفيتي حين انهارت هذه الأسلحة التي عبدها. إن الشرك هو أن نثق بعضلات الإنسان لا بفكره. إن طاقة الكهرباء والذرة طاقة عظيمة كبيرة وخادمة خدمة كبيرة. إنها كانت صواعق ولكنها الآن أخدم من الجن في مجالات لا تعد ولا تحصى. ولكن طاقة الإنسان فوق هذه الطاقات كلها لأنها كلها مسخرة له.
هذه مشكلات آخذة بعضها برقاب بعض، ولكن"الأعجب" الذي جاء به الأنبياء هو أنهم جاؤوا بأسلوب انقلابي في العلاقات البشرية الاجتماعية والسياسية. إنه أسلوب اقتصادي بدون خسائر، "مجاناً أخذتم ومجاناً تعطون". قلب الأنبياء علاقة القوة وعلاقة القتل، أي تحول علاقة أنا أحي وأميت إلى علاقة أنا أحي ولا أميت. وحولوا علاقة القتل بالقتل إلى علاقة الامتناع عن القتل. وهذا شئ عجيب وغريب وقلب للأمور الذي عبر عنه بالتحويل، أي بإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. لهذا لم يقل الله اقتلوا الطاغوت وإنما قال: "اجتنبوا الطاغوت"، وقال: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ربهم لهم البشرى فبشر عباد". وقال: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات". ويقول أيضاً: "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت."
إن الحداثة بدأت في الفلك وفي الاجتماع. ولما بدؤوا يكتبون مقالات من أمثال: "العبودية المختارة" كشفوا أنه لا يمكن لأحد أن يستعبدنا إلا باختيارنا. لا يمكن إخضاع عدد جم غفير إلا بالسحر والتخييل، "يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى". يخيل إليهم من سحرهم أنه يمكنهم أن يقتلوا الناس. فهذا السحر إلى الآن مسيطر علينا. يسيطر علي إلى الآن، مع نوع من الفهم، أنه لا بد من تهيئة المناخ الفكري الذي ينبت فيه الوعي لفك السحر. إننا بكتاباتنا نعقد السحر الذي يديم عبوديتنا المختارة. أحياناً أقول: ما جاء به الأنبياء لم ينزل بعد من السماء إلى الأرض. ما جاء به الأنبياء ليس قتل الناس أو الطاغوت ولكن أن تمتنع عن القتل إذا أمرك الطاغوت بالقتل. هذا الموضوع مهجور وغير مبحوث. ربما يمكن أن يطلق عليه بالمصطلحات الحديثة التي يذكرها أركون "اللامفكر" فيه أو "المستحيل التفكير فيه".
كان مستحيلاً التفكير في دوران الأرض حول الشمس بحسب المعطيات السابقة. وكذلك الآن من اللامفكر فيه أن الحل هو برفض الأمر بالقتل وليس بالقتل. أتمنى أن يُخرج هذا الموضوع من ظلام اللامفكر فيه إلى مجال التداول والبحث والفكر والإضاءة. فبلال وسمية وعمار وياسر كانوا خرجوا من طاعة الطاغوت وتنفيذ أمره إلى التوحيد. نعم امتنعوا عن الاستجابة للطاغوت. إن هذه الحالة هي الرأسمال الأساسي للتوحيد، أن تخرج من عبادة الطاغوت وتجتنب عبادته. لهذا أقول بدل أن يُحاكم أو يُسجن أو يُعدم الشباب الإسلامي لأنهم كانوا يريدون أن يَقتلوا، أريد لهم أن يُسجنوا ويُقتلوا ويُعذبوا لأنهم رفضوا أن يَقتلوا. أليس عجيباً أن لا نعّلم الشباب أن يرفضوا قتل المسلمين، ونوحي إليهم بقتل الطاغوت. كم مرة قتلنا الطواغيت ونبشنا قبورهم ولكنهم لم يموتوا بل تحول قاتلهم إلى طاغوت. متى نفهم هذا ؟
الطاعة والعصيان
جميع جيوش العالم تُعّلَم أن تنفذ الأوامر من غير أن تعترض والسلطة الآمرة هي المسؤولة. هذا شريعة الناس، ولكن شريعة الله والتوحيد لا يبيح لك طاعته في معصية الله. أول سورة نزلت من السماء علمتنا كيف نعصي القانون الظالم "أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى …كلا لا تطعه واسجد واقترب". يحرم على الجنود في كثير من البلاد الإسلامية أن يعلنوا صلاتهم في ثكناتهم. تعلم أن طاعة الله هي في الصلاة وعصيان من ينهى عن الصلاة. تعلم العلم الذي يعلمك إمكاناتك في التغيير وبدون خسائر وبربح دائم، الحسنة بعشرة أمثالها. لقد أذاعت الأخبار أن الجيش التركي سرح أكثر من ثلاثين من كبار الضباط لأنهم غير منضبطين ولا يخفون عبادتهم في الثكنات. لما تتعلم كيف تصلي وتتحدى الطاغوت يمكنك أن تتعلم وتعلم وبعد ذلك ستتعلم كيف تتجنب طاعته إذا أمرك بقتل المسلمين الذين هم مثلك تماماً. فكن قدوة لهم في تعلم:لا تطعه. إنهم ينتظرونك كما تنتظر، فكن السابق لطاعة الله ومعصية الطاغوت.
- أليس من الغريب أن يسكت عن الجنود الذين احتلوا الكويت كأنهم أبطال؟ ولكن هذا السكوت جلب السكوت عن سوق الجنود العربية لدحر العراق. ألا نتعلم الكف عن طاعة الطغاة؟ إنهم سيظلون يأمرون بالقتل مادام أمامهم جنود يقولون حاضر يا سيدي. هذا ما مارسه بلال الذي كان لا يملك حريته. إنه كان عبداً مملوكاً لسيده. ولكن بلالاً تعلم أن له سيداً آخر له الطاعة في أوامره. فإن كان أمر سيده الأرضي موافقاً لطاعة ربه فسمعاً وطاعة، وإن خالف فلا سمع ولا طاعة "فاقض ما أنت قاض". هذه هي كلمة التحدي من السحرة لفرعون.
- إن موضوع التوحيد وموضوع الشرك صار غائماً وغامضاً، ولم نقم بواجب التبليغ، فكيف نبلغ ونحن لم نحمل فهماً ولم نحمل بعد رسالة. فكما أن رسالة الأنبياء جميعاً: "اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت". كذلك يقول الله: "ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين". أليس من السهل أن نرى كيف حبطت أعمالنا وكيف أصبحنا خاسرين؟ ومن أخسر منا أعمالاً في العالم أجمع؟ كل يوم يُصب علينا العذاب المهين الذي يشعر بالخجل أمام نفوسنا. إن كنا نخجل من أنفسنا أمام أنفسنا، فهل نستطيع أن نرفع رأساً أمام أحَدٍ آخر؟
- إنني أقرأ العالم وأفهمه فهماً مختلفاً. والتطور العالمي يجعل القرآن مضيئاً أكثر ويشد من أزري ويجرؤني على مواجهة العالم وعلى الصدع بالذي فهمته.
- إنه قوة الشعور بتواطؤ سنن الله في الكون وشريعته في الكتاب. إن مصدر سنن الأكوان وسنن القرآن واحد، فإذا تواطأ أضاء بنور كبير وشعر الإنسان بالأمن والطمأنينة.
- إن آية "لا إكراه في الدين" حيدت القوة ولم يجعل الله للقوة المادية على قلب الإنسان سبيلاً ولا سلطاناً. لقد حمى ضمير الإنسان من الإكراه بالقوة، لأن الإيمان الذي يأتي بالإكراه ليس بإيمان. كلا! ولا الكفر الذي يأتي بالإكراه يكون كفراً. بل للإنسان حق أن يبقى كافراً حتى بعد أن تنتصر عليه. ونحترم الإنسان ونقبل كفره ولا نريد أن نجعله منافقاً.
- إن الحداثة ولو نظرياً أقرت بأنه لا سلطان لأحدٍ على ضمير إنسان. فمن هنا أقروا بحرية العقيدة، وتوجوا دساتيرهم بهذه المادة التي تحمي اعتقاد الإنسان وأن لا يُغير بالإكراه وإنما بالإقناع. ثم إن الإلغاء للقوة وإلغاء السلطان على عقيدة الإنسان ترسخ وتأكد حين بلغت القوة المادية درجة يتمكن معها من تدمير الأرض والحياة فيها. فهذا التضخم للقوة نتجت عنه نتائج مهمة واضحة.
إن الإلف القديم والخضوع القديم للقوة لا تزال مستمرة، إلا أنها أيضاً تتضاءل باستمرار ثابت. فمنذ الانفجار الأول للقنبلة النووية منذ خمسين عاماً حدثت حداثة جديدة لم يتفهمها العالم تفهماً واعياً، ولا يزالون يتحدثون اللغة القديمة لغة التهديد، وإن كان فات أوانها. وهذه اللغة نُسخت فعلاً، وإن لم تنسخ نظرياً. وهذا عكس لكثير من الأفكار التي نقر بها نظرياً ولكن لا ننفذها عملياً. فمشكلة القوة قد صارت عملية قبل أن تتقرر نظرياً. فالقوة نسخت عمليا ولو أنها مقر بها نظرياً. فمثلاً، عالم الكبار لا يستطيعون أن يتقاتلوا. وهم فهموا هذا جيداً ويلتزمونه فيما بينهم عملياً لأن القوة لم تعد الوسيلة الفعالة لحل المشكلات فيما بينهم. لهذا وقف العنف والقتال في عالم الكبار، وإن كانوا يديرون أعمال العنف والقتال في العالم الآخر الذي لا يزال يسيطر عليه الإيمان بأن القوة فعالة. ولكن ينبغي أن لا ننسى أن عالم الصغار أمثالنا إذا بدؤوا القتال فيما بينهم على الطريقة القديمة، فسيتحول ذلك لصالح الكبار. ويمكن أن نقول باطمئنان: أن كل من يحاول أن يحل مشكلته في عالم الصغار بالقوة يكون باع قضيته لأعدائه الكبار، سواء كان بادئاً بالعنف أو راداً للعنف بالعنف.
لقد بطل العنف والعنف المضاد. إن عالم الكبار يسقط من سقط منهم بدون قتال كما حدث للاتحاد السوفيتي الذي سقط من الداخل. "فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم"، ولم يكن سقوطهم من عدو خارجي متدخل بالعنف. وفي المقابل، ارتفع اليابان وهو البلد الذي استسلم بدون قيد أو شرط تحت وطأة القنبلة النووية. فبدون قنبلة نووية وبدون حرب أهلية استطاعوا أن يقفوا على أقدامهم مع السبعة الكبار في العالم.
هذه الأحداث لها قيمة. إنها خاضعة لسنن الله. إن اليابانيين بشر أيضاً، وإن لم يكونوا يهوداً ولا نصارى ولا مسلمين. وهذا أدعى لأن نفكر كيف حدث ما حدث.
القوة والفكر
لهذا يا أخي عبد الجبار إن الإعداد بالقوة ليس في السلاح المادي. لقد بطل الجانب الذي أشار إليه القرآن من القوة المادية ومن رباط الخيل. فما أظن أن أحداً يريد أن يبني إسطبلات لتربية الخيول للجهاد. فكذلك الرماح والسيوف والدبابات، بل والقنابل النووية والنترونية أيضاً. ولكن الإنسان قادر على التسخير بفكر "تبارك الله أحسن الخالقين"، لأنه أنشأه خلقاً آخر قادراً على التزكية والتدسية وقادراً على التسخير.
وترتب على انفصال القوة المادية من الفكر في الغرب بروز الوحدة الأوربية. فهي ليست نتيجة القوة، ولكن هي نتيجة إلغاء القوة المادية، أي في أن لا تكون القوة سبباً في الامتيازات. " أن تكون أمة هي أربى من أمة". إن أوربا لم يوحدها هتلر ولا نابليون، وإن كان كل واحد منهما وصل إلى روسيا في شرق أوربا ووصل إلى البلاد العربية في جنوب البحر الأبيض إلا أن الأول مات منتحراً والثاني مات منفياً. والآن تتحد أوربا، ليس على أساس "ألمانيا فوق الجميع" أوفرنسا فوق الجميع. وإنما ألمانيا الآن مثل الجميع، ولو بقيت بعض العنجهيات تنق ببعض الكلمات الشاذة النابية (العنصرية). فالكلمات المتعالية تفوح منها أيضا رائحة كريهة على النفس كالتي سماها رسول الله "دعوها فإنها منتنة".
أنا لا أجهل ما يتبادر إلى الذهن من الاعتراض علي بإسرائيل التي تعتمد القوة في منشئها وبقائها واستمرارها. ومن كانت حياته تعتمد على شيء ميت فهو ميت، وإن خيل إلينا أنه حي وله صخب وضجيج يصم آذاننا. إن مالك بن نبي شبه إسرائيل بالمنديل الأحمر الذي يحمله مصارع الثيران، فالمصارع يلّوح بالمنديل الأحمر حتى يهيج الثور، ولكن الثور بدل أن ينطح المصارع ينطح المنديل الأحمر والمصارع بدوره يطعن على كاهل الثور الهائج. إن في التاريخ لعبرة. إن فرموزا ظلت نحواً من ثلاثين سنة لها حق الفيتو الصيني، ولا يُعترف بالصين ويُعترف بفرموزا. ولكن تخلى الأمريكان عن فرموزا، وإنكلترا عن هونج كونج وعاد حق الفيتو إلى الصين، وإن كان لا يُشرف الصين بهذا الحق غير الحق.
إن الذين يريدون إبقاء الأمل بالسلاح محتجين بإسرائيل فقد استجابوا للهدف الذي من أجله أنشئت إسرائيل لصرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية والانشغال بالمشكلات الثانوية. لقد صدمني مالك بن نبي حين لم يعتبر إسرائيل مشكلة أساسية. وصرت أفهم ويزداد فهمي لهذا أكثر فأكثر إلى أن جاءت حرب الخليج الثانية فقصمت ظهر البعير وفضحت العرب والمسلمين وكل المتخلفين حيث نسينا إسرائيل لما برزت المشكلات التي فينا: الثقافات الخرافية التي ورثناها من الجاهلية. "وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا".
أفكار وتساؤلات
- خبرات للاعتبار
في حرب الخليج فهمنا أن بلداً عربياً قوياً أخطر على كل العرب من إسرائيل ومن وراء إسرائيل. على كل حال إن إسرائيل ستبقى عرضاً للمرض. فحروب إسرائيل لم توقظنا، ففي عام 1948 فسرنا المشكلة بالحكام الرجعيين الخونة الذين باعوا فلسطين أو تخلوا عنها وصرنا معجبين بالانقلابات المزركشة تلو الانقلابات لا تقل رجعية عن رجعية الرجعيين. إن المسلم والعلماني مثل بعض، وإن كانا متخاصمين. فكلاهما تحكمهما ثقافة واحدة تقليدية غير أصيلة وغير واعية ومتعصبة لماض لم نحلله ولحاضر لم نتفهمه. فلهذا لعب العلمانيون دورهم وهم في أفول. ولكن هل الإسلاميون أبعد منهم نظراً وأعمق تحليلاً؟ ربما الذي يأتي من بعدهم أمامه خبرات للإعتبار. فلهذا وإن كانت ظاهرة الأفغان والجزائر مؤلمة ومؤسفة فإن ظاهرة إيران وتركيا تبعثان على أمل لم يكن متوقعاً كثيراً. إننا لم نتفهم ظاهرة إيران جيداً. الثورة الإيرانية وحسب قراءتي للعالم لي نظر خاص بكل من إيران وتركيا. فإيران حدث جديد في العالم الإسلامي لم يسبق له نظير من عهد الراشدين إلى الآن، لأن الأحداث في العالم الإسلامي من زوال الدول والأسر كانت بانقلابات داخلية أسرية. وحسب قانون ابن خلدون في الأجيال الأربعة كانت الأيام تُتداول بين الناس، وكانت الشعوب غائبة. أو كان قواد الجيوش هم الذين يقومون بالتداول. ولكن ثورة إيران ثورة شعب وهي ثورة المرأة قبل الرجل. وهذا حدث كبير وتغيير جذري للرؤية وللحدث. هذه الثورة مثل رائع ومن شدة قوته ربما خفي علينا تفهمه وتفسيره وربما فسره البعض بأنه خارق وشأن إلهي رباني لا يخضع للسنن والقوانين. حين كان الشاه يصدر منع التجول كان الخميني يقول: ينبغي أن تتحدوا الأمر وتكونوا في الشوارع. فيكون النساء مع الرجال إن لم يكّن أمامهم، وهن يقدمن الورود للجنود. وفي مثل هذه المواجهة المرأة فعالة أكثر من الرجل وليست في حاجة إلى تدريب عسكري ولا استخدام سلاح، فقط إعلان أنني حر في اختيار إيماني، أؤمن بهذا وأكفر بهذا واقتلني إن شئت. وفعلا قتلوا ولكن لم يكن ليبقى مكان من يسقط شهيداً فارغاً، بل كان يُشغل فوراً. وهكذا طُرد الشاه بدون أن يطلق عليه نار ولا قذيفة. واستلموا الحكم والسلطة والسيطرة مع كل المآسي والتفجيرات والقتلى والإعدامات ولكن القوة الشعبية قوة غلابة لا تقاوم. هذه القوة جديدة بكل معنى الجدة، ولم يكن نجاحهم كما في الجزائر في صندوق انتخابات. إنه شيء آخر تماماً. ولم يكن مثل الأفغان الذين يريدون أن يحبسوا النساء في البيوت. لم تستطع المعارضة أن تواجه إيران في الداخل رغم مساعدة القوة الخارجية. إن الوعي الداخلي لا يمكن أن تجهضه القوى الخارجية. فلهذا مع كل المشاكل لم يمكن اختراق الثورة الإيرانية وعبرت بسلام، وظلت صامدة ومتحدية مع كل الآلام مع العراق. على كلٍ لا مانع أن أحلم وليعذرني عبد الجبار والقراء إذا قلت أن الإيرانيين كان يمكنهم أن يسيطروا على العراق أيضاً بنفس الأسلوب الذي واجهوا به الشاه. ولكن لم يفعلوا ذلك وسيأتي هذا في وقته كما تتحد الشعوب الأوربية الآن. فإن خميرة الديمقراطية الناشئة في إيران ستثبت أقدامها كما أثبتت الثورة أقدامها بإذن الله تعالى. إن تحدي إيران للديمقراطية والانتخابات الحرة والترشيح لاتجاهين وإن كانا منبثقين من رؤية واحدة لخطوة جديدة. إن ما حدث في الانتخابات الأخيرة في إيران كانت المفاجئة الثانية بعد الثورة للعالم جميعاً، فقد اجتازوا مرحلة الثورة السلمية الناجحة وتقدموا بخطوات ثابتة إلى الديمقراطية. إن هذا الحدث يحمل معاني كثيرة. لقد كانت الصحافة العالمية تراهن على سقوط الديمقراطية، وأنه حتى لو نجح خاتمي لن يُمكَّن. ولكن نجح وتمكن مع كل المعارضات، فلن يتخلى الشعب الإيراني الذي ذاق طعم النجاح وآمن أنه صانع مصيره. نرجو لهم الفلاح إنهم سيكونون طليعة لتعاون إسلامي راسخ يأمنه جيرانه. وهذا رأسمال لا يقدر بأموال وممتلكات، أن يثق بك جارك أن لا تغدر به، وأن تكون في عونه حتى وإن أساء. فهذه علاقة جديدة لا يمكن أن يندس إليها المتلمظون. ونحن نأمل أن تغلب حكمة الحكماء سذاجة بعض الأصوات النشاز. الظاهرة التركية
سبقت تركيا العالم الإسلامي في الثورة على الإسلام، وهم الذين ألغوا الخلافة غير الراشدة. ولكن كما سبقوا العالم الإسلامي في تحدي الإسلام الذي فقد الرشد، فهم الآن يسبقون العالم الإسلامي في تحدي العلمانية والديمقراطية بالعلمانية والديمقراطية. إن هذا التطور الراسخ دليل بإذنه تعالى على أن وعد الله بأن يتم نوره في طريقه الراسخ إلى التحقق محلياً وعالمياً، حيث لم يعد لدعاة القطيعة والحرب ذلك التأييد. فالمؤيدون يقلون والمعارضون يقوون ويترسخون. وسيتحقق علم الله في الإنسان بأنه سيتجاوز الفساد وسفك الدماء، لأن المشكلات صارت قابلة للحل من غير قرابين بشرية. وإن غداً لناظره قريب، "إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً"، ليس إيماناً بالغيب وإنما هذا الغيب صار دليله من عالم الشهادة، نراه في الآفاق والأنفس.
السلام فيما بيننا
ولنعد إلى مشكلة إسرائيل، هذه الظاهرة التي أدت دورها بكفاءة، حيث شغلت العرب عن واجباتهم الإنسانية ومشكلاتهم الداخلية العميقة التي توارثوها خلال القرون. من الأمور اللامفكر فيها مثلاً: السلام فيما بيننا، بينما نفكر ونكثر الحديث عن السلام مع إسرائيل الذي ليس له أساس أو قواعد. ولا يخطر في بالنا التفكير بالسلام مع بعضنا. كان مالك بن نبي يقول: حين نتكلم عن القابلية للاستعمار أكثر مما نتكلم عن الاستعمار نكون بدأنا في سلك طريق الحل. لأن الله والرسول وآدم والشيطان اتفقوا جميعاً على أن المشكلة من عند أنفسنا. يقول الله:" أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم". والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي يدين الضحية أكثر من الظالم لأنه لا يمكن أن يظلم إلا بمعونتنا ومساعدتنا، فإن لم نفعل فسيسقط الظالم. والرسول (ص) يقول في حديث طويل: "من وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". ونحن عندنا استعداد للوم كل أحد ما عدا أنفسنا. وآدم عليه السلام لما أكل من الشجرة هو وزوجه، ولما قال الله لهما: "ألم أنهكما عن تلكما الشجرة قال آدم وزوجه ربنا ظلمنا أنفسنا". ولم يذكروا أن الشيطان أغراهم مع أن الله أخبرنا بذلك، وتحمل آدم وزوجه المسؤولية، ولهذا استخلفا في الأرض. والشيطان أيضا سيقول يوم القيامة للذين اتبعوه: "ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي". وخرج المؤرخ توينبي من عبر التاريخ بأن الحضارات لا تموت شهداء بل انتحاراً ثم تهجم عليها-بعد أن تفقد الروح وتصير جثة هامدة- النسور والعقبان التي تقتات على الجثث. فهذه عبر التاريخ.
لم لا
ولكن لماذا لا نفكر بالسلام فيما بيننا؟ ينبغي أن نبحث. إن تاريخ التناحر الذي عشناه يسد علينا الطرق الأخرى. ولقد قمت بتفحص الجواب على هذا السؤال.
لا نستطيع أن نتصور سلاماً فيما بيننا من غير أن يخسر أحد شيئاً ويربح الجميع. فلا ملك ولا رئيس ولا أمير ولا صاحب مال ولا صاحب أرض يخسر شيئاً، بل يربح الجميع. لما أقول هذا، لا يمكن للناس أن يتصوروه أول الأمر لأنه عندهم مسلمة أن المشكلة لا تحل إلا بإزالة الآخر أو سلبه ما عنده. إن الأوربيين الآن تركوا إزالة الآخر أو سلبه ما عنده. بل يبقى ما عندهم ويزداد، ويربح الجميع. لا يحدث هذا في مجرة بعيدة، وإنما يحدث مع جيراننا التقليديين الذين بيننا وبينهم صلة من زمن الإسكندر، قبل المسيح، إلى يومنا هذا.
إذا كان في هلاك الأمم عبرة في التاريخ كذلك في نجاح الأمم عبرة، لأن التاريخ يشهد للعاقبة السيئة والعاقبة الحسنة. وكلما عرقلت إسرائيل السلام ينبغي أن نخطو نحن إلى السلام فيما بيننا، وأن نعترف بأخطائنا جميعاً، لا أن ندين طرف على طرف. وأنا لا أوجه حديثي هذا إلى الزعماء السياسيين المشغولين جداً بمشاكلهم الآنية جداً. وإنما أتوجه إلى الإنسان العادي، الرجل العادي والمرأة العادية، فقط لأقول له ولها: هناك حل من غير أن يخسر أحد شيئاً ويربح الجميع. أريد أن أضع في فم الإنسان كلمة يستطيع أن ينطق بها من غير أن يشعر أنه مذنب أو خائن أو عميل، لأننا نولد مذنبين ليس من خطيئة آدم كما فسر المسيحيون المشكلة، ولكن مذنبين لأن الثقافة التي نتشربها قبل أن يتيسر لنا الكلام هي ثقافة إزالة الآخر لتوحيد المسلمين. أجزنا الغدر وفرحنا بالغادرين، كأن الغدر يمكن أن يزيل الغدر. إن الخطأ لا يُزال بالخطأ. الخطأ يزال بالصواب.وينبغي أن نتحدث إلى إنساننا كثيراً، ليعرف الذنب الذي يمكن أن يعترف به. نقول له إن كانت الدعوة إلى السلام بين العرب ذنباً من غير أن يخسر أحد شيئاً ويربح الجميع فإنه عندي استعداد أن أرتكب هذا الذنب. فأنا أدعو إلى هذا علناً وليس سراً بل جهراً وليس خفية، وإن كان سيعتبر بعضهم هذا ذنباً. إني فقط أدعو وأبين للناس أنه يمكن أن يربح الجميع. ولا يمكن أن يعترض على هذا إلا من ينكر الآخرين -إلا ذاته- ويفضح نفسه. فعلينا أن نتعلم الكلمات والجمل التي يمكن أن نتكلم بها.
لا نريد أن نصنع الديمقراطية الآن. بل نبدأ بالممكن حتى يطمئن الناس إلى أن هناك رأياً وهناك من يؤمنون بهذا الرأي، وهناك من يتكلمون بهذا الرأي، وهناك من يجتمعون على هذا الرأي. هذه كلمات بسيطة مضيئة. علينا أن نكررها ونذكرها ونجعلها مألوفة، لئلا يقول الناس ما سمعنا بهذا. بل ينبغي أن يسمعوا ويتحدثوا به ويألفوه. على الأقل نشعر في أعماق قلوبنا بإمكان السلام والأمان بين المسلمين والمؤمنين. وإلا فكيف يكون سلام وأمان؟ إذا آمنا بذلك فسنفرح بمن يعمل سلاماً وأماناً بين العرب والمسلمين. وسوف لن نفرح بمن يريد أن يوحد العرب والمسلمين بالسيف. ولنتذكر يا عرب كيف أن بلدين عربيين لما تعاونا في سنة 1973 لمدة وجيزة في حرب تشرين تضامن بقية العرب معهما وحتى الذين لم يكن عندهم خبر تعاونوا معهم، ودهش العالم الآخر وفرح العرب وغلا بترولهم وشعروا بعبور حاجز الرعب. ولكن لنتذكر أيضاً أنه لما تنازع بلدان عربيان في حرب الخليج فشل العرب وذهبت ريحهم وخسروا أموالهم وازدادت شقة الخلاف بينهم. حتى بعد مرور نحو عشر سنوات لا نستطيع أن نواجه بعضنا بعضاً ولا يسلم بعضنا على بعض والرسول يقول خيرهما الذي يبدأ بالسلام. واستعادة الثقة والسلام لا يكون بين عشية وضحاها. لقد صنع العرب وحدة بين مصر وسوريا ولكن فصلت. ولقد مضى على ذلك أربعون عاماً حتى إن الدعوة إلى الوحدة صارت تجلب الامتعاض. كيف يمكن أن يبنى بناء من غير أساس؟ علينا أن نبدأ بالفهم وبعد ذلك بالكلام الذي ينطلق من وعي وقلب سليم. نحن علينا أن نكتشف سبل السلام ونمهد الطريق ليتمكن الناس من سلوكه. إن سبل السلام لم تشق بعد حتى على الخريطة فضلاً عن أن تكون لها واقع من الأرض.
مثالان عن تواطؤات ضمنية
هناك مسلمات غير منطوق بها ولكنها مؤثرة بقوة أكثر من أي معاهدة كتبت ووقع عليها الناس.
التواطؤ الضمني حول الإيمان بالقوة
إن المسلمين تواطؤا ضمنياً من غير إعلان. لما فقدوا الرشد وهو اللاإكراه في الدين وفي السياسة ووقعوا في الغي الذي هو الإكراه في الدين والسياسة فزعوا. ولكن لم يعرفوا كيف يعيدونه وعجزوا عن فهم ذلك فتواطؤا من غير إعلان فيما بينهم أنه من تمكن أن يستعيد الرشد بالقوة والغدر فلا حرج عليه. فهذا لم يصرح به ولكنه فُهم وبُلغ إلى الناس كافة بحيث صار أمراً طبيعياً. وإلى يومنا هذا لم نواجه هذا التواطؤ الضمني بوعي لنتعافى منه. ينبغي أن نعود إلى الرشد. إن الله يقول: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها". لما يقول الله "لا إكراه في الدين" ويقول "قد تبين الرشد من الغي" فهذا يعني أنه لا إكراه في الدين لأن الإكراه هو الغي واللاإكراه هو الرشد. ويؤكد هذا في الجملة الثالثة، فمن يكفر بالطاغوت الذي كيانه كله على الإكراه ويؤمن بالله الذي دينه لا إكراه فيه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
التواطؤ الضمني عن الحق والباطل
ومن التواطؤ الضمني الخاطئ الذي صار مسلماً به ومعترفاً به أيضاً، وإن لم يصرح به أحد، أن الحق والباطل إذا أعطيا فرصاً متكافئة فإن الباطل سينتصر وأن الحق سينهزم. بل ويُظن أن الناس سيختارون الباطل. هذا المفهوم سوء ظن بالله أولاً، وثانياً سوء ظن بالحق وبالإسلام. وفي مثل هذا قال الله: "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية"، ويقول: "ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين". هذا يتعلق بسوء الظن بالله. ومن جانب آخر يعارض القرآن سوء الظن بالحق فيقول أن الحق إذا جاء سيزهق الباطل، لأن الباطل من شأنه الزهوق. "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً"، ولم يقل وقل جاء الباطل وزهق الحق إن الحق كان زهوقاً، كما يظن الكثير بالحق. هذا الظن بالحق موجود في أعماقنا. لقد خوفونا من الباطل خوفاً غير طبيعي وغير حقيقي، والله يقول: "وقل جاء الحق ومايبدئ الباطل وما يعيد". ويقول: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون."
إن هذا الفهم إساءة ظن بالله وبالحق وبالإسلام. كأن الناس إذا أُعطي لهم الخيار سيهجرون الحق والإسلام، وأن الحق لن يجد أعواناً له. وثالثاً هذه إساءة ظن بالإنسان أيضاً، لأن هذا التفكير يظهره على أنه مدفوع إلى الشر أكثر مما هو مدفوع بداعي الخير، بينما الإنسان يرتاح للخير، ولهذا يقول الله: "بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون". إذا انتشر الجهل سيتزين للناس سوء عملهم. لهذا كان واجب البلاغ المبين حتى لا يبقى من لم يصل إليه العلم. والمغضوب عليهم قلة وحتى سبب وجودهم هو كثرة الضالين. لما يُبلَّغ الحق للناس فسينضم أكثر الناس إلى الحق. هذه سنة الله.[[تصنيف:أسئلة من مجلة قضايا إسلامية معاصرة