الفصل الخامس: الإنسان والتاريخ
من Jawdat Said
فوكو ونتيشه ومرجعية التاريخ
لعلك تذكر ما قلته عن فوكو سابقاً حين قال متحدثاً عن قدرات علماء النفس: « إن قدرة المحلل النفسي على فهم المرض العقلي محدودة، فالتحليل النفسي يستطيع أن يفك عقدة بعض أشكال الجنون، لكنه يظل غريباً عن عمل الجنون الأعظم … ثم يشير إلى شكل أساسي من الغيرية يخرج عن متناول العقل والعلم، ثم يلمح إلى أشخاص نجوا بطريقة ما من هذا السجن المعنوي الهائل، واستشفّوا تلك التجربة الأصلية للغباوة التي تستجوبنا أبعد من حدود المجتمع، ثم يتساءل عما إذا كانت هذه الغيرية بداية معارضة جذرية للثقافة الغربية … محاولة فلسفية مميزة لأكثر أشكال الفكر الحديث تقدماً لكنها محكوم عليها بالفشل »، ويقول الذين كتبوا عن فوكو: « إن فوكو ينضم إلى تلك القلة من المفكرين النادرين الذين استشفّوا عمل الجنون الأعظم … ».
كيف نحلل هذه الكلمات؟
بإمكاننا أن نقول: كما يتساءل الطفل عن أصله الجسدي، فإن فوكو يتساءل عن أصله الفكري، وقد صارت له قدرة على توجيه الأسئلة إلى ثقافته، وصار قادراً على الحفر حول جذور ثقافته، إنه بدأ بتوجيه الأسئلة!!..
إن الإعلان عن موت الله - الله بمفهومه الكلاسيكي - من قبل نيتشه، والإعلان عن موت الإنسان من قبل فوكو، يعبر عن نوع من التغير، إنهم بتساؤلاتهم تجاوزوا الله والإنسان، تجاوزوا كونهما مرجعين للمعرفة، ولكن نيتشه وفوكو لم يهتديا إلى المرجعية التي يضعها الله في التاريخ، ولم يكشفا أن بإمكان الإنسان أن يتأمل القانون الذي يحكم الوجود الإنساني، فيبدأ بعد ذلك يلمح الفرجة التي يمكنه أن يبدأ منها بالتدخل في صنع التاريخ والثقافة، ويبدأ بفهم الجدل الكائن بين الإنسان والثقافة، حيث كان الإنسان يصنع الثقافة تلقائياً، ثم بدأ بالمساهمة في صناعة الثقافة بشكل واع، وبأدوات أرضية.