«فريضة الغفران»: الفرق بين المراجعتين

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
سطر ١: سطر ١:
 +
[[صورة:Jawdat.fra.jpg|يسار]]
 +
 
[فريضة الغفران: ليس لنا من خيار سوى فريضة الغفران]*
 
[فريضة الغفران: ليس لنا من خيار سوى فريضة الغفران]*
  
سطر ١٠: سطر ١٢:
  
 
لجون ماري ملر  
 
لجون ماري ملر  
 +
  
  

مراجعة ١٩:١٦، ٧ مايو ٢٠٠٩

Jawdat.fra.jpg

[فريضة الغفران: ليس لنا من خيار سوى فريضة الغفران]*

السبت 4 ـ 10 ـ 2008م 4 ـ شوال ـ 1429هـ


ردًا على نص:

زيارة لجودت سعيد

لجون ماري ملر



" ولكنني أقول لكم أيها السامعون: أحبوا أعدائكم...فإن أحببتم من يحبونكم، فأي فضل لكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يحبون من يحبونهم. "

الإنجيل،الترجمة العربية المشتركة من اللغة الأصلية، بيروت، الطبعة الثانية 2001، أنظر لوقا 6: 27 32 ص 175



"هآنتم أولآء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا أمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور"

آل عمران: 3 ـ 119



بسم الله والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى والآمرين بالقسط من الناس.



يا أخي حواري اللاعنف جون ماري ملر



اللقاء السابق

اللقاء الذي تم بيني وبينك، كان لقاء سعيدًا وأصيلًا وخصبًا. لمّا التقى غاندي الهندي مع رومان رولان الفرنسي، وسلما على بعضهما، قالا: "إننا مواطنان غريبان على هذه الأرض". وأنا لمّا التقيت مع حفيد غاندي، آرون غاندي، في واشنطن، ذكّرته بما قاله جده لرومان رولان، ولكن أضفت بأننا لم نعد مواطنين غريبين. ولما التقيت بعد ذلك بالدالاي لاما، في روما، قلت له تعليقًا على حديث سمعته منه: "إنك ذكرتني بسقراط الذي رفض أن يُنفى أو يُهاجر قائلًا إن البلد الذي سأهاجر إليه مثل هذا الذي سأهجره، ولن أهاجر، وسأتحمل كل ما يصيبني. وحكموا عليه بالموت، وتقبل الحكم الذي صدر عليه بكل أريحية، وشرب كأس سم الشوكران بدون تردد".


وكأنني أتخيل الآن رؤيته للعالم الذي كان يعيشه، ورؤيته لمستقبل الإنسانية، وكيف أنه ضرب المثل للحكماء من بعده كيف ينبغي لهم أن يتصرفوا عند الابتلاء. وقلت للدالاي لاما: "إن سقراط لم يكن يشعر بأنه يمكن أن يجد بلدًا يؤويه، ولكنك، يا دالاي لاما، تُستقبَل اليوم في بلدان كثيرة بكل إجلال وترحاب". فقال لي: "ولكن بلدي يحرم علي أن أعيش فيه". وكان من حديثه أن أحد أتباعه من الذين عُذبوا في معسكرات الاعتقال، لما التقى به قال له: "لقد وصلت إلى درجة خفت معها أن أغير رأيي". قال له الدالاي لاما: "هل خفت من الموت؟". فأجابه: "لا، ولكن خفت أن أفقد حبي للذين يعذبونني، وأصير أكرههم".


إن النص الذي كتبته عن فلسفتي في اللاعنف، يا أخي جون ماري، وعن اللقاء الذي جرى بيننا، حين وسمتني فيه: بأنني "أحد أوائل المفكرين المسلمين من الذين بذلوا جهدًا في إدخال مفهوم اللاعنف في العالم الإسلامي1"، وأن كتابي: "يبدو بلا منازع أصيلًا تمامًا وخصبًا2". هذه الفقرة ذكّرتني بتداعيات كثيرة. فلما التقيت بآرون غاندي كان من حديثه معي أنه يقوم بمشروع كتاب عن عبد الغفار خان، الصديق الحميم لجده غاندي، والذي شهد له غاندي وشهد لأتباعه من قبائل البتهانيين الذين يعيشون في الحدود الشمالية الغربية، بين الباكستان وأفغانستان، بأنهم قاموا بأعمال أسطورية في اللاعنف، وكتب عنه المفكر اللاعنفي الهندي إكناث أسوران3 كتابًا باللغة الإنجليزية 4، وترجمه إلى العربية الأستاذ وديع إبراهيم عطا تحت عنوان: "رجل ولا كل الرجال: بدشاه خان، جندي اللاعنف في الإسلام".


وهناك في واشنطن، في ندوة عن اللاعنف عند المسلمين، التقيت بالداعي اللاعنفي مبارك عوض الفلسطيني، المقدسي، المسيحي، وكذلك اللاعنفي وحيد الدين خان الهندي. وكان من حديثي مع مبارك عوض عن منطلقاتي الفكرية في اللاعنف، وعن كتابي حول قصة ابني آدم في سفر التكوين، أول أسفار العهد القديم، وقصة ابني آدم في آخر سورة بحسب ترتيب النزول في القرآن. قال لي مبارك عوض: "إني لم أترك داعيًا للاعنف إلا وقرأت عنه وسعيت للقائه، ولم أسمع من أحد منهم هذا الأسلوب الذي تدعوا إليه في اللاعنف". في ذلك الوقت أنا لم أنتبه لما قاله مبارك، ولكن لما قلت أنت، يا أخي جون ماري، عن كتابي "مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العالم الإسلامي"5: "إن هذا الكتاب يبدو أصيلًا تمامًا وخصبًا"، جعلني أتذكر قول مبارك عوض، وكيف إنه لم يسمع أحدًا يتناول هذا الموضوع بما أتناوله به. ولما قلتَ أنت بأنه "أصيل وخصب"، شعرت بأنك فهمت عليّ ما أقصد إليه حين تركتُ اللاعنفيين، ورجعت إلى تاريخ وأسطورة. وكما اقتبست أخي جون ماري في نصك، فنعم فالنسبة لي سواء أكان الموضوع يتعلق بحادثة تاريخية أو بقصة رمزية، ما يبدو لي مهمًا، ومركزيًا في هذه القصة هو الطريق الذي تدل عليه لكي ترتقي البشرية إلى مستوى العقل والروح. فليس هناك في موقف ابن آدم الأول "هابيل" أي تردد ولا أدنى شك أو ريبة. إذ يبدو مصممًا وعازمًا على مواجهة نتائج موقفه بمسؤولية كاملة.


هابيل، سقراط، المسيح

إنني أرى روح ابن آدم الأول، هابيل، انبجست في موقف سقراط. إن قصة سقراط لا يمكن أن يقول أحد بأنها أسطورة، إلا من باب ندرة من يقف مثل هذا الموقف الصلب، واللامبالي، والمتحدي، بالعقل وحده، ضد الذين يعتمدون على العضل والعنف. بل وكان سقراط يحتقر عنفهم، ويسخر منه حتى. إن هربرت جورج ويلز في كتابه "معالم تاريخ الإنسانية"6، يقول: " إن الذين استخفوا بالمسيح مثلهم كمثل الذي يرمي الطفل مع ماء غسيله." وألاحظ أن المفكرين الحداثيين وما بعد الحداثيين لا يجرؤون على ذكر اسم المسيح ولا ذكر الإنجيل على ألسنتهم، كأنهم يتلوثون إذا ما ذكروهما. هذه هي بعض أمراض الحضارة العلمانية. كأنّ ما قامت به الكنيسة في أثناء محاكم التفتيش، وعداءها للعلم وللعلماء، والتنكيل بهما، نجح في أن يجعل هؤلاء يرفضون المسيح الذي يقول في الإنجيل: "إن الحجر الذي رذله البناؤون صار حجر الزاوية".


والمسيح قال بالأسلوب العلمي حين تحدث عن الأنبياء الكذبة الذين هم في الظاهر يبدون كالحملان، ولكنهم في الباطن ذئاب خاطفة. جاء في انجيل متى: "إياكم والأنبياء الكذّابين، يجيئونكم بثياب الحملان وهم في باطنهم ذئاب خاطفة"7. ولما سألوه وقالوا: "يا معلم كيف نميز الذئاب عن الحملان؟"، قال لهم: "من ثمارهم تعرفونهم. أيُثمر الشوك عنبا أم العُلّيْق تينا؟ كل شجرة جيدة تحمل ثمرا جيدا، وكل شجرة رديئة تحمل ثمرا رديئا. فما من شجرة جيدة تحمل ثمرا رديئا، وما من شجرة رديئة تحمل ثمرا جيدا، كل شجرة لا تحمل ثمرا جيدا تقطع وترمى في النار. فمن ثمارهم تعرفونهم"8. والفيلسوف راسل الذي قال: "من يقول بأن النار تحرق، يتكلم بأسلوب علمي". قال لما مر بكلمة المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم" قال عنها: "كأنه أسلوب علمي!". ولكن التيار الاجتماعي، وضغطه الساحق، يجعل القادة من الناس، عميان.


وأنا أقول إن الديمقراطية مصطلح مليء. ولكن خلال التاريخ، كشف الإنسان أن الأرض والسماء كلمات ومصطلحات تغير، وتصلح، ما يخطر في بالنا نحن، ولم يعد ما في أذهاننا عن الأرض، وعن السماء، كما كان قبل أن يكتشف الإنسان أن الأرض التي كانت في اعتقاده لا نهاية لها، وكانت مركز الكون، وكانت السماء وأجرامها يدورون حولها، حتى حصل انقلاب فلكي في الكون المادي. ولكن حدث انقلاب آخر اجتماعي أكثر أثرًا، حيث صارت الشعوب التي كانت صغيرة، وحقيرة، ومغلوبة على أمرها، بفضل الديموقراطية، سيدة أمرها، وصارت هي التي تصنع الرؤساء، وتنصبهم، وتعزلهم، وتحدد إمكاناتهم، وسلطتهم التي لم يكن لها حدود.


كأننا لا قدرة لنا على فهم تطور إمكانات الإنسان. إن الإنسان كشف تاريخه الذي كان مجهولًا. لم يكن الناس يعرفون أن الإنسان عاش طويلًا قبل أن يمسك النار من الطبيعة. ثم تعلم كيف يوقدها إذا انطفأت. وتعلم الزراعة ولم يكن قد استأنس الحيوانات بعد. كان يعيش كبقية الكائنات الحية على أكل الثمار مما تنبته الأرض تلقائيًا. واكتشف تحويل الكلام إلى كتاب يُقرأ. وهو ما صار يميز الإنسان عن سائر الحيوانات. وبذلك اكتسبت الأفكار الخُلد بعد أن كانت تموت بموت أصحابها. إن الجهاز العصبي عند الإنسان صار قادرًا، بفضل تطور دماغه، على ربط الأحداث بأسبابها، وتطور معه أيضًا جهاز النطق، وصار الإنسان قادرًا على أن يسمي الأسماء. وبالنطق، صار الإنسان، ينقل ما يتولد في دماغه من أفكار، إلى أخيه الإنسان الآخر.


إن الإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا. وفي القرآن، في سورة النحل، يقول: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون"9. من الواضح إن أحدًا في العالم لا يخرج من بطن أمه يعلم لغة ولا دينًا، ولكن يولد وهو قادر على أن يتعلم اللغة، أي لغة في العالم، وأن يدين بأي دين في العالم. ولكن حين نطبق القاعدة التي قال بها المسيح، يمكن أيضًا أن نميز من الثمار، النبي الصادق عن النبي الكاذب، ونميز الحق عن الباطل، والحقيقة عن الوهم والكذب.


وأنا إلى الآن أجدني، يا أخي جون ماري، لم أقدر على أن أعبر، وأوضح، وأشرح، بقوة، كيف أن حق الفيتو هو سبب رأس الفساد في العالم. وإن الأوربيين يتحدون الآن بفضل الديمقراطية التي يمارسونها، ومن غير أن يرسلوا جيوشًا لفتح بلدان بعضهم بعضًا كما فعل نابليون وهتلر، وباءا بفشل ذريع. وهكذا، بفضل الديموقراطية، صارت دول الجوار الأخرى تتقدم إليهم وتقول اقبلونا بشروطكم، واتركونا ننضم إلى اتحادكم الديموقراطي. وهذا حدث جديد في تاريخ الإنسانية وإلا لن نكون قد فهمنا العلم الذي قال عنه برتراند راسل: "من قال إن النار تحرق، قال بأسلوب علمي". واعترف أيضًا بأن تعريف المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم" أسلوب علمي أيضًا.


وأنت، يا أخي جان ماري ملر، لما ذكرتَ ما ذهبتُ إليه من أن النسخ في القرآن لا يزال ساري المفعول، بحيث إذا جاء الأنفع والأبقى ينسخ الأقل نفعًا والأقل بقاء. القرآن يؤكد بأن: "الزبد يذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"10. نعم هذا هو القانون في الوجود. وأرى أن الاتحاد الأوروبي هو تحقيق لعلم الله في الإنسان حين قال للملائكة: "إني جاعل في الأرض خلفية"11، وقالوا متهمين الإنسان، إنه لا يستأهل الاستخلاف، لأنه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟"، فأجاب بقوله: "إني أعلم ما لا تعلمون"12. وهذه تجربة الاتحاد الأوروبي تصدق علم الله في الإنسان، وتكذب دعوى الملائكة، وتكذب الذين لا يزالون يقتلون الإنسان. إن من شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أن يلغى حكم الإعدام. وتركيا ألغت حكم الإعدام رجاء أن تُقبل في الاتحاد الأوروبي. ونجا الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من الموت إعدامًا.

تأويل أحداث التاريخ

يا أخي جان ماري، أنا معك. وأنت، أراك معي أيضًا، في تأويل أحداث التاريخ. فأنا لما أنظر من مشرق الأرض إلى اليابان، هذا البلد الصغير، والنائي، والذي لم يعرف أحد من البشر جهنم القنبلة النووية غيره، والذي لم يعلن حرب تحرير مثل الجزائر وفيتنام ــ والأمريكان أنفسهم طردوا الاستعمار الإنجليزي من بلادهم بالحرب والعنف ــ ولكن صارت اليابان قوة عظمى في العالم، بعد أمريكا التي تترنح إلى السقوط. واليابانيون ليسوا مسلمين، وليسوا مسيحيين، وليسوا يهودا، ولكنهم من أولاد آدم، لهم عقول، وبفضل الفهم الذي عندهم للعالم، صاروا، بدون حرب تحرير، قوة عظمى عالمية.


ولهذا أنا أقول إن الأمم المتحدة لمّا تتحول إلى ديمقراطية، تؤمن بالديموقراطية حقًا، وتعمل بها حقًا، تتحقق أمنية جميع الأنبياء. وعند ذلك، ستتحقق العدالة، وسيحل السلام العالمي في العالم كله. وهذا صار قريبًا. وأنا قلت في برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة التلفزيونية13 :" إن الحرب ماتت، وفات أوانها، وإن الحرب لا يمارسها إلا الجهلة، والذين يستغلون جهل الجاهلين". وقد التقطت بعد المواقع الإلكترونية كلمتي هذه وهي معروضة مع ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية. وأنا أقول: " كل شيء يصير علمًا يصير عالميًا". وأقول أيضًا: "أن الأنبياء جاؤوا كلهم، بالعلم، وبكلمة السواء، وبالقسط، وبالعدل، وبالسلام".

كلمة سواء

القرآن يقول هذا: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط "14. هذا حديث عن كل الرسل، وكل الأنبياء، الذين نعرفهم وقصصهم موجودة، وأما الأنبياء والرسل الذين لا نعرفهم، ولم يذكرهم القرآن بأسمائهم، فجاءوا بهذا أيضًا15. يقول القرآن: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين"16. يذكر هنا القرآن الدليل العلمي انظروا، أي أنظروا إلى ثمارهم، ونتائج أعمالهم، لتعرفوا من المهتدي ومن الضال، ولتعرفوا الحق من الباطل. وفي القرآن آية تقول: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"17.


أنا أفهم من هذا النداء: "يا أهل الكتاب"، ليس فقط الذين نزلت عليهم كتب من السماء. ففي أيامنا هذه كل من يعرف القراءة صار من أهل كتاب، لأنه امتلك القدرة والوسيلة على دراسة كل الأديان، وكل الأفكار البشرية. وأنا أقول، وأكرر، إذا وصلت الديمقراطية إلى الأمم المتحدة تكون كلمة السواء، ودعوة الأنبياء قد تحققت. وأرى في أي دستور ديمقراطي حرية العقيدة، وحرية التصور، وحرية الدعوة إلى هذه العقيدة وهذا التصور. فليتصور وليعتقد من شاء بما شاء. وإذا استطاع أن يقنع الناس بعقائده وتصوراته، من غير لجوء إلى العنف، فحلال عليه.


إن الدعوة إلى كلمة السواء، هي الكلمة التي توضع في أي معادلة رياضية (=)، خطان أفقيان متوازيان، أي أضع بيني وبينك وبين العالم، هذه الكلمة التي رمزها الرياضي (=). وبهذا القانون قامت الأجرام السماوية في أفلاكها ولو اختل توازن الجذب والطرد، لتهاوى الكون، أو انفك وانفرط. وبقاء الأجرام في أفلاكها راجع لهذا العدل، وهذا التعادل، وهذا التوازن، وهذه المساواة (=)، التي بنيت بها وعلى أساسها.

إن هذا القانون الذي يحكم أجرام السماوات هو القانون نفسه الذي يحكم المجتمعات أيضًا. فالمجتمع الذي لا مساواة فيه يسقط، ويخر، وينفك، وينحل. والتاريخ أكبر شاهد على ذلك. فكما لم يَحُل، عدم استخدام السلاح، وعدم امتلاكه أصلًا، بين اليابان، وبين أن تصل إلى قوة عالمية عظمى، فكذلك لم يحم الاتحاد السوفييتي من التمزق، والتفكك، والانحلال، حتى وهو متخم بالقنابل النووية، ولم يهاجمه عدو من الخارج، وإنما سقط من الداخل، بالنخر الداخلي، وساهم في سقوطه النضال اللاعنفي الداخلي للمنشقين اللاعنفيين18. والقرآن يعتبر هذه الأحداث أدلة على أن العنف، وكل أدواته، لا سلطان لهم على الإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه، وحمل الأمانة التي عرضها الله "على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان"19. فإن لم يحم هذه الأمانة، وضيعها، "كان ظلومًا جهولًا"20.


وفي التوراة في سفر الأمثال، يقول: "أنا الفهم لي القدرة، وغلتي خير من الذهب الإبريز والفضة المختارة، وكل جواهرك لا تساويها". وفي الإنجيل: "تعرفون الحق والحق يحرركم"21. وفيه كذلك: "كل من أخذ بالسف بالسيف يهلك"22. وفيه أيضًا: "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء". والذي دعاني لأن أسمي كتابي مذهب ابن آدم في اللاعنف، هو ورود هذه القصة في التوراة، في أول أسفار العهد القديم، كما وردت في القرآن في آخر سورة حسب ترتيب نزول القرآن. وأتباع هذه الكتب يمثلون أكثر من نصف البشرية، وهم ينتشرون في جميع القارات، وسيضطرون إلى قبول الديمقراطية التي هي ابتكار إنساني على أساس العلم والمعرفة. وإن الكون كله بدون استثناء مسخر للإنسان خاضع له هذا في التوراة والقرآن. والقرآن يقول: "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط"23، ويقول: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"24. وإذا تعاملتم مع الناس فبالإحسان: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم"25.

القرآن وحرية الأفكار

والقرآن يعطي الحرية للأفكار، "فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر"26 الكفر ليس له عقوبة في الدنيا، وللكافر البر والقسط، كما للمؤمن. والمحرم على الإنسان، إكراه الناس وتعنيفهم على عقيدة معينة، سواء كان إيمانًا أو كفرًا. أي سواء كان اعتناقًا أو تركًا. الكافر والمؤمن، بعقيدة ما، سواء في هذا، ليس لأحد منهما الحق في فرض أفكاره وعقائده بالإكراه وبالعنف. ولكل الحق، وفق كلمة السواء، في الدعوة إلى أي مبدًا ما لم يمارس الإكراه والتعنيف. لأن الإكراه والتعنيف ضد الإنسان، لا يصنع إيمانًا ولا كفرًا. ودين الله لا إكراه فيه. والذي يقبل الموت، وهو يرفض الإكراه والعنف، ويتمسك بحق الإيمان بما يشاء، يكون على مذهب ابن آدم، ومذهب سقراط، وكل الذين يوفون بعهد الله، وعهد حرية الإنسان في اعتقاداته. وقد وصل العقل الإنساني إلى هذا المبدأ بابتكارهم وسيلة الديمقراطية. والأتراك سبقوا بقية المسلمين في الإيمان بالديمقراطية حين قالوا لأمريكا لما طلبت منهم المرور من بلادهم في حربها على العراق: "سنستشير الشعب". ورئيس الجمهورية التركية، في أول خطاب له، أعلن إيمانهم بالديمقراطية. والذي يقنع الشعب بأفكاره له الحق في قيادتهم، وله الحق في حماية الحريات. وطريق اللاعنف يساوي [ = ] اللاإكراه في العقدية، وفي السياسة، وفي بناء الأسرة، وفي البيع، وفي الشراء على حد سواء.

في اليوم الثاني من شهر أبريل من العام 2008 للميلاد، زارني في قريتي، في بئرعجم، السفير الهندي في دمشق. كأنه سمع بوجود من يدعو إلى اللاعنف في سورية. وكان من حديثي معه أن قلت له: "يشرفني أن يزورني ممثل الهند، بلد غاندي. وأريد أن أنقل إليك كيف ينظر إليكم أحد الناس الذي هو أنا. أنتم أكبر بلد ديمقراطي في العالم. وعددكم أكبر من مجموع الاتحاد السوفييتي، ومعه الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الولايات المتحدة. فأنتم أكبر من مجموع هؤلاء جميعًا. وعندكم في بلادكم جميع الطوائف، والمذاهب الإسلامية، كما في بلادكم جميع المذاهب المسيحية، والأديان الشرقية، وأنتم ديمقراطية. أما ما أعرفه عن غاندي، بحيث لو كنتم أوفياء لمبادئه، لما صنعتم قنبلة نووية. وغاندي، بحسب ما أعرفه عنه، لم يكن يفرق بين الهندي الذي يظلم الهنود وبين الإنكليزي الذي يظلم الهنود. وأنتم الآن ربما مرشحون لمقعد دائم في الأمم المتحدة، فإذا قبلتم أن يكون لكم حق الفيتو ستسقطون من أعيننا. وإن ما نريده منكم أن تسعوا إلى إلغاء هذا البند الظالم، لعل الأمم المتحدة تصير ديمقراطية".

ونحن لا نخاف أن تنهزم العدالة في العالم. لأن الذين يرفضون العدالة هم أصحاب الإمتيازات. ولن يتنازلوا عن امتيازاتهم طواعية. والذين يفهمون معنى العدالة هم المحرومون الفقراء الذين يمثلون 80% من سكان الأرض والذين لا ينالهم إلا 20% من كسب البشر وثروة العالم.

ونحن الذين نؤمن بالعدالة علينا أن نقوم بتوعية أنفسنا وتوعية الآخرين. وأنا ممتن جدًا لك، يا أخي جون ماري، يا أيها الناصر للوعي بمؤلفاتك الكثيرة، التي تنقل من خلالها الوعي إلى الناس. ولقد قرأت جزءًا مما جرت به ريشتك. وسأقرأ، وأعيد القراءة، كيف تسعى لفتح أعين الناس على أمور يجهلها الذين يئسوا من إمكان التغيير الاجتماعي، كل في محيطه، ووسطه، ومجاله، من دون أن نغفل لحظة عن مساعي كبار العالم في الاحتفاظ بامتيازاتهم التي أعطوها لأنفسهم حين كسبوا الحرب بالحرب وبالعنف. وإذا صار عندنا وعي بما حدث، سنستحضر في كل قراراتهم لو أن هتلر كان هو الذي نجح في الحرب هل كان في إمكانه أن يصنع أمم متحدة أسوأ مما هي عليه؟!! . إن ولز، صاحب كتاب، معالم تاريخ الإنسانية، يقول: "إن من له أدنى إطلاع على الكتب السماوية سيعلم، وإذا علم، سيرفض اتخاذ بعض البشر الألوهية". إن "حق" الفيتو تأله على الضعفاء.

موسى وفرعون

إن أطول قصص القرآن المكررة بإيجاز شديد تارة، وبإفاضة مطولة تارة أخرى، هي قصة موسى وفرعون، حيث ورد اسم موسى أكثر من مئة مرة، واسم فرعون أكثر من سبعين مرة. وتجد القرآن يُنطِق فرعون وهامان وقارون والسحرة والنساء والجنود... "فحشر فنادى فقال أنا ربك الأعلى"27. وقال: "ما علمت لكم من إله غيري"28. وقال: "لئن اتخذت إلهًا غيري لأجعلنك من المسجونين"29. و"قال آمنتم له قبل أن آذن لكم"30. "قال فرعون آمنتم له قبل آن آذن لكم"31 . وقال: "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"32.

ولكن الله يقول عن فرعون: "وما أمر فرعون برشيد"33. وقد خاطب فرعون الملأ: "قال آمنتم له قبل أن آذن لكم"34 . لا يجوز لأحد أن يؤمن بشيء إلا من بعد إذنه. وكذلك حصل لإبراهيم مع الذي آتاه الله الملك، ومع أبيه. وحصل لنوح وسائر الأنبياء، ولسقراط، ولغاندي، ولك أخي جان ماري ملر. وسيضطر الناس جميعًا إلى أن يتّحدوا مثل ما تتحد أوروبا. والدعاة إلى اللاعنف يمهدون الطريق إلى هذا الاتحاد على فريضة العدالة حتى لا يبقى أحد فوق القانون. وفي كلام تحدث به النبي محمد يحمل هذا المعنى، قال: "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه القانون"35. وبهذا ينكر الأنبياء الإمتيازات لبعض الناس أن يكونوا فوق القانون مثل النمرود الذي جادل إبراهيم لما قال: "ربي الذي يحيي ويميت"، فقال الملك "أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب، فبهت الذي كفر"36.

الكفر في منهج الأنبياء هو الظلم. والإيمان في منهجهم هو العدل بين الناس، كل الناس. والعدل هو دين الله خالق هذا الكون. والله هو الذي وضع سنن الأجرام السماوية، وهو الذي وضع سنن المجتمعات. يقول القرآن: "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة"37. ويقول القرآن، كقانون عام: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"38. ويقول: "وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون"39. يا أخي جون ماري ملر، لقد جعلتني أكبر إيمانًا بما أدعو إليه من الإيمان بمستقبل الإنسان. يقول القرآن عن الرسل والأنبياء: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا"40.


خاتمة

يا أخي جون مار ملر، إن الدنيا لم تبتدئ عندنا، ولن تنتهي عندنا. ونرجو أن نتعاون "على البر والتقوى"41، ولا نتعاون "على الإثم والعدوان"42. وأن نحرص على التواصي "بالحق" والتواصي "بالصبر"43.

وبدأ الإنسان يفهم، لكي يكون لحياته معنى، عليه أن يؤمن أن وجودنا في هذا العالم ليس عبثًا، ولا باطلًا، ولا لعبًا، بل إن حياة الإنسان وسعادته أن يخدم قضية. وأعظم القضايا أن يتوقف الفساد وسفك الدماء. وعار كبير على الناس وعلينا أننا مازلنا يقتل بعضنا بعضًا.

شكرًا لك أخي جان ماري، يا ابن آدم. وسنظل أوفياء للإنسان مهما أخطأ. إن من مواعظ المسيح حين سئل كم مرة يخطئ معي أخي وأنا أغفر له هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: "لا أقول لك سبع بل سبعين مرة سبع مرات"44. أي ليس لنا إلا الغفران. وكان من آخر كلماته في هذه الحياة: اللهم "اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" 45.


وشكرًا لك أخي اللاعنفي جون ماري ملر.

ولتكن حياتنا في خدمة الإنسان.

والمسيح جاء لِـيَـخْـدِمَ لا لِـيُـخـدَم.



أخوك

جودت سعيد

بئر عجم ــ سوريا

11ـ 10ـ 2008


الهوامش

1 زيارة لجودت سعيد، جون ماري ملر، ص 1، 2008، ترجمة محمد علي عبد الجليل.

2 نفسه، ص1.

3 ترعرع إكناث أسوران في الهند في عهد غاندي في أثناء بلوغ عبد الغفار خان أوج مجده. ولقاء أسوران بغاندي وخان، ومراقبته المباشرة والمتفانية لحياتهما، أقنعاه أن عبد الغفار خان يجسم بصورة كاملة التحول الذي أسماه غاندي "لاعنف البواسل". وأسوران اختار مجرى لحياة حافلة بالنشاط، فكان كاتبا وخطيبا، وأستاذا للأدب الإنجليزي قبل قدومه إلى الولايات المتحدة في برنامج فلبرايت للتبادل. وفي سنة 1960 للميلاد أسس مركز الجبل الأزرق، للعبادة والتأملات في بيركلي بكلفورنيا، وهو يحاضر بانتظام عن غاندي، والتعبد، والتقاليد الروحية للديانات العظمى في العالم. يراجع كتاب "رجل ولا كل الرجال: بدشاه خان، جندي اللاعنف في الإسلام" لإكناث أسوران، ترجمة وديع إبراهيم عطا، منشورات المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، القدس، الطبعة الأولى 1987. بتصرف.

4 . A MAN TO MATCH HIS MOUNTAINS: Badshah Khan, Nonviolent soldier of Islam; By Eknath Easwaran;

ترجمة وديع إبراهيم عطا، منشورات المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، القدس، الطبعة الأولى 1987.

5 مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العالم الإسلامي، جودت سعيد، دار الفكر المعاصر، بيروت ـ لبنان، الطبعة الخامسة 1993.

6 معالم تاريخ الإنسانية، هـ. ج. ولز، أربع مجلدات، الهيئة المصرية للطباعة، سلسلة الألف كتاب الثاني، طبعة 1994.

7 متى 7: 15.

8 متى 7: 16، 17، 18، 19 ، 20

9 النحل، 78.

10 الرعد، 17.

11 البقرة، 30.

12 البقرة، 30.

13 أنظر نص المقابلة باللغة العربية على الرابط http://www.aljazeera.net/Channel/archive/archive?ArchiveId=90935

راجع مقالة"أعلن نهاية الحرب"، للمؤلف، مجلة المجلة، العدد 1034 ويمكن مراجعة كل الأعمال الكاملة لجودت سعيد على موقعيه: www.jawdatsaid.net

14 الحديد، 25.

15 "وهذا مجال آخر من البحث لتحديد القواسم المشتركة بين الأنبياء لنتعرف على الذين يحملون هذه الخصائص، ويمكن أن أقول ربما سقراط يمكن أن يكون موضع دراسة فيما إذا كان يمكن ضمه إليهم بعد تحديد خصائص النبوة، لما كان يتصف به من الصدق والأمانة والإصرار على تبليغ ما كان يشعر أنه مكلف بإشاعة ما أُلهٍمه. كما يمكن عرض أسماء آخرين ليكونوا موضع تأمل وقد يكون سقراط وإبكتوتس مرشحين للبحث فيهم....... والاعتراف برسل لم يرد ذكرهم في القرآن يفتح الباب لرسل تنطبق عليهم مواصفات الرسل.... وهذا منهج وتصور يحذف العنصرية بين البشر، ويعترف بكل الدعاة والداعين إلى العدل والإحسان. فيكون هذا أسلوبا ناجحا لجمع البشرية إلى كلمة السواء من غير أن نبخس مُصلحا حقه. ويضاف إلى هذا أن القرآن يعترف بأنه لا توجد أمة لا رسول لها، وأن كل الأمم أُرسل لها رسول."ولقد بعثنا في كل أمة رسول" النحل:16 ـ 36.ط راجع فصل: "الرسل الذين يقصصهم الله علينا"، الدين والقانون: رؤية قرآنية، للمؤلف، ص 34.

16 النحل، 39.

17 آل عمران، 64.

18 يمكن مراجعة حركة نضال المنشقين اللاعنفيين، مثل فلادمير بوكوفسكي، وزاخروف عالم الفيزياء النووية ومؤسس السلاح النووي للاتحاد السوفياتي، وألكسوندر سولجينيتسين صاحب مؤلف أرخبيل الكولاك.

19 الأحزاب، 72.

20 الأحزاب، 72.

21 يوحنا 8: 32.

22 متى 26: 52.

23 آل عمران، 18.

24 النساء، 58.

25 فصلت، 35.

26 الكهف، 29.

27 النازعات، 23.

28 القصص، 38.

29 الشعراء، 29.

30 طه، 20.

31 الأعراف، 123.

32 غافر، 29.

33 هود، 97.

34 الشعراء، 29.

35 النص الحرفي للحديث: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه ‏ ‏الحد، ‏ ‏وايم الله لو أن ‏ ‏فاطمة بنت محمد ‏ ‏سرقت لقطعت يدها)، حديث حسن صحيح، أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

36 البقرة، 258.

37 الأنفال، 42.

38 هود، 117.

39 القصص، 59.

40 يوسف، 110.

41 المائدة، 2.

42 المائدة، 2.

43 العصر، 3.

44 متى، 31: 18.

45 لوقا، 23: 33.


  • عنوان المقال من اختيار الأخ إدريس. والعناوين الفرعية من اختيار بشر.