سنة التغيير سنة عامة
من Jawdat Said
من كتاب ((حتى يغيروا ما بأنفسهم))
سنة التغيير سُنَّةٌ عَامةٌ للبَشرِ
في آية التغيير تغييران: تغيير الله وتغيير القوم
وينبغي أن لا تفوتنا هذه الملاحظة. لأن نص الآية، على حسب قواعد الإعراب، أن فاعل التغيير الأول، المذكور في الآية، هو الله سبحانه وتعالى، وفاعل التغيير الثاني، هم القوم، أو المجتمع، وإن كانت القدرة التغييرية الثانية، هي هبة من الله تعالى للقوم وإقدار منه تعالى للمجتمع على ذلك. وعلينا أن لا ننسى هذا التوزيع في العملية التغييرية، لأنه كثيراً ما يغيب عنَّا ما يخص الإنسان من التغيير، ويختلط علينا الأمر، وهذا الغموض، يفقد الإنسان ميزته وإيجابيته في عملية التغيير.
وإن أي ظن، أو طمع، في أن يحدث الله هذا التغيير الذي جعله من خصوصياته – إلا وهو الجانب الذي يتعلق بما بالقوم وليس بما بالنفس –قبل أن يكون القوم هم بأنفسهم قاموا بتغيير ما بأنفسهم.
إن هذا الظن، والإغفال لهذه السنة الدقيقة المحكمة، يبطل النتائج المترتبة على سنة هذه الآية.
في الآية ترتيب بين حدوث التغييرين
والتغيير الذي ينبغي أن يحدث أولاً، هو التغيير الذي جعله الله مهمة القوم وواجبهم، بأقدار الله تعالى لهم على ذلك. وإن حدوث أي تهاون في الخلط بين التغييرين، وإدخال التغيير الذي يحدثه الله بالتغيير الذي يقوم به القوم، أو العكس، يفقد الآية فعاليتها، وتضيع فائدة السنة الموجودة فيها.
والرجاء، بأن يحدث الله التغيير الذي يخصه، قبل أن يقوم القوم (المجتمع) بالتغيير الذي خصَّهم الله به، يكون – هذا النظر – مخالفاً لنص الآية، وبالتالي إبطالاً لمكانة الإنسان، وأمانته، ومسؤوليته، ولما منحه الله من مقام الخلافة على أرضه. لأن هذا التحديد في مجالات التغيير، وهذا الترتيب فيما ينبغي أن يحصل أولاً، وما يحدث تالياً، هو الذي يضع البشر أمام مسؤولية حوادث التاريخ. ومن هذه النافذة، يمكن إبصار أثر البشر، في أحداث التاريخ ومسؤوليتهم إزاءها.
وعلينا أن نؤكد هذه القواعد دون كلل أو ملل، لأن عدم الانتباه إليها فاشٍ بين الناس، والذين ينتبهون إليها،لا يعطونها قدرها، فلابد من تذكرها دائماً وإعطائها قدرها، حتى يرتفع هذا الإدراك ويبلغ المستوى الذي لا يسمح بمرور الأفكار والكلمات، التي تعودنا أن نسمعها أو نتحدث بها، إزاء تفسير أحداث التاريخ، برؤية الجانب الذي يحدثه الله، دون إدراك علاقته بالجانب الذي يخص القوم وأوليته أيضاً كما سنبينه فيما بعد.
وعلينا أن نوقف هذا التيار – الذي يعم مختلف طبقات المجتمع، في التفسير المتناقض لأحداث التاريخ – التيار الذي تّبْطُل معه مسؤولية البشر، أو يجعلها غير بارزة، أو يجعلها مستورة، بينما يبرز الجانب الذي يخص الله:
« وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ». النحل – 33.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
مجال كل من التغييرين تغيير الله وتغيير القوم
إن مجال التغيير الذي يحدثه الله، هو ما بالقوم، والتغيير الذي أسنده الله إلى القوم،مجاله ما بأنفس القوم.
« ما بقوم » يشمل الكثير، ويشمل أول ما يشمل ما يمكن أن يلاحظ ويرى من أوصاف المجتمع ؛ من الغنى والفقر، والعزة والذلة، والصحة والسقم. وينبغي أن نتذكر هنا، أن القصد ليس الفرد، كل فرد بذاته، وإنما المجتمع العام. وأن التغيير الذي يحدثه الله من الصحة والسقم، والغنى والفقر، والعزة والذلة، إنما يعود إلى القوم بمجموعهم لا إلى فرد محدد. إذ يحدث أن يغني القوم، ولكن ليس معنى هذا أن لا يبقى فيهم فقير. كما يحدث أن يفقر المجتمع، وليس معناه أيضاً أن لا يبقى فيهم شخص غني. وكذلك الأمر بالنسبة للصحة والسقم، قد يصيب القوم السقم، ولكن لا يشترط أن يصاب كل منهم بسقم، كما قد يصيب القوم الصحة ولكن لا يشترط أن لا يبقى فيهم سقيم. ونؤكد مرة أخرى ما سبق أن بيناه، من أن السنَّة التي في الآية ليست فردية، وإنما اجتماعية، وهذا يقتضي منَّا: أن تكون لدينا القدرة على النظر إلى المجتمع (القوم) ككائن واحد بمجموعه وهذه نظرة قرآنية بكل معنى الكلمة حيث يقول الله تعالى:
« لكل أمَّة أجل » الأعراف – 34 -، وقال: « ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون » - 43 – المؤمنون.
فهذا الأجل هنا ليس أجل الفرد وإنما هو أجل الأمة، لأن للامة وللمجتمع كياناً يكون حياً به وعلى أساسه يأتيه الأجل، ولا يشترط أن يكون أفراده ماتوا، ولكن الكيان الذي كان للامة مات وذهب، كمجتمع الفراعنة، ذهب ولم تبق له باقية، لا بهلاك أفراده وإنما بذهاب كيانه. وهذا ما جعل محمد إقبال يقول في أن أجل الأمة الإسلامية إلى قيام الساعة:
أمَّة الإسلام تأبى الأجَلا أصلُها الميثاق في قالوا بلى
إشارة إلى قوله تعالى: « ألست بربكم قالوا بلى » الأعراف – 172.
فالنظر إلى المجتمع كفرد، سهل لنا فهم التغيير الذي يحدث فيه.
مثلاً: يمكن النظر إلى المجتمع على أساس الصحة والسقم، باعتبار عدد الأصحاء في المجتمع، فإذا كان نسبة الذين يتمتعون بصحة كاملة هي 50% من المجتمع، فإن هذا المجتمع أقل نعمة من المجتمع الذي نسبة الأصحاء فيه تبلغ 90% من أفراده. كما أنه لا شك أن مصلحة الفرد أن يعيش في مجتمع 90% من أهله أصحاء بدلاً من أن يعيش في مجتمع 50% منه فقط الذين يتمتعون بصحة جيدة وكاملة.
علينا أن لا ننسى هذا سنَّة دنيوية، لا سنَّة أخروية. وكذلك الأمر بالنسبة للغنى والفقر.
هذا ويمكن أن يفصل في هذا الموضوع بأدق وأكثر مما ذكر الآن.
وعلينا أن نعود إلى مجال هذا التغيير، الذي يحدثه الله بما بالقوم. كما أن مما يدل على صحة هذا التفسير الذي سقناه لمعنى « ما بقوم » في قوله تعالى:
« إن الله لا يغير ما بقوم.. »
إنه يشمل الغنى والفقر، والصحة والسقم، والعزة والذلة – ما ورد في سورة الأنفال من استبدال كلمة « ما » في سورة الرعد بكلمة « نِعْمَة » حيث قال:
« ذلك بأن الله لم يك مُغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الأنفال – 53 -.
إذ أن كلمة نعمة أخص من كلمة « ما » لأن كلمة « ما » تشمل النعمة والنقمة، كما أن كلمة النعمة عامة أيضاً في جميع أنواع النعم ولاسيما وأنها جاءت نكرة.
فكلمة « نعمة » تشمل الصحة، وهي من أكبر النعم ويقول صلى الله عليه وسلم في ذلك: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والرزق نعمة وكذلك الغنى، وسلامة الأعضاء، ونجابة الأولاد، ونظافة المساكن، والمودة والحب والإخاء.
« فأصبحتم بنعمته إخواناً » آل عمران – 103.
والتراحم والإيثار، واللين والشدة، كل في مكانها، « فبما رحمة من الله لنت لهم » آل عمران 159، « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » إبراهيم 34.
كل هذه النعم ما ذكر منها وما لم يذكر، وما يقابلها من النقم: متضمنة في قوله تعالى:
« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الرعد – 11 -.
هذه هي التغييرات التي يحدثها الله تعالى بالأقوام.
وأما التغييرات التي يحدثها الأقوام، فإن الله تعالى علَّقها بما بالأنفس. فما هذا الذي بالأنفس وهل للبشر قُدرةٌ على تغييره بما مكنهم الله فيه؟
إن المراد بما بالأنفس: الأفكار، والمفاهيم، والظنون، في مجالي الشعور واللاشعور. وملاحظة الارتباط بين التغييرين، وتمكُّن الإنسان من استخدام سنن التغيير، يعطي للإنسان سيطرة على سنَّة التاريخ، وسيطرة على صنعه وتوجيهه.
وفي الواقع إن ابن خلدون لمح هذا الجانب ببصيرة نفَّاذة، وأدرك أنه لمح شيئاً خطيراً لم يُسبق إليه في إقامة لبرهان، وإن سُبق إليه في ذكر العنوان. وابن خلدون هو فلتة من فلتات الزمان، كما يقال عادة، حين تخفى عوامل السنن في الأحداث، إذ ألقى ضوءاً كبيراً في هذا المجال. ولكن المشكلة أنه كما لم يسبقه أحد، كذلك لم يتبعه أحد من بعده أيضاً في العالم الإسلامي، إذ أنَّ هذا المنهج قد بدأ به ابن خلدون، ثم توقف من بعده.
ومما يلاحظ على ابن خلدون أنه كشف السنَّة كشيء حتمي لا كسنَّة يمكن السيطرة عليها. ومع ذلك فإن الجانب الذي اعتنى به ابن خلدون ؛ هو الذي يمكن الإنسان من لجام الزمان آخر الأمر.
ولخطورة ما اهتدى إليه ابن خلدون، استحق أن يقول عنه أشهر مؤرخي العصر، والذي يمسك بزمام فلسفة التاريخ الآن، وهو توينبي قال عن المقدمة: « إنه أعظم عمل من نوعه أمكن أن يبتكره عقل من العقول، في أي عصر من العصور، في أي رَجَاً من أرجاء الأرض »(1).
ويعتبر محمد إقبال: « تصور الوجود حركة مستمرة في الزمان ». ] هذه الفكرة هي أبرز ما نجده في نظر ابن خلدون إلى التاريخ، مما يسوغ ما أضفاه عليه (فلنت) من مدح وثناء إذ يقول: « إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون، وكل من عداهم غير جديرين بأن يذكروا إلى جانبه » [(2).
ونحن سنذكر شيئاً مما قاله ابن خلدون عن تفسير ما بالقوم وتحديده، ثم بعد ذلك نشير إلى ضرورة الاطلاع على ما وراء تلك التغييرات، التي تلحق الأقوام مما سميناه نحن التغيير الخاص بالله تعالى.
يقول ابن خلدون: (… ولم أترك شيئاً في أوليَّة الأجيال والدول، وأسباب التصرف والحَوْل، وما يعرض في العمران من دولة وملَّة، ومدينةٍ وحَلَّة، وعِزَّةٍ وذِلَّة، وكثرة وقِلَّة، وعلم وصناعة، وبَدْو وحَضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جُمَلَهُ، وأوضحت براهينه وعِلَلَهُ، فجاء هذا الكتاب فذاً بما ضَمَّنْتُهُ من العلوم الغربية، والحكم المحْجُوْبَةِ القريبة، وأنا من بعدها مُوقنٌ بالقُصُور بين أهل العصور معترف بالعجز، راغب من أهل اليد البيضاء … النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والاعترافُ من اللوم مًنْجاة والحُسنى من الأخوان مرتجاة)(1).
وابن خلدون له من التطلع إلى ما وراء الأحداث من أسباب، سواء كانت هذه الأحداث دولاً ومللاً، وعزَّة وذلة، وكثرة وقلة. فإن ما يذكره ابن خلدون هو هذه الأشياء الظاهرة مما بالقوم، من غنى وفقر، وصحة وسقم، وعزة وذلة.
فهذه الأشياء هي التغيير الذي يحدثه الله في نص الآية. وابن خلدون صار له من التطلع إلى مبررات ومسببات هذه النعم والنقم، لما بالأقوام والدول والملل، ما دعاه إلى أن يُعمل فكره فوصل إلى ما وصل إليه وهو يقول في ذلك:
« فإن التاريخ في ظاهره، لا يزيد على أخبار من الأيام والدول … وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق … وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق ».
فهذا الذي يسميه ابن خلدون باطن التاريخ ؛ هو الذي سميناه القسم الخاص بالأقوام، في تغيير ما بالأنفس مما أقدرهم الله عليه، وعلى أساسه حملهم أمانته. وابن خلدون يربط التغيير الأول بالتغيير الثاني، ولكن بعد هذا لم يلح على كيفية قيام البشر بهذا الواجب. ولا حرج عليه فهو يدرك أهمية ما كشف ويشعر بإمكان زيادته. وفي الواقع إن القارئ العادي قد لا يعطي لابن خلدون قيمته الحقيقية، لأن الذي يعرف الفضل من الناس ذووه، فإن من عرف وتمرس على معرفة (كيف بدأ الخلق)، هو الذي يقدر ما فعل ابن خلدون. أما من لا يعرف كيف وجدت العلوم، ولا كيف تقدمت، ويظن أن الأمر وجد هكذا، فهذا لا يمكنه أن يقدر عمل ابن خلدون، وقد كان ابن خلدون يعرف طبيعة عمله حين قال عن كتابه: لإنه ضمنه علوماً غريبة، وحكماً محجوبة قريبة، فهذه المحجوبة القريبة هي التي تخفى على الناس، ولهذا قال ابن خلدون، في عبقرية نفاذة، عن المؤرخين واستيعابهم للأخبار وجمعهم لها: « … وأدَّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها فالتحقيق قليل، والتقليد في الآدميين عريق وسليل، والتطفل على الفنون عريض وطويل … فللعُمران طبائع في أحواله، ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الروايات والآثار … ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسَّقوا أخبارها مسبقاً … لا يعترضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها، ولا علَّة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى اقتفاء أحوال مبادئ الدول ومراتبها، مفتشاً عن المقنع في تباينها أو تناسبها » ص11.
إن عدم إدراك مشكلة العالم الإسلامي بهذا المستوى، هو الذي يجعل شباب العالم الإسلامي متطلعاً إلى افتقاد أحوال مبادئ المشكلة.
إن ابن خلدون جعل محور بحثه عن الدول، ولكن إدراك الموضوع على أساس الحضارة، ينطبق عليه نفس النظر. وهذا ما يحتاج إليه العالم الإسلامي لبحثه كثقافة حضارة لا كدولة، إذ الدولة جزء من الحضارة ونتاج لها.
وما أحوج العالم الإسلامي والعالم كله، إلى بذل ما يستحقه البحث في أصول الحضارة في هذا العصر، كما فعل ابن خلدون، مع اختلاف المستوى، ولكن الروح التي بدأ بها ابن خلدون بحثه، هي التي تجعل كل من ينظر إليه لا يتمالك من الإعجاب مع قصور كثير من أمثلته ومباحثه قال:
(ولما طالعت كتب القوم، وسبرت غَوْرَ الأمس واليوم، نبَّهتُ عَيْنَ القريحة من سنة الغَفْلةِ والنوم.. فأنشأتُ في التاريخ كتاباً، ورفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حِجَاباً، وفَصَّلتُهُ في الأخبار والاعتبار باباً باباً، وأبديتُ فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً، فذهبت مناحيه تهذيباً، وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً، واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مُبْتَدَعَةً وأسلوباً، وشرحت فيه من أحوال العُمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني عن العوارض الذاتية ما يُمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويُعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال من قَبلكَ من الأيام والأجيال وما بعدك). ص 11.