خاتمة كتاب مذهب ابن آدم الأول
من Jawdat Said
خاتمة
محتويات
التطرُّف وذهاب العلم
إن طرح موضوع التطرف للحوار يعتبر تقدماً، ومبشراً بالأمل في إمكان تجاوز المشكلة أو قرب تجاوزها.
نقول هذا لنون في جانب المتفائلين المبشرين الميسرين، من غير أن نقلل من قيمة الصعوبات التي تعترض هذا التجاوز، ويتطلبه من إعادة نظر في كثير من المسلمات التي طال عليها الأمد وأحاط بها الغموض، أو من التخلي عن أفكار ظلت عزيزة علينا.
إن بحث مثل هذه يبدأ يراود بعض الأذهان، ثم تنتقل المراودة الفكرية التي ربما يتردد أصحابها في الإعراب عنها، من المناجاة الذاتية إلى همسات بين نفر قليل. ثم تبدأ بعد ذلك تتسرب إلى أن يبدأ الشعور بضرورة طرح البحث للحوار والمداولة العامة دون تحرج، وقد يتسرع البعض فيخرجون من منطقة أمان البحث، مما يؤدي إلى علاقات باردة أو متوترة، وانشقاقات تطيل من آلام المخاض للانتقال إلى عالم جديد تقلُّ فيه المشكلات، ويتعافى الناس فيه من دفع غرامات المعرفة ضرائب من القلق والعرق والدماء.
ومع اعترافنا بضآلة إمكاناتنا، التي لا تتناسب مع ما يحتاج إليه مجرد طرح المشكلة على الحوار بشكل مهذب، مع ذلك فإننا نتفاءل، لأننا نحس بخلفية المشكلة التي مرت بمراحل فرضت على أصحابها المرور بمناطق صعبة التضاريس، أكسبتهم كثيراً من النظرات التي تفتقر بيئتنا التقليدية إلى إعارة الانتباه إليها.
وحين لا ندرك ما عاناه هؤلاء الكتاب والمفكرون، حتى وصلوا إلى القدرة على الكتابة بشكل يخاطب عقل القارئ ويهذب من انفعالاته، حين لا ندرك ذلك تخفى علينا العمليات الكبرى التي تحدث في نفوس الناس ليصلوا إلى هذه المرتبة، مما يؤدي إلى التقليل من قيمة البحث والدرس، والاستفادة من البيئة الأوسع مدى وهي: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ] الأحزاب 33/38 [.
كذلك الأمر، عندما ينسب الباحث ما اهتدى إليه خاصية في ذاته، أو إلى تجرده وموضوعيته، ويسد أمام ناشئتنا طريقة رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس، وهي طريقة اكتساب المعرفة بالنظر إلى (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ] العنكبوت 29/20 [.
وتحت عنوان هذه الطريقة القرآنية، ينبغي أن نعيد أسلوب نظراتنا التقليدية، وترتيب متاعنا الفكري، الذي نحكم به على العالم المحيط بنا.
وهي طريقة ليست معبدة، ولا تناولها ميسر في بيئتنا الثقافية التي تحتاج إلى إحداث تغييرات جذرية في طرائق المعرفة ومصادرها:
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ] الأنفال 8/53 [.
النصوص المجردة عن الدعم بالعلم
إن أسلوب التعويض الذي نمارسه في رفع قدر آيات الله في الكتاب، تعوزه القدرة على إظهار آيات الله في الآفاق والأنفس، التي تتطلب سيراً في الأرض، وإحصاءً لأيام الله، ونظراً إلى عاقبة الذين خلوا من قبل، ورؤية لسنة الله التي لن تجدها لها تبديلاً، ولن تجد لها تحويلاً.
وبما أننا لا نملك قدماً راسخة في هذا الموضوع، ولا نقدر على تبسيط العلم شأن الربانيين الذين يعلمون الكتاب ويدرسونه، تكون الأمثلة التي تخطر لنا غير مهضومة، والتي نقدر على قبولها أو تمثلها غير مطوعة لنا. فمن تقدم إلى رهان العالم بشاهِدَيْ آيات الله في الآفاق والأنفس، فستحكم له سنة الله بالغلب، وستخضع له أعناق الناس طوعاً واستسلاماً، وإن استعصى عليه جيل بسبب من الآصار والأغلال، فستسلم الأجيال اللاحقة.
(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ] المجادلة 58/21 [.
(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ] ص 38/88 [.
إن الذي يعلم كيف بدأ الله الخلق، سيكشف أن «الله يعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف، وأن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يخلو من شيء إلا شانه».
إن الوعظ بهذا الحديث عن لم يتدعم بآيات الله في الآفاق والأنفس ليأخذ مكانه الصحيح في القانون العام، فستضيع قيمته في خضم الأحداث الجزئية.
وهنا ربما يمكن أن تظهر ضآلة قيمة العلاج بالنصوص، حين تفقد هذه النصوص الدعم بآيات الله في الآفاق والأنفس، وخاصة في الابتلاء الجديد الذي نعايشه. ولكي تؤدي النصوص دورها الإيجابي، لابد أن تأخذ آيات الآفاق والأنفس دورها الإيجابي أيضاً وهذا الدور يمكن أن يظهر جلياً في الحوار الذي بين رسول الله ص وبين ابن لبيد حين اعترض هذا الصحابي على حكم رسول الله ص انطلاقاً من فعالية النصوص المجردة من الدعم بالعلم (آيات الله في الآفاق والأنفس).
وقد ذكر هذا الحوار ابن كثير وصححه عند تفسير قوله تعالى:
(لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْإِثْمَ) ] المائدة 5/63 [.
قال «ذكر النبي ص شيئاً فقال: وذاك عند ذهاب العلم.
قلنا يا رسول الله وكيف يذهب العلم؟ ونحن قرأنا القرآن ونُقْرِئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئون أبناءهم. فقال:
«ثكلتك أمك يا ابن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة. أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيها بشيء».
ويمكن أن يعتبر هذا الحوار مدخلاً مهماً إلى المشكلة التي المسلمون وسواهم، من النصوص التي يتجاذبونها ويتطارحونها، سواء في طريقة ثبوت النص (علم الرواية)، الذي توسع فيه المسلمون، أو في دلالة النص على المعنى المراد (علم الدراية) الذي هو ضئيل الحجم بالنسبة إلى علم الرواية.
وفي غياب العلم الذي ضاع مفهومه عندنا، عزَّ الشفاء من الأدواء بواسطة النصوص، وخاصة بالأسلوب الذي نتناولها به. ففي حديث ابن لبيد ـ السابق ذكره ـ نجد اختلافاً في الفهم بين الرسول ص وبين صاحبه (رضي الله عنه).
فرسول الله w يشرح مشكلة من مشكلات المجتمع التي تحدث عند ذهاب العلم، والصحابي يعترض بأن النصوص معنا ونورثها أبناءنا، ولكن الرسول w لم ينقض له رأيه بنص قرآني آخر، أو بأنه لا ينطق عن الهوى. وإنما يرده إلى الاعتبار بحدث من الوقائع الاجتماعية التاريخية، حدث له تاريخه وحاضره المشاهد. ورسول الله ص هنا يُري الصحابي آيات الله في الآفاق والنفس، ويسنُّ لنا بذلك أهمية الاستدلال بالأحداث التاريخية في الاهتداء إلى الحق.
فالعلم المذكور في هذا الحديث النبوي مفسر بالسابقة التاريخية.
وقد ننتحل أساليب لاستنباط أن آيات الكتاب كافية، ونستدل بأحاديث وآيات أخرى تحثُّ على التمسك بالكتاب والسُّنَّة.
ولكن المراد بحديث ابن لبيد ألا نعضَّ على الكتاب والسنة بالنواجذ، وإنما المراد أن الشفاء الذي نبغيه بهما يحتاج إلى شروط معينة في الإنسان ومعرفة بالسوابق التاريخية، لأن النص وحده في ظل ظروف معينة لا يحل المشكلة، فلا بد من العلم الذي يشهد لآيات الكتاب بأنها حق..
(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) ] المدثر 74/31 [.
إن الفقراء في معرفة آيات الله في الآفاق والأنفس، لا تزكو على أيديهم أموال ولا أنفس، ولا ينتفعون من كتاب ولا من سنة.. ويظلون ينشدون:
بأيديهم نوران ذِكْرُ وسُنَّةُ فما بالهم في حالكِ الظُّلُماتِ
ونموذج العلم في حديث ابن لبيد، هو رؤية حدث تاريخي لقوم معهم كتاب سماوي لا ينتفعون مما فيه بشيء، وهذه الحالة يمكن أن تجري أيضاً على المسلمين، ومزايا القرآن الكريم عن الكتب السماوية لا تنسخ الاستدلال بالسوابق التاريخية، التي أكد القرآن الكريم كثيراً على الاستدلال بها، فيما ذكره من أخبار الأمم السابقة، لأن البشر يخضعون لسنن ثابتة، وإن الله يأمرنا بالاعتبار وليس هناك اعتبار بمن لا يشبهنا ولا نشبهه.
وكما يقول لبن تيمية في تعريف سنة الله: «أن يُفعل في الثاني ما فُعل في الأول».
وقد عانى من قبلنا من مشكلة التعامل المجرد مع النصوص، ففي وصية الإمام علي بن أبي طالب لابن عباس، رضي الله عنهما، أن يتجنب مناقشة النص مع الخوارج، وأن يناقشهم في السنة العملية لأن مجال التأويل في النصوص واسع، وهذه المعاناة جعلت ابن تيمية يصرح بأن مجرد الرد إلى الكتاب والسنة ليس حلاً للمشكلة، لأن لكل طائفة مفاهيمها الخاصة التي تفسر بها الكتاب والسنة. والمعروف في التاريخ أن الذين دعوا إلى تحكيم كتاب الله في الخلاف بين المسلمين، لم يكونوا أنزه الطرفين المتنازعين ولا أبرأهم من الهوى.
ويذكر ابن تيمية قاعدة هامة: «إن الحرام في الشرع ما هو ضار دائماً أو غالباً، وأن الواجب ما هو نافع دائماً أو غالياً».
ولقد ذكر ابن قيم الجوزية في (أعلام الموقعين) هذه القاعدة، وذكر عليها مثالاً: (الخروج على الحكام) فذكر أن هذا الأمر مثال على الضار غالباً، وأن الشرع حرم الخروج أو نهى عنه لمثل هذه الاعتبارات.
كما أن ابن خلدون حكم على الخارجين من دعاة إقامة أحكام القرآن عند الأزمات، بأنهم يغفلون عن سنن الله في نشأة الدول والممالك واستمرارها..
إن مثل هذه الأحكام إنما تُسقى من المعرفة الدقيقة لأحداث التاريخ، تلك المعرفة التي ترشد إلى أهداف النصوص وتصحح فهمنا لها. والحاصل أن الذي يجعل النصوص تأخذ منحاها، في توجيهها وتحديدها وأسباب سياقها وأهدافها، ويقطع الجدال فيها، إنما يأتي من آيبات الله في الآفاق والأنفس.
إن موضوع معرفة (كيف بدأ الله الخلق) لا يزال غامضاً عائم المفهومية في ثقافتنا، لا نجد له خلفية تدل على مفهوم محدد ومنهج معين، فهو يحتاج إلى دراسات وبحوث.
وبما أن موضوعه يتصل بتاريخ كل شيء، فكأنه تاريخ الوجود كله، فكل موضوع له تاريخ، وتاريخه هو الذي يبين كيف بدأ خلقه.
ولقد عاش الناس آلاف السنين يؤمنون بفكرة خاطئة عن الشمس التي يُضرب المثل في الوضوح، إذ كانوا يعتقدون بأنها هي التي تدور حول الأرض، وإذا بالنظر الظاهري ينقلب رأساً على عقب من جراء تأمل آيات الله في الآفاق. والذي نريده من هذا الأمر هو كيف أن النصوص المقدسة كانت تستخدم لإزهاق أرواح المخالفين.
فإذا كان البشر يقعون في مثل ذلك الخطأ، ويخرجون من نتيجة العلم وتأمل آيات الله في الآفاق، فيمكن لنا أن نتصور ذلك في الموضوع الآتي الشبيه به:
لو علمنا الآن من عوامل سلوك البشر والمجتمعات وأسرارها، كما علمنا من حقائق الفلك، لحدث لنا انقلاب في فهم سلوك البشر، ولتغير نظرنا إلى الآيات المتعلقة به، ولتردد كثير من هؤلاء الذين عندهم استعداد تام لتقديم أنفسهم وغيرهم قرابيين وأضاحي لآرائهم التي ينسبونها إلى الله تعالى، ولكان لهم موقف مختلف. وهنا ستشهد آيات الله في الآفاق والأنفس بالحق لما نزل من عند الحق، لا لآرائنا التي سيطرت علينا والتي لا نعرف كيف بدأ خلق سيطرتها علينا، ولا العوامل التي أوجدتها أو التي رسختها وزادت في تمكنها.
(قل هو من عند أنفسكم)
فلو حدث لنا اطلاع على عوامل سلوك البشر كما حصل لنا بعض الاطلاع على سنن الله في خلق السموات والأرض والشمس والقمر لتوجهت النصوص وجهة أخرى، ولعلمنا أن النصوص تهتم بالعوامل الداخلية في الأمم التي تصاب بالنكبات، أكثر من التوجه إلى المظاهر التي تجلب النكبات أو تصاحبها أو تقع على يدها، ولتغير أسلوبنا في الحديث عن مؤامرات الأعداء، ومخططاتهم ومسارعات أذنابهم، ولعلمنا أن مفتاح الفعالية للمؤامرات والمخططات موجود عندنا.
ولعل القرآن الكريم هو المتفرد في تاريخ النصوص المأثورة، الذي يعطي الاهتمام في معالجة مشكلات المجتمع، للظلم الذي يوقعه المظلومون على أنفسهم، أكثر من الظلم الذي يقترفه الآخرون ضدهم، وحديث رسول الله ص: «من وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه». يؤكد ذلك.
ونحن عندنا استعداد لنتصيد كبش الفداء من لا شيء، شرط أن تظل ذواتنا مقدسة غير قابلة للوم.
ويمكن أن نفهم في ضوء آيات الآفاق والأنفس، أن الذي جعل آدم أهلاً للاستخلاف في الأرض أنه استطاع أن يجتاز الامتحان الكبير حين وقع في الخطيئة، فقال: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) ] الأعراف 7/23 [.
ولم يسقط كما سقط إبليس حين قال: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) ] الأعراف 7/16 [.
بهذا الاعتراف الصعب والاجتياز المبين استأهل آدم سجود الملائكة له. ولكن أسلوب الشيطان يغرينا كثيراً، ولا نحب الذي يتحدث إلينا عن المسلك الذي اختاره آدم.
ولعل مثل هذا النظر هو الذي وجه موعظة الإنجيل إلى خراف بني إسرائيل بأنهم أبناء إبليس، وليسوا أبناء إبراهيم عليه السلام.
أسلوب (لأقْتُلَنَّكَ)
وآيات الآفاق والأنفس تفيد في فهم أهداف النصوص، وتحديدها، كما كرنا.. وتفيد أيضاً في رؤية الوسائل البديلة التي يصل بها الإنسان إلى غاياته، فمن شأن الإنسان أن يظل متمسكاً بالأسلوب الذي تعود أن يحل به مشكلاته، ولاسيما التي تتعلق ببقائه الحيوي والاجتماعي، إلى أن يجد بديلاً عن ذلك الأسلوب أحسن كفاءة وأحسن عُقبى.
فلو تصورنا إنساناً متعلقاً بدعامة واهية على شفا هاوية، فليس الذي يجعله يترك دعامته أن نقلل من قيمتها وجدواها. وإنما أن نقدم له ما ينفذه من الخطر الذي هو فيه. فحين نبرز له البديل ونجعله في متناوله إدراكاً واقتداراً، فسوف يترك ما هو فيه.
وفي بعض الأحيان ـ مثلاً ـ تُسول للإنسان نفسه أن قتل الباطل أسهل عليه من إبراز الحق جاهلاً أن الباطل يزول حين يجيء الحق.
ولا يظهر لنا هذا الأمر بوضوح إلا إذا كان لنا تصور أوفى لما عاناه الإنسان في تاريخه الطويل من عهد ابن آدم الأول الذي قتل أخاه إلى يومنا هذا.
إن الميل إلى أسلوب (لأقْتُلَنَّكَ) أسهل من تأمل الأسباب المجدية التي تجعل المساعي ناجحة والأعمال متقلبة.
إن رؤية البديل وتقديمه أمر ضروري، وبدونه يكون من السهل تجاهل سعينا وإهماله وعدم الالتفات إليه. ورؤية البدائل ليست أمراً سهلاً، فقد تكون البدائل موجودة ـ وهي موجودة فعلاً ـ ولكن دون إبصارها مفاوز:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) ] يوسف 12/105 [.
وكما استحق ابن لبيد أن يقول له رسول الله ص: «ثكلتك أمك يا ابن لبيد»، ثم ننبهه إلى واقع اجتماعي معاش، يمكن أن نقول: أوليس هذه اليابان وألمانيا قد استطاعتا أن تتجاوز أزمة من أقسى الأزمات بحرمانها من هذا الذي نظن أن المشاكل لا تحل إلا به، وهو الوسائل العنيفة العتيقة التي يواجه العالم أزمة التخلص منها. إن ألمانيا واليابان لم تفعلا ما فعلتاه اختياراً، وإنما اضطراراً مع الاستسلام الرهيب بدون قيد أو شرط. وبهذا استطعنا في مدى جيل واحد أن تنقذا نفسيهما وماء وجههما بغير الوسائل العسكرية والعنف، وأظهرتا لمن يريد أن يعتبر أنه بمكن التغلب على المشكلات بوسائل العلم.
إنها لآية جديرة بالتأمل والدراسة والاعتبار «فمن كان له أذنان للسمع فليسمع».
لكن كيف نعتبر بسوابق العالم التاريخية، وسوابقنا التاريخية لا نحسن تمثلها!
فمع التشديد المؤكد على الاقتداء بصاحب الرسالة محمد ص، وبالرغم من إعادة الحكمة المأثورة: (إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)، نجد أننا لا نلاحظ أن الرسول ص لم يصل إلى الحكم بوسائل العنف، وإنما بالتسليم الطوعي له والقبول به.
الجهاد والخروج
ولكن المشكلة التي ضاعت مفاتيحها وإدراك سُننها وشروطها الدقيقة في خضم الفتن المتتالية، هي تحليل مفهوم الجهاد الذي قام به الرسول ص، واختلاط هذا الجهاد بجهاد الخوارج.
وهنا ينبغي أن نشير إلى ما ينبغي أن يتوفر فيمن توضع في يده أمانة دماء الناس وأموالهم. فإن تنفيذ الحدود وممارسة الجهاد يحتاج من يتقلدها أن يكون مؤهلاً لحمل الأمانة، وأن يكون وصل إلى حيث هو بدون خرق هذه الشروط. فحين تبيح لنفسك أن تخرج على من يخالفك في النظر، فقد أبَحت له أن يفعل هذا. وإن هذه الطريق الصعبة هي التي ألزمت الرسول ص المضطهدين هذا الانضباط الصعب، فلم يسمح الرسول ص المضطهدين لأحد منهم أن يمارس حتى حق الدفاع الفردي عن النفس الذي يباح في ظروف أخرى، ولم يشذ عن هذه القاعدة أحد من أصحابه.
إنه تدريب على التأهيل، حتى لا تتحكم فيهم الأهواء حين يُستخلَفون في الأرض.
وحسب ما نرى: هذا هو سبب هذه الظاهرة المهمة ظاهرة منع ممارسة العنف أو الخروج في نشأة المجتمع الإسلامي الأول. فليس الأمر مجرد عهد مكي أو مدني ولا راشدي أو أموي.. المغزى أن قطع دابر الخروج لا يكون بالخروج، وأن النصوص التي تحذر من الخروج تكافئ التي ترغب في الجهاد.
إن آيات الآفاق والأنفس هي التي ستزيل الاشتباه بين الجهاد والخروج، وتضع حداً يمنع من الالتباس الذي يؤدي إلى النزاع (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ] ص 38/88 [.
وبغير هذا سوف تضيع قيمة النصوص والأحاديث الواردة في أبواب الفتن في كتب السُّنة، والتي تصل إلى درجة أن يقول: قلت يا رسول الله أرأيت إن دخل عليَّ بيتي، وبسط يده ليقتلني؟! قال: فقال رسول الله ص: «كن كابن آدم»، وتلا يزيد بن خالد الرملي (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني..) الآية، وفي حديث آخر: أرأيت إن دخل عليَّ بيتي؟! قال: «فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف، فألقِ ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه».
ثم أن هذه السنة التي تنشأ المجتمع الأول عليها تقطع تسلسل الخطأ حيث لا تبرر إزالة الخطأ، إن الذين لا يهضمون هذه الأفكار ولا يراعونها، ويتجاوزونها في نظراتهم المستعجلة، سيفاجؤون بما لم يحتسبوه.. سيفاجؤون بأن الحكم الذي كانوا يظنون أنه شفاء من كل داء، إنما هو مرآة تعكس سيئات المجتمع على أتم بشاعته وعنفوانه.. وسيتبين لهم أن هذا الأسلوب الذي استخدموه مع مخالفيهم في الرأي، سيرجع إليهم وسيوجد في الأمة من لا يرضى عن سلوكهم ولو كانوا في عدل علي ورحمة عثمان (رضي الله عنهما).
إني لست متنبئاً ولا متكهناً.. ولكن من له نظر في آيات الله في الآفاق والأنفس وسُنته فيهما، سيعلم أن سنة الله أن يُفعل في الثاني ما فُعل في الأول، ومن نظر بهذا سيرى مواقع الفتن كمواقع المطر.
وإنا لعلى يقين من ضآلة الذي نطلع به على آيات الله في الآفاق والأنفس، كما أننا على يقين من أن الذين تيسر لهم نصيب أوفر، سيرون أسباب المشاكل السلوكية ويقدرون على حلها.. وسوف يُعافى المجتمع من العوامل التي تحمل أهله على أن يذيق بعضهم بأس بعض، كما عُفي الناس من الأوبئة التي كانت تصيب أبدانهم.. ولمثل هذا فليعمل العاملون.
العنف مرض العصر
إن مرض العنف ليس مرض الشباب فقط، وإن كانوا أجرأ على حمله.
إن العالم مله مريض بتلك الجرثومة ؛ اليمين منه واليسار على السواء، وحتى الزوايا المطوية من سرائر الصوفية تجد فيها الجينات التي تحمل هذه المورثات الثقافية.
إن الموضوع يحتاج إلى انقلاب شامل في سلوك البشر، فنحن لا نزال في مرحلة التصديق لتهمة الملائكة لبني آدم بالفساد في الأرض وسفك الدماء.
(قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ] البقرة 2/30 [.
إننا نحمل جرثومة ابن آدم الفاشل الذي لم ُيتقبل قربانه، والذي كان أسلوبه في علاج المشكلة أن قال لأخيه: (لأقْتُلَنَّكَ) ] المائدة 5/27 [.
ومن قبل نتذكر كيف واجه بنو إسرائيل موسى (عليه السلام) حسن قال له: (… أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) ] الأعراف 7/129 [.
قال موسى في جوابه الممزوج بالألم والأسى:
(عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ] الأعراف 7/129 [.
حقيقة المشكلة
إن المشكلة ليست أن نتبوأ مكان الخليفة أو فرعون، ولكن المشكلة كيف سنعمل بعد ذلك، وما المؤهلات التي عندنا لنساهم ببناء البيئة التي نتطلع إليها.
ولو توجهنا بوضوح وبلاغ مبين إلى أن نضع هذه المهمة المقدسة أمام ضمائر شبابنا المتطلع بشوق وحرقة إلى حياة شريفة وكريمة لوجدناهم يقومون بهذا العمل المقدس الذي يحتاج إلى قوة الشباب، وحيوية الشباب، وبراءة الشباب.
إنهم سيقومون بهذا الواجب أيضاً احسن منا.
وإني لأتوجه إلى الله تعالى بكلمات آدم حين هوى:
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) ] الأعراف 7/23 [.
لعله يتوب علينا ويهدي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
جودت سعيد