خاتمة كتاب اقرأ وربك الأكرم
من Jawdat Said
كل إنسان إذا ما قام بعمل ما، ثم التفت إلى هذا العمل يتأمل فيه، يرى فيه جوانب إيجابية تشعره ببعض الرضا ويرى فيه أيضاً جوانب سلبية وقصوراً يشعره بعدم التمام أو تفاهة ما قام به، وأنا حين ألتفت إلى عملي هذا أشعر أنني تناولت موضوعات هامة ولكن بأسلوب هابط وقصور، وربما يمكن أن أقول زيفت القضايا، وقد يعتبره الناقد في مستوى معين أنها خيانة للموضوعات التي نريد الدفاع عنها. مثل موضوع القراءة مع أهميتها البالغة، فإن التناول كان هزيلاً ومبتوراً وحيراً، إذ كيف سيهتدي إلى الصواب في طوفان الخيالات، وكيف سيتمكن من أن يمسك بالنور ليشق الظلمات وكيف سيمسك بالميزان ليميز الزبد مما ينفع الناس، أو تحت أي مجهر سيكشف كيف يستبعد الجراثيم المتوطنة والخيالات الخانقة. إن الخلاص من هذا التيه لا يتيسر بالجهود المعهودة ولا بد من جهود حالة الطوارئ، ومن محولات لرفع الطاقات إلى أضعاف مضاعفة كما يحدث لبدء الحركة في أي محرك لآلةٍ ما، كما لا بد أن نلتمس مراجع غير التي تعودنا عليها، لأن تلك لم تعط إلا هذا الواقع الذي لا نرضى عنه.
إن عمر القراءة خمسة آلاف عام تقريباً، وعمر الورق الذي أعطى الفعالية للقراءة ألف وخمسمائة عام، أما عمر الطباعة فأربعمائة عام فقط. ولكن كم عمر الكاتب الحقيقي الذي سيستغل كل هذه النجاحات التي تتكون ببطء متسارع.
جميع دول العالم وأسر المجتمعات تهتم بإرسال أولادها إلى المدرسة لتعلم القراءة والكتابة، ولكن أين هؤلاء الذين سيستغلون هذا الجهد ليكتبوا ما سيقرؤه هؤلاء الذين هُيئوا لأن يقرؤا. إن ميراث وظيفة النبوة كامن في هذه النقطة، أين الذين يقدرون أن يسلبوا النوم من عيوننا لنسهر على قراءة ما يكتبون. كان هوميروس يقول في أسف لقد وجد أبطال كثيرون، ولكن واأسفاه لم يوجد الشعراء الذين سيخلدون مآثرهم وبطولاتهم. وأنا أقول لقد وجدت الأدوات والوسائل ولكن لم يوجد بعد من يكتب ما يبعث نهم القراءة أو لم يوجد من يكتب بعد ما يستحق القراءة - في أسلوب مفهوم - أي لم يأت بعد ورثة الأنبياء بجدارة. هذا ما قال عنه إقبال، إنّ الناي يبتغي من ينفخ فيه فهل في صدرك نفس.
في غابة الشرق ناي يبتغي نفساً يا شاعر الشرق هل في صدرك النفس
آه، لقد شوهتُ الفكرة ولم أقدر أن أبين أهميتها، لماذا؟ لأني أفقد البيان وما يعطي البيان، والعلم بالبيان، والإنسان هو البيان (خلق الإنسان علمه البيان) هكذا أشعر أنني عرضت أفكاراً في منتهى الأهمية بشكل هزيل متروكة في ظلمات الخفاء، ولم تبرز إلى الضياء، ألم تكن الكهرباء مبثوثة في الكون في كل مكان، ولكن لم يتمكن الإنسان من اعتقال الكهرباء وتسخيرها في مجالات لا نهائية إلا بعد أن أمسك بها من خلال الظلمات إلى أن أضاء العالم بالنور، وهكذا وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. والكاتب والكتاب المبين هو الذي يخرج الحي من الميت، وهم الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، وأنه ما خلق عبثاً ولا باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. إن السموات والأرض تحتوي على أجنة سلطان الإنسان. اعكف على هذا المنجم واسجد على عتبة هذا المعبد لأن هناك نشأة آخرة، ولأن هناك (ثم أنشأناه خلقاً آخر).
وتناولت... العقل والعلم. ولكن اعتذاري وخجلي اللامتناهي منهما كيف أنني تركتهما لا يزالان تحت الأنقاض ويُقضى في غيابهما الأمرُ وهما لا يستشاران. وهما حضور. وإلى الآن العلم والعقل مخلوقات قاصرة لا يسمح لهما بحضور المجتمعات إلا إذا كانا سيقومان بدور المتملق الذي يشهد بالزور وينصرف، تتبعهما النظرات التي تحدد تبعيتهما للهوى المتربع على عرش التاريخ الذي لم يفقد من سلطانه شيئاً، اعتذاري للعقل والعلم في أني لم أكن نَصيرهما الذي يرفع من قدرهما. أين الكاتب الذي يزكو العلم والعقل على يده، ويتضاءل سلطان الهوى في حضرته؟
ثم كيف تركت موضوع التوحيد، وقيمته العلمية والعقلية وما في المسؤولية الفردية يوم القيامة. إنها نباتات لم تظهر بعد، إنها كبذور كامنة، وسيكون لهما شأن في المستقبل، فإن لم يكن اهتم بهما أحد ليس معناه أن لا قيمة لهما.
ثم موضوع تحكم الصور الذهنية في الحقائق الخارجية وأن الحقائق الخارجية هي المرجع الوحيد للاهتداء إلى الصواب موضوع مطمور.
ثم كان مروري بالآبائية وعالم الأشخاص مروراً رفيقاً بحيث لا يوقظ نائماً، ولا يزعج مستيقظاً، ولقد عرضت أسماء وشخصيات، وهدفي القضاء على عالم الأشخاص، ولكن ربما رسخت الآبائية التي أريد إزالتها. والآبائية لها جانبان سلبيان وبينهما الجانب الإيجابي.
إن نبذ الآباء رجوع إلى الكهف، والوقوف عندما وصلوا إليه إيقاف للتاريخ، والجانب الإيجابي هو الاستفادة والتجاوز دائماً، وهل أكون مخطئاً إن حاولت التخلص من عالم الأشخاص بعالم الأشخاص؟ أليس في تاريخ الأشخاص ما يعين على التخلص من سلبيات الأشخاص؟ أظن ذلك ومع هذا أشعر بكل أسف أن ما كتبت إنما فيه سكوت وتغطية للجانب السلبي الذي سعيت لإزالته، ولم يكن سعيي لصالح الجانب الإيجابي بوضوح مضيء.
أرجو أن أكون قد قمت بذكر هذه الملاحظات بعملية مراجعة ذاتية مقدماً، ومع ذلك أشعر أن هذه البذور ستؤتي أكلها حين تقوم بدور مراكب النجاة من طوفان الدمار، لأن التاريخ علمنا أن علاجه ليس رفيقاً بل أنه يأخذ الثمن باهظاً (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
إن هذا الأخذ الأليم الشديد الذي ظل ملازماً للتاريخ يمكن تفاديه. والرحمن الرحيم لم يكن ليجعل الطريق الوحيدة لفتح الباب بكسره فقط. هذه هي ضريبة الإعجاب بلمعان الفولاذ والإعراض عن قتامة سن القلم. ولهذا فضلت الأسلوب الهادئ وغير المزعج، وذلك لأهيئ الجو الذي يمكن من التفهم بهدوء دون إثارة انفعال ونفور وبغية التمكن من مخاطبة أكثر عدد من القراء بود وتفاهم، ولم أحاول أن أقول: إننا بحاجة إلى ابستمولوجيا جديدة لتحملها انتلجنسيا رائدة لنتخلص من الدغمائية الهابطة والميثولوجيات المتغلغلة أو الثيولوجيات الخانقة ولطالما قرر علماؤنا أن لا مساحة في الاصطلاح والمهم أن نفهم المعنى ثم كل واحد يستعمل اللغة التي تساعد على الفهم الميسر والعلم بالبيان وكل ما أوصل إلى فهم الحقائق بأيسر السبل فهو الأولى.