تعميم مبدأ اللاإكراه
من Jawdat Said
فكرة (ما ينفع الناس) أساسية لأخذ تصور صحيح عن الوجود وطبيعته، لأن أي تصور آخر هو تصور تشاؤمي يأساوي قاطع لطريق العمل والاجتهاد، ومثبط للهمم.
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) البقرة: 2/255.
لا إكراه في السياسة قد تبين الرشد من الغي.
فإذا كان اللاإكراه واجباً في الدين الذي هو أقدس المقدسات، فمن باب أولى ألاّ يكون هناك إكراه فيما دون ذلك، فباستطاعتك أن تقول: لاإكراه في السياسة، لاإكراه في المذاهب، لاإكراه في القناعات، ولا يوجد: افهم هذا وإلا قتلتك، ولكن يوجد: افهم هذا الذي دليله كذا وكذا، وإن لم تفهم فإن على كلِّ منا أن يجتهد في توضيح الفهم الذي يتبناه، ولا يجوز له أن يتجاوز إلى: إن لم تفهم سأقتلك وسأخرجك من ديارك.
لا يزال في العالم قتل لأجل الدين، وإخراج من الديار، ولكن هذه الأعمال بدأت تلاقي الاستنكار، وفي هذا توجه نحو قبول فكرة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) نظرياً، وبدأ العالم بعمومه بالدخول إلى (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وإلى (لا إكراه في السياسة)، وهو يتطور باضراط في هذا الموضوع وسيتطور حتى (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ) الأنفال: 8/39، فالناس يدينون لله بقلوبهم لا بألسنتهم فقط، والدين الذي يأتي بالإكراه ليس ديناً، بل هو نفاق: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) الفتح: 48/11.
إن دساتير العالم اليوم كلها تحتوي في بنودها الأولى على ما يقرر حرية الاعتقاد، الجميع يسجلون هذا، وإن كان تنفيذه يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وعلى الرغم من هذا فإن العالم يتقدم إلى الرشد رغماً عنه: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ)، ومن لم يتبين له هذا حتى الآن فسيتبين له هذا طوعاً أو كرهاً، لأن الإكراه زبد لا نفع، والزبد سيذهب جفاءً، ولن يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس.
لقد سلَّط الله الذين يأخذون بالرشد أكثر من غيرهم، على الذين لا يأخذون به ويأخذون بالإكراه، وعلى قدر أخذ الناس بالرشد فإنهم موعودون بالنصر والاستخلاف والتمكين في الأرض حتى يأتي من هو أشد تمسكاً بالرشد منهم، وعندها فإن الأنفع ينسخ الأدنى منع نفعاً، هذا هو قانون الله في الكتاب، قانون الله في الآفاق والأنفس: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) البقرة: 2/106، قانون الله لا يقضي بأن ينسخ الأدنى ما هو أعلى منه، بل يقضي بأن ينسخ الأعلى ما هو أدنى منه في النفع.
وكما أن آيات الآفاق والأنفس تؤكد أن (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) مطلب آفاقي أنفسي مهما حاول الكارهون للرشد، فإن البشر يتقدمون إلى الرشد، والتاريخ يقدم الأدلة والمكافآت للذين يقتربون من الرشد، ويقدم الحساب والجزاء الذي لا يحابي لمن ينتكب سبيل الرشد.
إن العالم يدلف إلى الأنفع والأصلح، مدفوعاً بقانون الزبد، لأن الأنفع هو الذي سيمكث في الأرض.