بناء الحياة الراشدة

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

كن كابن آدم


Kunkabkadm.cover.gif
انقر هنا لتحميل الكتاب
مقدمة وتمهيد
المقدمة
تمهيد
الفصول
الفصل الأول: السلطة والمعرفة
الفصل الثاني: الخوف من المعرفة
الفصل الثالث: قراءتان للقرآن
الفصل الرابع: الغيرية والجنون الأعظم
الفصل الخامس: الإنسان والتاريخ
الفصل السادس: في دلالات آية الوحدة الأوروبية
الفصل السابع: مذهب الرشد، مذهب ابن آدم والأنبياء


ما هي الحياة الراشدة؟ كيف نعثر عليها؟ كيف نكتشفها ونتعرف عليها؟ ما هي الأرضية الصلبة للانطلاق نحو الرشد؟ هل يمكن أن أخدعك وأجرك إليها؟ هل يمكن أن أسحرك لأدخلك إلى عالم قريب وبعيد جداً؟

كنت أبحث مع بنات أختي بعض المواضيع، فشعرت أنهنَّ أدركن الفرق بين الاقتناع والإقناع، وأن درجة الإقناع درجة متقدمة جداً، وانك حين تطرح موضوعك الذي تظن انك فهمته تشعر أنك عاجز تماماً عن نقله إلى الآخرين، فما هي العوائق دون ذلك؟ ما هي طبيعة فهم الإنسان؟ وما هي العوائق التي تمنع الفهم؟ هل المشكلة في الآخر الذي لا يفهم، أم هي عند الأنا الذي لا يتمكن من الإفهام؟ أين النقص، أين الخلل؟

من السهل علينا أن ندين الآخر، ونعذر الأنا، ولكن العودة إلى الأنا، إلى الذات، إلى النفس هو منهج القرآن، وتغيير ما بالأنفس هو وظيفة الأقوام، وينبغي ألا ننكر هذا الأمر، وعلينا أن نظل متمسكين بهذا المبدأ: التغيير من عندنا، وهو وظيفتنا، وإذا عجزنا ينبغي أن نتعرف بالعجز من غير أن ننكر الوظيفة المناطة بنا. لقد خلق الله الكون مسخراً للإنسان، وإذا لم يتسخر فهذا لا يعني انه غير قابل للتسخير، بل يعني أننا مقصرون. علينا ألا نضيع هذه القاعدة لأن تضييعها يؤدي إلى فساد في الوجود وسفك للدماء. علينا ألاّ نشوه هذه العلاقة، وما ينبغي أن يكون هناك حرج من الاعتراف بالقصور والنقص شيئاً فشيئاً بدأب ويقين، وهذا هو الموقف السليم، لا موقف ذاك الذي يتهم الوجود بأنه غير قابل للتسخير. وحتى قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَداً) الكهف: 18/57، ينبغي أن نفهمه بظروفه، لا بأن ما بأنفسهم غير قابل للتغيير، فتأمل هذا، وتمسك به، فإنه يجعلك على الموقف السليم الذي يحثنا على أنت نكمل النقص الذي يعترينا، لا أن نقعد ونقول: الأمر مستحيل. قد يكون مستحيلاً ضمن إمكانياتنا الحالية، ولكن الإمكانيات ليست معاقة وثابتة، بل هي قابلة للنمو والاكتمال.

هذا الإيمان الراسخ هو الذي يجعلني أسعى للوصول إلى ما هو أقرب للرشد، ولتوفير إمكانيات الفهم، ولا يساعد التشويه والاتهام على حل المشكلات، ولابد من العودة إلى الاعتراف بالنقص الذي نعانيه، والذي هو قابل للإتمام والإكمال.

نعود إلى سؤالنا الأول: ما هي الحياة الراشدة؟ وما هي الأرضية التي سننطلق منها لبناء الحياة الراشدة.

إنني أحاول أن أبيّن أن الأرضية الأساسية هي الاعتراف بإمكان التقدم إلى الحياة الراشدة، والنظر إلى الكون على أنه قابل للترشيد نحو الأفضل دائماً، وقانون الزبد يرشد إلى هذا.

هذا الموقف هو موقف عقائدي ووجودي، إذ إنني أفهم الوجود على انه لم يُخلق وينته خلقه بعد، وهو ليس معرضاً للحتِّ والتعرية والانقراض، بل هو لا يزال يخلق ويزاد فيه، ومستقبله خير من ماضيه، فالله سبحانه وتعالى لازال يزيد في الخلق، والقانون في ذلك هو أن الزبد يذهب ويزول، والنافع يمكث ويترسخ.

هذا هو القانون الذي سار عليه الكون منذ ملايين السنين، من عهد الكائنات البدائية التي لم تزل إمكاناتها تزداد إلى أن خُلق الإنسان العجيب المكرم: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون: 23/14 الذي يزيد في خلقه، وتزداد مخلوقاته كفاءة وتسخيراً وإرشاداً، ولا حرج في أن يلتبس هذا الأمر على كثير من الجن والأنس: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) الجن: 72/10، وإذا كان فينا من يتشكك في هذا الأمر؛ فإنه لا يوجد من لا يعتقد أن الله يريد بنا اليسر لا العسر: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً) الجن: 72/1-2، وإذا كنت في شك من هذا فتوقف وتأمل الوجود واكشف قانونه، وتأمل كيف بدأ الخلق، وتأمل تحسن الخلق خلال المدة الطويلة في الزمن الماضي، وكيف أن الإنسان كان يأكل لحم الإنسان، وإذا لم يأتك خبر ذلك فارجع إلى التاريخ، لأنك إن فقدت هذا المبدأ الأول والأساسي فإنك ستظل متشائماً يائساً، وسوف لن تنشط للعمل الجاد على تحسين الكون بنفسية فياضة متفائلة.

تأمل منطلقاتك، فإذا أمكنك أن تعرف التقدم الذي حصل في الماضي، فإنك تستطيع أن تتصور إمكانيات التحسن في المستقبل، لأنك تتمكن من تصور النشأة الآخرة، لأن لهذه النشأة الأولى نشأة آخرة متقدمة في المستقبل، في هذه الدنيا، نعم في هذه الدنيا.

إن الانتقال إلى بحوث أخرى دون التمكن من هذه المبادئ يجعل البناء خراباً أو على شفا جرف هار.

لقد تعلم الناس كيف يعطون الصحة للأجساد، وذلك بمعرفة قانون الأجساد، وبدأ الإنسان بتعلم قانون صحة الأنفس، وهذه هي الوظيفة الأساسية للإنسان، فالقرآن لا يعطي الأولوية لعلاج مرض القلب الجسدي، بل لعلاج مرض القلب النفسي، ولا يغرنك الحديث الذي ينتشر ويوحى به، وهو أن العالم يسير إلى أسوأ، وقد غرست بأقوالٍ نسبت إلى الرسول (ص)، وسواء صحت نسبتها إلى الرسول (ص) أو لم تصح، فإننا نخطئ في فهمها وتأويلها.

إن مناخنا الفكري بمستوياته العليا والدنيا، مشبع بهذه المورثات، وهذا هو ما يوحى إلى الناس، باليأس والقنوط، ولازال سادتنا وقادتنا الفكريون ينثرون مثل هذه الأفكار من غير حذر أو وجل.

هذه الأرضية التشاؤمية لا ينبت فيها حَبٌّ، بل هي قيعان لا تُمسك ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فكيف نتوجه بوعي إلى هذه المتاهات المميتة؟ وكيف تستسلم الأمم الفاشلة إلى مثل هذه الدعاوى لتسوغ فشلها وعجزها، وتُبعد عن نفسها اللَّوم والمسؤولية؟

لقد مررت بهذا الموضوع في وقت مبكر من حياتي، قلت لنفسي: من الذي سينذر نفسه ويجاهد في سبيل شيء مكتوب عليه الفشل وعدم النجاح؟ وهل لهذه الفكرة أساس في القرآن؟ رجعت إلى القرآن وقرأته كله، فلم أجد شيئاً من هذا، وغنما وجدت (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) الزلزلة: 99/7، و(مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) الحج: 22/15، تأمل في كلمة (الدنيا) وتأكد منها.

إن الموضوع أكبر من هذا واخطر، وإذا لم تكفِ الأدلة التي سبقت في التاريخ الماضي؛ فـ (انْتظِروا) الانعام: 6/158 الأدلة التي سيأتي بها التاريخ المستقبلي، فإنه سوف يأتيكم بما لا تستطيعون دفعه أو التعامي عنه، وبحسب شعوري فإن ذلك لم يعد بعيداً: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداُ وَنَرَاهُ قَرِيباً) المعارج: 70/6-7، فطوبى لأولئك الذين سيصلحون ما أفسده الناس.

إنني أبحث موضوع الحياة الراشدة لأفهم أركانها وشروطها وإمكان إعادتها وحمايتها، وحين أقول: الحياة الراشدة فإنني أريد أن أدخل عالماً جديداً كما يقولا إقبال:

تجلو له رؤياه كوناً محدثاً بِدْعَ المِثالِ يروقه تصويره

فإذا جلى صوت الأذان منامه شاد الذي في حلمه تعبيره

وللدخول إلى حياة الرشد دعني أحدثك بفكرة أخرى أيضاً، أرجوا ا تساعد على تنظيف الطريق وسبيل الرشاد.

كانت الحياة الأولى للبشرية مبنية على الخارقات الماحقات، لا على وضوح السنن التي لا تتغير ولا تتبدل، وبإيجاز أقول: لقد فُسّر القرآن على الطريقة القديمة، على أساس الخوارق، مع أن القرآن كان إيذاناً بذهاب عهد الخوارق، مع أن القرآن كان إيذاناً بذهاب عهد الخوارق، وإعلاناً بمجيء الحياة السُّنَنِيّة، وهذا ما أدركه بوضوح الفيلسوف محمد إقبال، وبحثه بوعي وتعمّد، لا بغموض وتلقائية، وهذه الفكرة أيضاً تقع عند مفترق طرق يضل فيها السالك، وهو أحوج ما يكون إلى تصحيح مساره، يضل اعتمداً على الخارق الذي بمجرد أن تستحضره؛ تكون قد دخلت في الظلام والتيه، ونحن سرعان ما ننقلب إلى الخوارق والتفسيرات الخارقة عند الأزمات والمحن، وتظهر التفسيرات الخارقية في كل المستويات، ولو أن دارساً تتبع ظواهر العودة إلى الخوارق في مجتمعنا، لوجدها في مختلف المستويات، لوجدها فيما تتناقله الصحف، وفيما يدوّنه الكتّاب، وحتى العلمانيون لم يتخلصوا من الخوارق، ولا قدرة لهم على عرض المواضيع بعملية وإقناع، فهم يخترعون المعجزات والكرامات، لا للأنبياء والأولياء، ولكن للسياسيين أيضاً، وكما يبحثون لهم عن نسب يهودي حين يكرهونهم؛ فإنهم يبحثون لهم عن الخوارق حين يحبونهم، وما أسرع ما يتحول الإعجاب إلى مقت، ويتحول معه الرجل الذي كان معقد الأمل في الخلاص، إلى عميل للعدو ومدَّع للرشد.

كيف سنتخلص من هذه البيئة الموبوءة الملوثة بكل الأرجاس؟ لقد وصف الله الخمر والميسر بأنها رجس، وإذا كان الخمر توازن الجسد، والميسر طريقاً لسرقة علنية، والنصاب ملجأ عند الأزمات، وكانت هذه كلها رجساً، فكم هناك من أرجاس في حياتنا تفسد علينا الفكر والحياة.

من هنا مهماً أن ندخل حياة الرشد، وان نفهم ابن آدم، فقد كان من أرشد الراشدين الذين دشنوا الحياة الإنسانية، وكان موقفه رداً عملياً على الذين اتهموا الإنسان بأنه يسفك الدماء ويفسد في الأرض، وبأنه غير جدير بالاستخلاف، وكان رد الله تعالى عليهم: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة: 2/30، أعلم في هذا الكائن العجيب ما لا تعلمون: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّها) البقرة: 2/31، لأن علم الأسماء هو السبيل إلى تراكم المعرفة، وهو ما سيمكن الإنسان من سلوك سبيل الرشد، ومن إقامة الحياة الراشدة والمجتمع الراشد، ولكننا إلى الآن نقدس الجهل ولا نقدس العلم، ونخاف من العلم لأنه إن ظهر فسوف يزيل جهلنا وأوهامنا.

الفصل الأول: السلطة والمعرفة الفصل الثاني: الخوف من المعرفة الفصل الثالث: قراءتان للقرآن
بدايات التفكير بـ (كن كابن آدم)ابن آدم ومشكلة الفسادأثر المناخ الثقافي في آلية التفكيرأمراض الجسد وأمراض الفكر والنفسبل أنتم بشرالمسلمون وعبر التاريخالإله وتصوراتنا عنهالواقع وما بالأنفسمرجعية العواقبالعدمية في الفلسفة الحديثةدراسة التاريخ في المدة الطويلةثم جعلنا الشمس عليه دليلاًالواقع والصور الذهنيةبناء الحياة الراشدةالخوف من المعرفةالخروج من لعبة القاهر والمقهورالقرآن و(لا إكراه في الدين)ميزان الزبد والنافعالقرآن ومبدأ التوحيدالتوحيد و(لا إكراه في الدين)ميزان العواقببين الرشد والغيالجهاد و(لا إكراه في الدين)عواقب التباس الرشد بالغيتعميم مبدأ اللاإكراهالعالم وعقيدة التشاؤم