الوضوح والنقاء في مذهب ابن آدم
من Jawdat Said
كنت قد وضعت لك قاعدة مهمة، وشعرت أنها أرض نقية لا يدخلها الشك والريب، ولا يحصل فيها اللبس والاشتباه، وهو موقف ابن آدم، وكنت قلت لك: إذا لم تكن فقيهاً، إذا لم تكن معك بوصلة، فإنني أدلك على شيء لا يحتاج إلى بحث عميق، وهو أن تكون مثل ابن آدم، فابن آدم لا شك فيه، ولا لبس، ولا غموض، فقد استطاع أن يخرج من:
1- القتل الذي هو واضح الحرمة.
2- القتل الذي يمكن أن تكون فيه شبهة دفاع عن النفس.
3- ثم إنه تمسك بموقف لا لبس فيه، حين أخرج من نفسه فكرة القتل كلياً، ووقف الموقف الذي قصه الله تعالى علينا: (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) المائدة: 5/28، وقال الرسول (ص): « كن كابن آدم » (1)، وقال: « سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله » (2)، سيد الشهداء هو الرجل الذي قُتل لأجل نصحه، لا لأنه كان يريد أن يَقتُلَ.
فكر للحظة في معنى أن يتخذ الإنسان الموقف الأحوط في أشد المحرمات التي تأتي في الحرمة مع الشرك باله، وقتل النفس التي حرم الله هو الذنب الذي لا يُغتفر.
ذُكر عن رابعة العدوية أنه قيل لها: إن فلاناً لديه مئة دليل على وجود الله، فقالت: لو لم يكن له مئة شك لما احتاج إلى مئة دليل.
ما موقفنا من هذا الكلام؟
كأنني بحاجة إلى أن أقنع نفسي لا أن أقنع الناس!!..
ذكرت سابقاً، وأذكر الآن أن علينا أن نبدأ من نقطة لا خلاف عليها، من نقطة لم يختلط فيها الرشد بالغي، فالذي يُقتل وليس في قلبه حرص على قتل الآخر، هو صاحب الموقف الذي لا شبهة فيه.
فأولاً وقبل كل شيء (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) النساء: 4/77، و(لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) العلق: 96/19، و« صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة » (1)، (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأ الْمُرْسَلِينَ) الأنعام: 6/34، (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ:.. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم: 14/11-12.
هذا من جانب الصبر على الأذِيَّة وتقبلها، وعدم اللجوء إلى ردّ الأذية بالأذية، وهذا هو منهج الأنبياء الأَوَّلين، وهو منهج النبوة الخاتمة، مَهمَا رأى الراؤون أنَّه مثالي أو خرافي وغير قابل للتطبيق، إنه منهج الأنبياء من البدء وإلى المنتهى.
اشهدوا فإنني على هذا الفهم، وعلى هذا الالتزام: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) الفتح: 48/26.
إن أعظم من نفذ هذا الأسلوب بوضوح وجلاء لا خدش فيه ولا التباس خلال ثلاث عشرة سنة هو الرسول (ص).
بهذا الموقف منه (ص)، ومن أصحابه الذين التزموه بدقة متناهية، تركوا لنا محجة بيضاء ليلها كنهارها، وبينوا لنا الرشد الذي ليس فيه أدنى درجة من الغي.
إنهم قدوة العالم جميعاً في الوضوح والنقاء خلال التاريخ كله، وسيظلون شعلة للبشرية في المستقبل كله، في أن معركة الأفكار لا يستخدم فيها سلاح غير سلاح الفكر، وأن سلاح الفكر ينجح نجاحاً مبيناً، وقد أثبتت ذلك التجربة، وقدمت رحمة وهدى ونوراً ساطعاً للعالمين، لا يمكن لأحد أن يطفئه، وسيظهر هذا النور مهما عمل الذين يريدون أن يطفئوه أو ينسخوه، لأنه ثبت فريداً عجيباً في تاريخ العالم يهدي إلى الرشد، ولذلك آمنا به، ومهما حاول الأصدقاء أو الأعداء، من مؤمنين وكافرين، فلن يستطيعوا إخفاء هذه السابقة التاريخية المتكاملة: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الصف: 61/8، ولو كره الكارهون، وجهل الجاهلون.