«الوصاية على القاصر»: الفرق بين المراجعتين

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
 
سطر ٢١: سطر ٢١:
  
 
مالم نعرف الماضي لا يمكن أن نحل مشكلة الحاضر وما لم نحل مشكلة الحاضر لا يمكن أن نتصور جمال وكمال المستقبل، وما لم نعرف الماضي والحاضر فسنظل قاصرين تحت وصاية الذين لا يبالون بأذنة المستقبل و سينشدون بلا مبالاة مع الذي قال:  
 
مالم نعرف الماضي لا يمكن أن نحل مشكلة الحاضر وما لم نحل مشكلة الحاضر لا يمكن أن نتصور جمال وكمال المستقبل، وما لم نعرف الماضي والحاضر فسنظل قاصرين تحت وصاية الذين لا يبالون بأذنة المستقبل و سينشدون بلا مبالاة مع الذي قال:  
ما مضى فات والمؤمن غيب ولك الساعة التي أنت فيها
+
 
 +
ما مضى فات والمؤمل غيب ........ ولك الساعة التي أنت فيها
  
 
ما مضى لم يفت وهو حاضر وهو أساس الحاضر وما لم نعرف كيف ولد الماضي والحاضر سيكون المستقبل غيبا ولا يمكن أن يدخل إليه التقدير والتخطيط وسنظل تحت الوصاية.
 
ما مضى لم يفت وهو حاضر وهو أساس الحاضر وما لم نعرف كيف ولد الماضي والحاضر سيكون المستقبل غيبا ولا يمكن أن يدخل إليه التقدير والتخطيط وسنظل تحت الوصاية.

المراجعة الحالية بتاريخ ٠٧:٢٤، ١٤ مارس ٢٠٢٤

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

كل المجتمعات لها تقاليدها في رعاية القصر (وأبرز ما يكون ذلك في اليتامى الصغار) حيث يتولى شؤونهم أقرباؤهم أو يعين لهم القاضي من يشرف على إدارة أموالهم إن كان لهم أموال، وكنت ذكرت في مقال سابق قصة القاصر الذي كان يسجل على أموال القاصر نعالا للجمال فلما سأل القاصر: وهل للجمال نعال؟ فقال الولي: إذا صرت تفهم هذا فخذ أموالك وتول رعاية نفسك، وما تملك. وخص القرآن في أول سورة النساء عدم ترك القاصر يبعثر ماله وبشكل أعم عدم ترك السفهاء يبذرون أموالهم لأنها أموال الأمة فقال تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا معروفا. وابتلوا اليتامى (أي اختبروهم) حتى إذا بلغوا النكاح (أي وصلوا إلى مرحلة البلوغ البيولوجي والنضج) فإن أنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبداراً أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف (كأن يقوم مجانا بالوصاية والرعاية) ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف (بالأجر المناسب) فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفي بالله حسيبا."

وفي هذه الآية نرى قواعد للعلاقات التي يجب أن تراعى في رعاية القصر من الأفراد ولكن هذه القواعد تنطبق أيضا على مستوى جمعي، حيث توجد المجتمعات القاصرة التي لم ترشد، أي لم تبلغ الوعي والقدرة على حل المشكلات. ومثل وصاية اليتيم فإن على المجتمعات الواعية والراشدة أن تساعد المجتمعات القاصرة في بلوغ الرشد وإدراك كيف تجري الأمور في هذا العالم الذي نعيش فيه. وإذا كان يحدث مخالفات من الأفراد في مجتمع معين في رعاية القصر فإن المخالفات فيما بين المجتمعات ورعاية المجتمعات القصر أكبر وأوسع وهذا يحدث في الزمن الذي تقل فيه المعرفة وينتشر الجهل خاصة في الأمم القاصرة، وتنهب الأمم والمجتمعات في أموالها ويستعجل الناهبون ويبادرون في استغلال الجهالة قبل أن يبلغوا الرشد. وأحيانا يتعاون الذين يديرون ويستغلون المجتمعات المحلية مع مديري الشؤون العالمية في نهب الشعوب الجاهلة نهبا مزدوجا.

فالشعوب القاصرة منهوبة مرتين، مرة من قبل الأوصياء المحليين، ومرة من قبل الأوصياء العالميين. ويحدث هذا النهب بسرقة المواد الخام، ثروة القاصرين، لأن المواد المصنعة سلعة الأوصياء العالميين. وزيادة على ذلك، فإن المجتمعات القاصرة غارقة في الديون إلى درجة تعجز فيها عن دفع فوائد الديون، فضلا عن رد الديون بعينها. إن القاصر هو المجتمع الذي لا يعرف التاريخ، غائب عن العالم ولا يعرف ماذا يحدث فيه. والمشكلة في الجهالة والغياب عن العالم ليست فقط في النهب المزدوج ولا النهب عند التبادل والأخذ والعطاء ولا في الديون على القاصرين ولا في أموال القاصرين المودعة في بنوك الأوصياء، وإنما أن ما يبقى بعد كل هذا النهب والهلاك تشترى به أسلحة باهظة التكاليف معدومة الفائدة إلا لمن يبيعها من الأوصياء.

نحن في حاجة إلى حذق في كشف أسباب الحيف الكبير الذي يقع على هؤلاء الفقراء في الفهم والفقراء المعوزون في المعلومات وأخبار تغيرات القرون. ونحن في غيبوبة عن العالم الذي يجدر بنا أن نكون شهداء عليه، لا يفوتنا شيء مما يحدث. ولكن بدل أن نكون كذلك أصبحنا نسعى لتغييب أنفسنا عن العالم. بل إننا أردنا أن نحمي أنفسنا بالتغييب شأن النعامة، هذا الطائر الضخم الذي عجزت أجنحته القاصرة عن التمكن من الطيران فاستبدل بالطيران تغييب نفسه بدفن رأسه في الرمال. إن الشعوب القاصرة تآمر عليها الأقرباء المغفلون والمستغلون الماكرون الذين يخافون من بلوغ هذه الشعوب مرحلة الرشد، فهم يخافون تحضرها بمعنى حضور العالم ومعرفة السنن والقوانين التي تحكم الإنسان خلال الحضارة المعاصرة كما قيل قديما

ومن رعى غنما في أرض مأسدةونام عنها تولى رعيها الأسد

أذكر في كتاباتي "المثقف المنسحب والمختبئ"، لأن المثقف هو الذي عجز أن يتكيف مع العالم المعاصر. فمشكلتنا ليست في السياسي ولا الشعب العادي وإنما في فشل المثقف في كشف قصورنا. لكن المشكلة الأعمق والأبعد غورا والتي لم نسمع بها ولم نفكر فيها إلى الآن هي أننا لم نفهم طبيعة الإنسان الذي هو موضوع المشكلة وأداة الحل للمشكلة في نفس الوقت. ونحن كثيرا ما نتحدث عن السياسيين المحليين والعالميين كثيرا وكثيرا جدا، ولا نتحدث عن الشعوب والمثقفين كثيرا ولا قليلا لأننا لم ندخل بعد عالم الأفكار. نحن ما زلنا نعيش عالم الأشياء والأشخاص أما عالم الأفكار فلم يصبح سلعة قابلة للتداول بعد. الأفكار المسلمة والمسيطرة أفكار فات أوانها ونحن لا نزال تحت سيطرتها ونعيش أسفل منها ولا قدرة لنا أن نمد رؤوسنا فوق بحر المواريث التي فات أوانها. وهنا نقطة بدء المشكلة. الإنسان يساوي قدر المعلومات التي يحملها.

والإنسان صفر بدون معلومات ولا قدرة له أن يتخذ أي قرار بدون معلومات. فالإنسان ضاعف قدرة جسده إلى قدرة جسد الحصان وأبعد بحصول الإنسان على علم استئناس الحيوان ثم بصناعة البلدوزرات، وبحصوله على علم ميكانيكيا البخار والمحرك الانفجاري والقنبلة النووية يعلم الإنسان قانون المادة والطاقة. وبقي على الإنسان أن يكشف قانون الإنسان وقانون استخراج أفضل ما في الإنسان.

لقد عاش الإنسان طويلا وليس له قدرة على إلا على تسخير عضلاته ولم يكن عقله يتدخل في رفع قدرة عضلاته كما نرى الآن في عصرنا. وهو إلى الآن ليس له تصور عن الإنسان وعن كيفية استخراج أفضل وأكثر ما فيه إلا بإكراهه وتخويفه. ولم نفهم بوضوح أن الإنسان لا يعطي بإكراهه وتخويفه إلا أقل ما يمكن أن يعطي وأنه بإقناعه وهدايته يعطي نفسه وماله بل ويستقل ما يقدمه لك، وهذا ما جاء به الأنبياء: الإقناع. واعتبر الأقوام الذين بعثوا إليهم أنهم سحرة و مجانين. "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به أم هم قوم طاغون."

عمر الحضارة واكتشاف الإنسان ودخوله عصر الزراعة منذ نحو عشرة آلاف عام ما هو إلا جزء واحد من مئة جزء من عمر الإنسان. وإذا عرضنا ماضي الإنسان، كيف كان وكيف صار، فيمكن عندها أن نتخيل كيف يمكن أن يصير. فكما قلنا سابقا من أن الإنسان تعلم كيف يضاعف من طاقة عضلاته فإنه كذلك بدأ يدخل إلى تقنيات جديدة ليضاعف من قدرات عقله. فتقنية الزراعة ضاعفت من قدرات عقله حيث دخل الإنسان إلى عالم الاختصاص وتقسيم العمل ولكن بعد أن تعلم تقنية القراءة والكتابة ابتكر بذلك ذاكرة غير قابلة للفناء، أي تقنية تحفظ ما يحصله الإنسان، حيث كانت الخبرات تموت مع موت الإنسان. وفي عصر الكمبيوتر والانترنيت ابتدع الإنسان تقنية مكافئة لحب الاستطلاع الذي لا يشبع عنده وهذه التقنية وضعت أمام الإنسان كل خبرات البشرية السابقة، وكل خبرة جديدة توضع أمام كل الناس الآن في لحظة واحدة.

مالم نعرف الماضي لا يمكن أن نحل مشكلة الحاضر وما لم نحل مشكلة الحاضر لا يمكن أن نتصور جمال وكمال المستقبل، وما لم نعرف الماضي والحاضر فسنظل قاصرين تحت وصاية الذين لا يبالون بأذنة المستقبل و سينشدون بلا مبالاة مع الذي قال:

ما مضى فات والمؤمل غيب ........ ولك الساعة التي أنت فيها

ما مضى لم يفت وهو حاضر وهو أساس الحاضر وما لم نعرف كيف ولد الماضي والحاضر سيكون المستقبل غيبا ولا يمكن أن يدخل إليه التقدير والتخطيط وسنظل تحت الوصاية.