النفس الإنسانية بين الفجور والتقوى
من Jawdat Said
قبل الحديث عن الرشد والغي ينبغي أن نتحدث عن النفس الملهمة وعن الفجور والتقوى، وهذا هو العمل الإلهي، وإبداع مبدع الوجود. إن نسبة أحدهما إلى الله تعالى دون الآخر خروج من نظام وسنة وقانون الخلق الإلهي، ولكن كم من الضلال يحدث في فهم هذا الموضوع؟ سواء عند بعض الناس العاديين، أو عند بعض العلماء الكبار المعروفين الذين يسوون، بسبب هذه الشبهة، بين الفجور والتقوى، وبين الكفر والإيمان، وبين موسى وفرعون، وبين الحسنة والسيئة.
إن الحسنة والسيئة والفجور والتقوى، كل هذا من الله، من حيث الإلهام والخلق، ولكن جعل هذه النفس الملهمة للفجور والتقوى فاجرة أو متقية، هو مهمة الإنسان، هو وظيفة المجتمع والأفراد المبدعين في الفهم والإدراك، وظيفة المجتمع الذي عليه أن يعمم ويبلّغ الإبداع ولا يكتمه ولا يقمعه ولا يعارضه، هذه هي علاقة الفرد والمجتمع.
أشعر أننا بحاجة إلى العودة للقراءتين كثيراً كثيراً، لأننا، وإن كنا نسلم بوجود القراءتين عند البحث والتدقيق، فإننا نصاب بالاشتباه والضلال حين نسمع السؤال الدائم المستمر، الذي يوجهه العوام: هل الهداية والضلال من الله أم من الإنسان؟
طالما سُئلت هذا السؤال من كل أصناف الناس، وهذا السؤال موضع حيرة العلماء، وكثيراً ما يُوصِل الفلاسفة إلى الحيرة والعدمية، وإن كان يسيراً على من يسّره الله عليه..
ينبغي أن نكثر من قراءة قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (هذا هو عمل الله)، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (وهذا هو عمل الإنسان) الشمس: 91/7-10.
لتكن هذه الآية أنشودة على كل فم، وعلى كل لسان، فلنُعد إليها المعنى الجدي، ولنُبين كيف يقوم الناس بالتزكية والتدسية، بوعي وبغير وعي، ونستطيع أن نكشف الذي يحدث بغير وعي ونجعله تحت تصرف الوعي، وأن نختزل ما تعبت فيه البشرية قاطبة، خلال تاريخها الطويل، في سنوات قليلة من حياة الطفل، حتى قبل أن يبدأ بالنطق، فضلاً عن أن يبدأ بالكتابة.
هذا ما نتعب فيه الآن، لأننا نريد أن نغير أشياء مما بنفس الإنسان من الفساد وسفك الدماء، أشياء ظن الناس أنهم لا يمكن أن يعيشوا بدونها.
لقد ظنوا أنهم لا يمكن أن يعيشوا دون سفك للدماء، حتى إن السؤال الذي أواجه به، والذي يدور على كل لسان هو: أين أنت من بدر وأحد وحنين؟
إنهم لا يفهمون بدراً وحنيناً إلا كما يفهمون داحس والغبراء وحرب البسوس.
لقد شوّهوا القضية حين ظنوا أن بدراً وحنيناً مثل حربي الخليج الأولى والثانية، وهم لا يفرقون بين الجرح الذي يفتحه الطبيب لإجراء عملية جراحية، وبين جرح يفتحه مجرم غبي يسعى للقتل والنَّهب.
إن كنت لا تفهم الموضوع إلا كما يفهمه هؤلاء؛ فارجع إلى جاهليتك وإلى شريعة الغاب، واهنأ بالعيش فيها، وأعد مآسيها حتى تملَّ، ولن يملَّ الله حتى تملوا وتفرقوا بين المجاهد والخارج.
ما اشد التباس الأمور!!..
هذا ما أسعى لبيانه، وسأظل أسعى لبيانه وتوضيحه، وسأبدئ وأعيد، وإني على يقين من إمكان الوصول إلى الطريق الأقرب رشداً، وإني لأطمع بأن أزيل الالتباس، وأبين الرشد من الغي، وأبين معنى (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) البقرة: 2/256، ولا يمكن أن نُبين الرشد من الغي إلا إذا عرفنا كيفية التباسه به.