المنظومة الفكرية

من Jawdat Said

مراجعة ١٠:١٢، ٢٨ مارس ٢٠٠٩ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث
مقالات ذات صلة
......................
انقر هنا لتحميل المقالات (Doc)

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

إن العالم مريض في منظومته الفكرية، في عقيدته الوجودية، وتصوره لقوانين الوجود والإنسان. لما أقول العالم مريض لا أقصد مرض الجسد وإنما أقصد مرض النفس، ومرض المنطلقات الفكرية بسبب الخطأ في فهم قوانين الوجود وقوانين الإنسان. إذا كان العالم يهتم بالصحة الجسدية والأمراض الجسدية للإنسان وبإيجاد اللقاحات ويجدّ ويجتهد في كشف علاج الأمراض المستعصية، فإن سعيه في كشف الأمراض النفسية الفكرية سعي حزين ومؤسف. لم يكشف الإنسان قوانين النفس الإنسانية ولا أسلم الطرق لتسويتها وعلاج أمراضها إلى الآن. البشرية في حاجة إلى كشف المنظومة الفكرية أو العقيدة التي حكمت -وما تزال- تصوراتها الوجودية المبنية على أسس خاطئة. وما جاء به الأنبياء من منظومة فكرية ما يزال غائبا عن العالم.

لكل لغة قواعد مهما كثر عدد اللغات، ولكن الذي أريد الحديث عنه هنا ليس اللغة الكلامية أو اللغة اللسانية بل أريد التحدث عن اللغة الفكرية. حين يقول الله "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" علينا أن نستعمل القواعد اللغوية ليكون الكلام مستقيما. إن التزام القواعد اللغوية والتمكن منها يعطي الكلام متانة وبهاء وانسجاما ولكن الذي أتحدث عنه هنا هو القواعد الفكرية. فكما تحتاج اللغة إلى قواعد تحتاج حياتنا إلى منظومة فكرية.

ولأضع للقواعد الفكرية أساسا متينا ومنطلقا راسخا علي أن أذكر بأن النزاع بين محمد (ص) وقومه لم يكن نزاعا لغويا ولا تفسيرا للكلمات المنطوقة وإنما كان عن التصورات الوجودية والقوانين التي تحكم الوجود. إن الأهمية الكبيرة لرسالة الأنبياء لم تكن في قوانين المادة من الذرة إلى المجرة ولا قوانين الحياة العضوية، وإنما اهتمام الأنبياء كان منصباً على قوانين الفكر في تصور الوجود والمادة والحياة والإنسان وإمكاناته. إن ميزة الإنسان عن المخلوقات الأخرى هي قدرته على كشف سنن المادة والحياة والفكر. والشيء الذي ألح عليه القرآن هو صحة المنظومة الفكرية. إن كل خطأ يعرض للمنظومة الفكرية يفسد حياة الإنسان وما يحيط بالإنسان. فالأوهام والخيالات الخاطئة التي تعرض لهذه المنظومة الفكرية تفسد حياة الإنسان، ويتجاوز الفساد حياته إلى البر والبحر، بما تكسبه أيدي الناس. والأوهام المريضة والخيالات الخاطئة تفسد نفس الإنسان وتدسيها بدل أن تزكيها وتضللها بدل أن تهديها، وتقلقها بدل طمأنتها. هذه المنظومة الفكرية التي تطلق عليها العقيدة أو الإيمان لها أركان كبيرة لا بد من إعادة كشفها وإنارتها وتسويتها كلما عرض لها خلل أو ضلال أو تسرب إليها الوهم اليقين، لأن الإيمان واليقين يكون بالخطأ كما يكون بالصواب. وأؤكد أن الإيمان واليقين يكون بالحق وبالباطل إذ ليس كل إيمان حق مهما كان راسخا ويقينا. قد يكون الإيمان بالجبت والطاغوت يقينا وراسخا. يقول الله: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا". ويقول الله: "أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون". ويقول الله: "والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون".

والتوحيد لا يقبله الناس خالصا، ولا يؤمنون بالتوحيد الخالص. "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون"، أي أن التوحيد ليس هو المسيطر على العالم البشري وإنما هو الشرك. وصار كشف هذا الشيء صعبا وخفيا ولا نزال نكرر ما قالته قريش لمحمد (ص) "أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا هذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أنَزَلَ عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب".

إن الأمم المتحدة تكرر ما قالته قريش لمحمد (ص) في هذا العصر، وإن كان أشد خفاءا، حيث لا يوجد أحد يذكر بأن الله واحد. ولهذا لا يشعر الناس بحاجة إلى نقد فكرة التوحيد، لأن الجميع يؤمنون بالجبت والطاغوت وأنهم أبناء الله وحدهم. ولا يقول أحد للمستكبرين، أنتم لستم آلهة ولا أبناء الله بل أنتم بشر. وأنا صرت أحس بهذا وأريد أن أكشف رسالة التوحيد ورسالة الأنبياء المهجورة التي لا يدعوا إليها أحد بوضوح. إن الشرك الذي دخل إلى فكر الناس يحول بينهم وبين انتقاد الشرك الأكبر والصنم الكبير الذي قال عنه إبراهيم عليه السلام "هذا كبيرهم" أي كبير الأصنام، فاسألوه! من يمكن أن يسأل السؤال الإبراهيمي لحق الفيتو؟ إن هذا الذي هو الشرك الأكبر، والإله الأكبر في العالم وفرعون هذا العصر الذي يقول: "أنا ربكم الأعلى"! "وما علمت لكم من إله غيري" "لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين" "لأقطعن أيديكم وأرجلكم ولأصلبنكم… ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى".

لا يوجد في العالم من ينكر حق الفيتو، الشرك الأكبر والظلم الأكبر في العالم. فنحن لا قدرة لنا على كشف التوحيد، ولهذا نعبد الصنم الأكبر، الذي أصنامنا الصغار تبع له، لأن العالم مصاب بمرض الكبر وحب التأله وإنكار أن نكون جميعا من البشر.

كان إقبال مهتما بالتوحيد ولكن ينبغي أن أقول أنه لم يوضح فكرة التوحيد في عصرنا الحاضر بشيء من الوضوح. وفي المقابل استطاع محمد أركون أن يلامس فكرة التوحيد. لما أقول يلامس أعني ما أقول، لأن أركون شعر بالحاجة إلى ثيولوجيا جديدة، هذا الذي لم يلمسه أحد ولم يفكر فيه أحد، ولكن رغم أن بال أركون مشغول في هذا الموضوع إلا أن انغماسه في الفكر الغربي المتأله لم يمكّنه من عرض الثيولوجيا الجديدة والقديمة في آن واحد. وفكرة التوحيد في عصرنا ليست واقعة فقط في مجال اللامفكر فيه بل في مجال المستحيل التفكير فيه. يشعر أركون بوجود قوة في القرآن لا يمكن تحديدها أو ملامستها كما ختم كتابه، (تاريخية الفكر العربي الإسلامي). وأنا أقول بتبسيط مخل إن العدل الموجود في القرآن هو الثيولوجيا الجديدة، وكون العالم لا يقبل العدالة هو نقض لرسالة السماء وكلمة السواء وكلمة التقوى. والمشكلة أن التوحيد ليست مشكلة سماوية وإنما اجتماعية بشرية، وأرضية وسياسية، ما دام هناك أصحاب امتيازات، فلا توحيد ولا سلام، ولا حقن دماء، كلا ولا صحة نفسية، بل مرض وخوف من أن يفقد أصحاب الامتيازات امتيازاتهم والذين لا امتيازات لهم يتمنون أن يصيروا هم أصحاب الامتيازات. وكلمة السواء لا تسمع إلا همسا، "هل تحس من أحد منهم أو تسمع له ركزا". ولكن نور الله سيتم وسيدخل الناس رغما عنهم إلى كلمة السواء وإن كان البعض يفهم كلمة السواء بأن يدخل العالم في عبادته وليس عبادة الله، وسيذهب هذا جفاء وسيمكث في الأرض ما ينفع الناس. هل أستطيع أن أفتح ثقبا يمكن أن يبصر به بعض الناس سعادة وصحة وسلامة نعمة التوحيد؟ لعل وعسى. إنهم يرونهم بعيدا ونراه قريبا، وقد جاء أشراطها!