القرآن يهدي ويبشر

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

أكثر من مليار من البشر يؤمنون بأن هذا الكتاب من عند الله، يقدسونه، ويتبركون بتلاوته، وفي كل عام تعرض المسابقات على حفظه وتجويده في الأقنية الفضائية. وأطفال المسلمين يحفظونه غيباً ويكثر الحفاظ للقرآن ومدارس تحفيظ القرآن. وهذا الكتاب ليس كبير الحجم، بل يكدس في صفحة واحدة ويعلق على جدران المنازل والمساجد. فما شأن هذا الكتاب؟

كيف يمكن أن نتفهم هذا الكتاب؟ وكيف يمكن أن ندخل إليه؟ كيف يمكن أن نفتح بابه، أو كيف يمكن أن نجد المفتاح للدخول إليه؟ نعم إنهم يحفظونه كلمات، ولكن كيف يمكن الدخول إلى هذه الكلمات لنفهم النظام الذي يحكمه والمنطلقات التي ينطلق منها؟ وكيف يمكن أن نكشف أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وكيف يبشر المؤمنين، وكيف أن هذا القرآن يقول عنه الذي أنزله أنه روح: "أوحينا إليك روحاً من أمرينا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم". إننا لا نفهم من هذا الكتاب إلا أنه "يضل من يشاء ويهدي من يشاء"، "ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً". منذ أسبوع كنت في جنازة وبينما كنا ننتظر الدفن اقترب مني شخص بأدب وحياء وقال أنه يريد أن يسألني منذ وقت طويل عن آية معينة. قال إنه يشعر بحرج كبير حين يقرأ "يضل من يشاء ويهدي من يشاء ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا" وكذلك، "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتزل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".

إننا نعيش مأساة حقيقية عالمية، بعضهم يرى المشكلة في الشمال الغني والجنوب الفقير وسوء توزيع الموارد وأن ستة من البلاد العربية تعدادهم 150 مليون دخلهم لا يساوي إلا دخل هولندا الذي تعداده 15 مليون إنسان فقط، والبعض يرى أن الأرزاق بيد الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء، وكأن الله هو المسؤول عنها وأن الآجال والأرزاق محددة إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ولكن لماذا آجال وأعمار الذين يعيشون في الشمال أطول وآجال من يعيشون في الجنوب أقصر؟ هل الله يوزع الأرزاق على أساس الجغرافيا؟ أو يهديهم أو يضلهم اعتباطا؟

لا يستطيع الناس أن يتخيلوا أن العالم تحكمه سنن وقوانين، حتى الذين يكفرون بالله لا يستطيعون أن يكفروا بالسنن والقوانين لأنها فطرة في الناس، إلا أن بعض القوانين خفية لابد من إظهارها. فكما أن قوانين الكهرباء كانت موجودة في الطبيعة ولكنها كانت خفية على البشر، كذلك كانت الأمراض والجراثيم خفية. ولكن البشر تعلموا وزادت الأعمار، وقلت الآلام، ولكن بقيت أرزاق وأعمار الناس حسب مكان ولادتهم. ففي الشمال الأرزاق مبسوطة بينما في الجنوب مقترة. هذا لأن أهل الشمال يفسرون العالم بشكل وأهل الجنوب يفسرون العالم بشكل آخر. إن ما بالأنفس هو الذي يختلف وبناءا عليه يختلف ما بالأقوام من نعمة أو نقمة. "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. هذه هي فلسفة القرآن.

وكنت كتبت عن هذا في مقال سابق تحت عنوان: "قراءتان للقرآن قراءة بشرية وقراءة إلهية". وهذا الموضوع في حاجة إلى بيان وبلاغ مبين. كثير من الناس العاديين الطيبين في العالم الإسلامي يشعرون بغموض وإشكالية في هذا الموضوع، وأنا كنت ذكرت آية مفتاحية في تلك المقالة: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ومثل هذه الآية فيها تغييران وفاعلان. التغيير الأول فاعله الله، أي لا يغير الله النعم ولا يغير النقم حتى يغير الأقوام ما بأنفسهم من التصورات والمفاهيم والأفكار عن الله والكون والإنسان.

والله يقول أنا لا أغير النعم والنقم حتى تغيروا أنتم ما بأنفسكم، ونحن فهمنا أن الله هو الذي يغير ما بالأنفس. إن تغير ما بالأنفس وظيفة بشرية. الناس هم الذين يقومون بها. يقول الرسول (ص) كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ويمجسانه …إلخ. وهذا يشمل كل الملك، المؤمنة وغير المؤمنة، والرسول (ص) حين يقول "يولد على الفطرة" فهذا ليس معناه أنه يخلق مسلماً أو يهودياً بل يخلقه ملهما الفجور والتقوى، وهذه القدرة المزدوجة يرجع تحويلها إلى أحد الأبوين وإلى المجتمع، أي إلى البشر.

والدليل على هذا آية مفتاحية أخرى تقول "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقوها قد أفلح من زكها وقد خاب من دساها". هذه الآية لها جرى ونغم ووزن، كلماتها موزونة فهي ليست بشعر ولكن فيها سهولة في النطق والترتيب. في هذه الآية تتحدد طبيعة النفس وإمكاناتها، فهي مسواة تسوية عجيبة، تحتوي على طبيعة رائعة. إمكانية بديعة. فالنفس مسواة من صنع الله وهذه التسوية هي الإلهام بالفجور والتقوى.

الكون كله مسوى باتجاه واحد، إلا الإنسان مسوى باتجاهين، أي فيه القدرة على الفجور والتقوى. هذه القدرة من الله ولكن تحويلها إلى الفجور أو التقوى فهو من البشر، لأن فاعل "أفلح من زكاها" هو الإنسان نفسه، فهو خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا، خرج خلقا خاماً قابلاً للتحويل والتحويل إلى التدسية أو التزكية. والبشر بدءوا يكشفون التمكن من هذه المهمة التحويلية إلى التزكية والتدسية شيئا فشيئا. وأنا أشعر بضرورة خدمة هذا الموضوع لأن القرآن أحيانا يذكر ما يفعله الله وأحيانا يذكر ما يفعله الإنسان.

الإنسان يتزوج ولكن الله بقوانينه وسننه يخلق من هذا الفعل إنسانا آخر، لهذا قال الله: "أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون". كذلك الزرع، الإنسان يزرع ولكن قانون الإنبات من سنن الله وصنعه. الله خلق التربة والشجرة ولكن الإنسان هو الذي صنع البستان من رأس مال الله. فالقرآن لا يذكر في كل آية وفي كل حدث بشري الفاعلين أو العملين، عمل الله وعمل الإنسان.

الله يخلق النتائج والإنسان يمارس الأسباب والآيات التي تُشكل على الناس يذكر الله فيها عمل الله والنتائج والأسباب، ولكن الإنسان هو الذي يتدخل في الأسباب والتسخير ويتسبب في الحدث. فيا حبذا لو أننا نعلم الأطفال هذا الموضوع كما نعلمهم الحروف والكلمات حتى يكونوا على بينة من ربهم ومن أنفسهم ويعرفوا نعمة الله واستخلافهم في الأرض. لو فهموا هذا لزكوا الأنفس بدل تدسيتها وزكوا الأرض بدل إفسادها. لو أن المسلم أخذ آية التغيير أو آية التزكية والتدسية ليميز عمل الله وعمل الإنسان فسوف يجد الانسجام والنور والهدى، فحيث يذكر القرآن "يضل" يذكر أنه لا يضل إلا الفاسقين، والناس يجدون ما كسبت أيدهم ولا يجزون إلا ما كانوا يعملون.

ولو أن إنسانا قرأ القرآن كله وهو يطبق قانون عمل الله وعمل الإنسان لفهم القرآن بشكل أوضح. ولقد تبينت لي أهمية هذا الموضوع حين زارني رجل وسيدة من تونس يعملون لتلفزيون فرنسي. فكان من حديثهما معي أنهما أطلعا على المقال الذي يتحدث عن قراءة القرآن وأن هذا حل لهما الإشكالية، فشعرت أن بعض الناس يتمكنون من التقاط ما أهدف إليه وأسعى له من الدخول إلى القرآن من جديد وفق آيات الآفاق والأنفس التي ستشهد بأن هذا الكتاب حق وأن الناس جميعاً سيضطرون إلى قبول هذا النور الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور والحمد لله رب العالمين.