الفصل الرابع: الغيرية والجنون الأعظم
من Jawdat Said
كتب جودت سعيد انقر هنا لتحميل الكتاب |
مقدمة وتمهيد |
المقدمة |
تمهيد |
الفصول |
الفصل الأول: السلطة والمعرفة |
الفصل الثاني: الخوف من المعرفة |
الفصل الثالث: قراءتان للقرآن |
الفصل الرابع: الغيرية والجنون الأعظم |
الفصل الخامس: الإنسان والتاريخ |
الفصل السادس: في دلالات آية الوحدة الأوروبية |
الفصل السابع: مذهب الرشد، مذهب ابن آدم والأنبياء |
الغيرية والجنون الأعظم
انظر إلى كلمات فوكو، تأمله وهو يقول: « إن قدرة المحلل النفسي على فهم المرض العقلي لمريضه محدودة فالتحليل النفسي يستطيع أن يفكَّ عقدة بعض أشكال الجنون، لكنه يظل بعيداً عن (عمل الجنون الأعظم) » وينهي كلامه عن الجنون بعدد معين من الإشارات إلى شكل أساس من الغيرية، يخرج عن متناول العقل والعلم، ويبدو خفية أنه سبب إمكانيتهما، فهو يلمح إلى لمعان شعراء مثل: أرثو، هولدرلين، نيرفال، الذين نجوا بطريقة ما من هذا السجن المعنوي الهائل، واستشفّوا تلك التجربة الأصلية للغبارة التي تستجوبنا أبعد من حدود المجتمع.
يتساءل فوكو عما إذا كانت هذه الغيرية بداية معارضة جذرية للثقافة الغربية، وتتضح هذه الإشارة إلى غيرية عميقة تفتح التاريخ وتتجنبه، تتضحُ بالنسبة إلى التحليل الذي يجريه لاحقاً، فهو يتصور هذا البحث عن تجربة أصلية تقع خارج التاريخ.
إن هذه المحاولة الفلسفية مميزة لأكثر أشكال الفكر الحديث تقدماً، ولكن هذا الفكر محكوم عليه بالفشل، لذلك فهو يسعى إلى اكتشاف طرائق أخرى غير اللجوء إلى تخوم أنطولوجية لا يمكننا حتماً بلوغها ولو كانت تحدونا، من أجل تبيان حدود معرفة الإنسان بشان وجوده، وبالتالي حدود العلوم الإنسانية ومهامها.
وينضمُّ فوكو إلى تلك القلة من المفكرين النادرين الذين استشفّوا (عمل الجنون الأعظم)، إلى أن يقول: « وليس تحريفاً كبيراً للنص أن نستبدل عبارة (جنون) بعبارة (كلمة الله) » ميشيل فوكو مسيرة فلسفية / 17-18.
ما معنى هذه الكلمات؟
بحسب مدى خيالاتي، فإن هذه الكلمات تحتوي تلخيصاً كبيراً لسير الفكر الإنساني:
أولاً: حديثه عن المرض الفكري والمرض العقلي؛ ليس حديثاً عن مرض عضوي، وكلمة (مرض) قد تجعلنا نتيه، لأننا نحملها على الحالة التي تجعل صاحبها مصاباً بالهذيان وإنه لصعب حقاً أن نفهم أن العالم كله مريض، ولهذا فهو يطلق كلمة (المرض) أو (الجنون)؛ (الجنون الكبر) أو (الجنون الأعظم).
فمثلاً: حين يقول الرسول (ص) لأبي ذر: « اكسر قوسك واقطع وتره واضرب سيفك بالحجارة »(1)، هذا الحديث صحيح من ناحية آليات النقل التي وضعها المسلمون، ولكنه من الناحية الفكرية الإسلامية والبشرية عامة جنون، وجنون أكبر أيضاً، ولهذا كان على الناس أن يحكموا على هذا الحديث بالموت، وفعلاً حكموا عليه بالموت، ظناً منهم أنه لا يليق برسول أن يقول مثل هذا القول.
أنا هنا أتحدث عن آلية التقبل لأحاديث الرسول (ص)، وشروط قبولها عند المحدثين، ولا أتحدث عن آلية الأمانة، وعن آلية الرفض الموجهة إلى الذي لا يعجبنا، إن هذه الآلية صعبة وخفية صعبة الكشف والإحاطة والتتبع، والثقافة تقوم بأدوار عجيبة في السماح أو المنع، في القبول أو الرفض للأحاديث والأفكار والمفاهيم، وتتحكم الثقافة حتى في معاني القرآن.
ثانياً: حديثه عن الغيرية التي تخرج عن متناول العقل والعلم. ما معنى الغيرية التي يتحدث عنها فوكو هنا، ويقول: إنها خارجة عن متناول العقل والعلم، ما هو العقل، وما هو العلم؟ ما هي الغيرية وما هو الإنسان؟ ما هو المرض، ما هو مرض القلب، وما هو الشيء الذي يكون خارجاً عن العقل والعلم؟
شغلتني هذه الأسئلة كثيراً، ومن اجلها كتبت كتاب (اقرأ)، وفيه قلت: إن العقل والعلم الشائعَيْن عند المسلمين وعند الغربيين، ليسا العقل والعلم اللذَيْن في القرآن، وكان هاجسي أن أضع تعريفين جديدين لكل من العقل والعلم.
وحين فهمت التاريخ، وأدركت سُنَنَه، عرفت أنه هو الذي يفرز النافع عن الضار، ويذهب بالزبد جفاءً، ويُمكث في الأرض ما ينفع الناس.
هذا الأسلوب في الحكم على أحداث التاريخ عبر إحصاء العواقب، سهل التجاهل، وطالما تجاهله الناس، ولا يزالون يتجاهلونه:
(قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) الشعراء: 26/72-73.