الفصل الرابع، كتاب العمل
من Jawdat Said
الفصل الرابع، القُدرَة
طال الاستغراق في بحث الإرادة، فتأخر بحث القدرة أكثر مما ينبغي.. ونبدأ فنسأل: ما القدرة؟
في المثل الذي سبق أن ذكرته في عمل إطفاء المصباح، استبان لنا ما لإرادة؟ وما القدرة؟ وأن القدرة هي استطاعتنا الإطفاء باستخدام اليد والقوة العضلية. فالذي لا قدرة له لا يتمكن من إطفاء المصباح أو إيقاده مهما كانت عنده إرادة في الإيقاد أو الإطفاء، فكأن القدرة بهذا التعريف هي: القدرة الجسمية العضلية وهو أمر ضروري لكل عمل.
وفي مثال أداء فريضة الحج توجد قدرة وإرادة. والقدرة هي استطاعة السبيل ﴿لمن استطاع إليه سبيلاً﴾ (سورة آل عمران: الآية 97) التي فسرها الفقهاء بالزاد والراحة، وهي قدرة مالية يرجع تحصيلها إلى القدرة الجسمية أي إلى الطاقة. والطاقة في الكون لها أشكال مختلفة: كهربائية وميكانيكية وكيميائية … وتؤول الطاقة في نهاية الأمر إلى الحركة؛ إذ قانون تحوّل المادة إلى طاقة وبالعكس هو: (1/2ك سر2) أي الطاقة تساوي نصف جداء الكتلة في مربع السرعة. وتدل عبارة السرعة في القانون السابق على الحركة؟ والحركة في هذا الكون نوعان: حركة إرادية كحركة الإنسان، وحركة لاإرادية كحركة الشمس والقمر.
وكما التبست الإرادة الكونية بالإرادة الشرعية عند بعض المتصوفة فجعلوا كلتيهما طاعة حتى قال أحدهم:
أصبحت منفعلاً لما يختاره فأصبحت أفعالي كلها طاعات
كذلك في القدرة: التبست القدرة المجردة من الإرادة بالقدرة الإرادية، فأصبح الناس يسألون أنفسهم هل نحن مسيرون أم مخيرون؟ !! فبتساؤلهم هذا اعتبروا حركتهم وأفعالهم كحركة الشمس والقمر المسيرة، بينما الشمس والقمر مسخرات للإنسان ذي القدرة المقترنة بالإرادة.
محتويات
عمق المشكلة
﴿وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه﴾ (سورة الجاثية: الآية 13).
لقد وردت كلمة التسخير في كتاب الله كثيراً … هذا وإن مناط التسخير العلم والفهم، فسخر الله الكون وما فيه للإنسان دون غيره من المخلوقات لأنه قادر على تحصيل العلم:
﴿وعلّم آدم الأسماء كلها﴾ (سورة البقرة: الآية 31)، ﴿الرحمن. علّم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان﴾ (سورة الرحمن: الآيات 1،3). ﴿اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم﴾ (سورة العلق: الآيات 3،4).
كما جاء في التوراة: (لعل الحكمة لا تنادي.. أيها الناس أنادي وصوتي إلى بني آدم، أيها الفضة. والمعرفة أكثر من الذهب المختار، لأن الحكمة خير من اللآلئ، وكل الجواهر لا تساويها.. أنا الحكمة أسكن الذكاء.. أنا الفهم لي القدرة. أنا أحب الذين يحبونني، الذين يبكّرون إليّ يجدونني) سفر الأمثال - اصحاح 8.
إن هذه الكلمات من الهدى والنور الذي قال الله عنه:
﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور. يحكم بها النبيون الذين أسلموا﴾ (سورة المائدة: الآية 44).
مستويات القدرة
قلت في بحث القدرة: كما أن للإنسان قدرة على الحركة، له قدرة على الفهم والإدراك أيضاً أي فهم السنن وقوانين المادة والحياة والأخلاق. إن فهم القوانين المادية قدرة من القدرات التي رفعت الإنسان إلى القمر، وفهم قوانين الحياة رفع مستوى متوسط العمر إلى السبعين في بعض البلاد. وفهم قوانين الأخلاق هو الذي سيثبت ما علمه الله في الإنسان، ولم تعلمه الملائكة حين قالوا:
﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (سورة البقرة: الآيتان 30،31) فكان بدء وضع الأسماء وكتابتها مدخل الإنسان لفهم السنن.
إذن فالقدرة على مستويين: مستوى طاقة مادية، ومستوى طاقة عقلية فهمية ولابد من التعرض لهما.
أ- القدرات المادية:
يمكن أن نتصور القدرات المادية في قوة العضلات وكثرة الأشخاص وسعة الأراضي التي يملكها الشعب، والثروات التي في باطن الأرض من نفط ومعادن ومساقط المياه - ويتنافس العالم اليوم لإيجاد مصدر متجدد للطاقة قبل نفاذ طاقة النفط - ومن هذا الجانب ربما نقول: إن العالم الإسلامي عنده قدرات هائلة سواء في عدد الناس، أو ما يملكون من قدرات، ولكن هذه القدرات مهدورة ولا نعرف قيمتها ولا نستغلها. فالنفط مثلاً قبل أن يعرف الناس كيفية الاستفادة منه، لم يكن من القدرات لديهم، ذلك أن القدرة المادية تظل كامنة لا يستفاد منها حتى يكشف الإنسان سنن استخدامها - تسخيرها - عن طريق استخدام القدرات الفهمية …
ب- القدرات الفهمية:
ويمكن أن نسميها: القدرات العلمية، ويقصد بها معرفة استخدام القدرات المادية - تسخير المادة - وتزداد القدرات الفهمية على مرِّ الزمن أهمية لأن القدرات المادية لا تظهر قيمتها حتى تتوفر لها القدرات الفهمية.
ونستطيع القول: إن موضوع هذا الكتاب كله ودوافع بحثه يتعلق بهذا الموضوع؛ وهو ما يريد المؤلف إبرازه. وما ينقص العالم الإسلامي الآن هو القدرات الفهمية لا القدرات المادية أي ينقصهم العلم (حين أقول هذا فليس معنى ذلك أنني حصلت العلم وإنما عرفت أنه ينقصني العلم وعلي تحصيله) وأبحث هذا الموضوع لأني أرى أن مشكلة العالم الإسلامي في وقته الراهن هي نقص القدرات الفهمية، أعني بها معرفة سنن تسخير إمكانات العالم الإسلامي المادية والبشرية وهو ما ينبغي علينا أن نحصله.
وإذا استطعت أن أوضح هذه النقطة للقارئ الكريم توضيحاً جيداً، فهذا هو هدفي من البحث، لأني اعتقد انه إذا تبين له هذا الموضوع جيداً فإنه سيبدأ في تحصيل هذه القدرة وسيسعى إليها في مظانها ليعثر عليها إن كانت مكتشفة، أو يبدأ في البحث عنها ليكتشفها هو.. وتخلف العالم الإسلامي يرجع إلى فقده القدرات الفهمية، وهذا ما أريد بيانه وبحثه.
وأظن أني قدمت بما فيه الكفاية أن العمل لا يتحقق بغير القدرة والإرادة؛ ولزيادة الإيضاح سميناها الزوجين اللذين يلدان العمل الصالح والناجح. وإذا نقص أو فقد أحدهما لم يكن ممكناً أن يحدث العمل، ولقد ألقينا بعض الأضواء على بحث الإرادة، والآن علينا أن نبحث موضوع القدرات.
قد يظهر بهذا الشكل الذي عرضت به الموضوع أن فهمه وإدراكه سهل ولا تقيد فيه، ولكن - بحسب خبرتي في بحث هذه المشكلة - أرى أن الأمر ليس سهلاً ولا قريب الفهم للعالم الإسلامي …
وبما أن مشكلة عجز المسلمين هي من المشكلات الكبيرة العالمية، فإن البحث في مشكلتهم له من المكانة والجلال ما يكافئ عظم المشكلة، وهذا ما يجعلني أضع نفسي بين الذين يحاولون بحثها باستيحاء بالغ، وليس هذا فقد بل حين أزعم أن الباحثين في هذه المشكلة لم يحدّدوا المشكلة فضلاً عن أن يحلوّها، فأنا أيضاً لا أزعم أني سأحل المشكلة - لأن هذا ليس إليّ - ولكن العالم الإسلامي نفسه هو الذي سيحل المشكلة، ولكني سأحاول تحديدها ليتوجه المسلم إلى مكانها ويبدأ العمل بكل بساطة وطمأنينة بدل أن يحاول القيام ببطولات خارقة، وعنتريات فذة بقفزات فوق السنن في حين أن حل مشكلته يبدأ ويتم بأعمال يومية ولحظية يؤدي فيها واجباته البسيطة.
وهنا أشعر بالامتعاض، أقول هذا نتيجة خبرتي ومعاناتي في المستويات المختلفة، حين أبذل جهدي في توضيح الموضوع أواجه بسؤال عفوي عادي أشعر أنه هدم كل ما كنت أحاول بناءه، فأُصدم ولا اعرف ماذا أفعل. ومن لم يعان هذا الموضوع لا يعرف ما يحيق بأفكاره من التشويه والبتر والابتذال. فمثلاً كلما ما تعبنا في إثبات أن الذي ينقص المسلمين هو الصواب وليس الإخلاص - على الأقل فبالوقت الراهن - وبعبارة أخرى إن الذي ينقصنا العلم وليس الإيمان (القدرات وليس الارادات)..يرجع ويقول لنا: إن المشكلة تكمن فيعدم وجود المخلصين المؤمنين. وفي مثل الذهاب إلى الحج قد يفقد الإنسان الإرادة وعنده القدرة، وقد يفقد وعنده الإرادة، ووجود هذين النموذجين: من لا يريد الذهاب ومن لا يقدر على الذهاب -لا يختلف فيه أحد - ولكن مع هذا الوضوح قد يختلط الأمر عليك، وتصير إلى إنكار أن يوجد هذان الصنفان من الناس، وإنما يوجد صنف واحد فقط؛ وقد تقول لي: يوجد الذين لا يريدون، ولكن لا يوجد من لا يستطيع. وأقول: هذا ظلم ومحاولة للتهرب من الموضوع، لأنه يوجد كثير من الناس لا يستطيعون الحج وإن كانوا يريدون، وهؤلاء كمن:
﴿تولَّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون﴾ (سورة التوبة: الآية 92).
فالتسوية بين هؤلاء وبين المخلفين الذين ذكرهم الله في سورة التوبة وفضحهم، تسوية غير مقبولة.
وهذا الواضح الخفي هو الذي جعل حسن البنا رحمه الله يكتب في مقدمة رسالته (إلى أي شيء ندعو الناس): (قد تتحدث إلى كثير من الناس في موضوعات مختلفة، فتعتقد أنك قد أوضحت كل الإيضاح، وأبنت كل الإبانة، وأنك لم تدع سبيلاً إلى الكشف عما في نفسك إلا سلكتها حتى تركت من تحدثهم على المحجة البيضاء، وجعلت لهم ما تريد بحديثك من الحقائق كفلق الصبح أو كالشمس في رابعة النهار، وما أشد دهشتك بعد قليل حين ينكشف لك أن القوم لم يفهموا عنك ولم يدركوا قولك … رأيت ذلك مرات ولمسته في عدة مواقف) مجموعة رسائل حسن البنا - ص 124 - بيروت - 1965.
وهذا ما جعل ابن خلدون يذكر قصة طريفة لتقريب هذه المشكلة لما ذكر غرائب ما يتحدث به ابن بطوطة من رحلته قال: (فتتناجى الناس بتكذيبه، ولقيت أيّامئذ وزير السلطان فارس ابن وردار البعيد الصيت، ففاوضته في هذا الشأن ورأيته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض الناس في تكذيبه. فقال لي الوزير فارس ابن وردار البعيد الصيت، ففاوضته في هذا الشأن ورأيته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض الناس في تكذيبه. فقال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره، فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن، وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربى فيها ابنه في ذلك المحبس، فلما أدرك وعقل، سأل أباه عن اللحم الذي كان يتغذى به فقال له أبوه: هذا لحم الغنم، فقال: وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها، فيقول: يا أبت: تراها مثل الفأر؟ فينكر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر؟ وكذا في لحم الإبل والبقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر، فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر …
وهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار، كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الأغراب كما قدمنا أولا الكتاب. فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمناً على نفسه، ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته، فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه. وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإن نظامه أوسع شيء، فلا يرفض حداً بين الواقعات، وإنما مرادنا بحسب المادة التي للشيء). مقدمة ابن خلدون - ص 158 - القاهرة 1966.
وهذا ما قرره مالك بن نبي - رحمه الله - بأسلوب آخر في كتابه (الأفريقية الآسيوية) حيث قال: (لأن البداهة لم تكن لتبرئ الإنسان من فكرة مسيطرة عليه) مالك بن نبي - الأفرسيوية - ص 53 - القاهرة - الطبعة الأولى.
وقوله: (وحتى في الكتابات العلمية الخالصة، نلاحظ وجود هذا العنصر الانحرافي الذي يقحم دخائل النفس الإنسانية في المشكلات الاقتصادية. ومن الأمثلة على ذلك ما نلاحظه في كتابات بعض الاقتصاديين الغربيين تلك التي لا نستطيع أن ننازع في نزاهتها الخالصة، أو جدارتها، فإن عنصر الانحراف يتدخل كلما اتصل الحديث بالمشكلة الاستعمارية، وإنه ليتحدث عنها بمنطق الفني الكامل الذي لا يغض النظر في أية لحظة عن قيمة الأرقام ودلالة الأحداث والوقائع، غير أنه بعد أن يبرهن على الخسارة الهائلة التي جشّمتها مستعمرة معينة لمستعمريها، يستخلص نتيجة غير منتظرة هي أن وجود بلاده ضروري في المستعمرات على الرغم من خسارة الميزانية. هذه لا جدال نقطة تتشابك فيها حقيقة الضمير مع حقائق العلم، وينتج عن هذا انحراف يحدث بصورة مغرضة في جميع التصريحات والبيانات).
هكذا تعمل الفكرة المسيطرة على الإنسان فتحول بينه وبين فهم الفكرة الأخرى مهما كانت بدهية. وهذه الأمثلة سقناها في مستوى صعوبة انتقال الفرد ضمن حضارة معينة من مستواه المتخلف إلى مستوى آخر أفضل.
كما يمكن رؤية هذه الصعوبات في مستوى إنسانيين من حضارتين مختلفتين ولكن بشكل معقد أكثر. فالمسلم يرى بداهة مساواة الأبيض والأسود، ولا يدرك كم أمام الإنسان الأمريكي من عقبات تحول بينه وبين فهم هذه البدهية البسيطة، والمسلم الذي يقرأ في كتاب الله تعالى:
﴿وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم﴾ (سورة النحل: الآية 58).
لا يزال يحمل فكراً جاهلياً كثر أو قلّ، بينما الرجل الغربي الذي تتهمه بالجاهلية عنده هذه الحساسية إذا ولدت له أنثى.. ولا يتمكن مسلم اليوم أن يدرك مشاعر الغربيين هنا، لأن بيئته سيطرت عليها فكرة ما حالت بينه وبين فهم ما يريده الآخر.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم حين يقول:
وإن تعجب فعجب قولهم: ﴿أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد؟ ؟ ﴾ (سورة الرعد: الآية 5)، وقوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم، وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به؟ انظر كيف نصرف الآيات؟ ثم هم يصدفون﴾ (سورة الأنعام: الآية 46).
يقول ابن تيمية: (إن الله تعالى لم يقصّ علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها لما في الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني والأول، وكانا مشتركين في المقتضي للحكم، فلولا أن في نفوس المكذبين للرسل - فرعون ومن قبله - شبه بنا، لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال الله تعالى:
﴿كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون﴾ (سورة الذاريات: الآية 52).
وقال الله تعالى: ﴿كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم﴾ (سورة البقرة: الآية 118).
وقال الله تعلى: ﴿يضاهئون قول الذين كفروا من قبل﴾ (سورة التوبة: الآية 30).
ولهذا قال النبي (ص): (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم، قلنا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن). كما قال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك).
فالمسلمون - على الرغم من بقائهم مسلمين - معرضون لأن يقعوا بما وقع فيه غيرهم من تجافٍ للحق وعدم رؤيته، وأنه يمكن أن يبتلوا بمفاهيم خاطئة تجعلهم يتحدون أوضح البدهيات واليات البينات. من ذلك مثلاً ظن العالم الإسلامي أن الذي ينقصه لحل مشكلته الإخلاص وليس الصواب (أي الإرادة وليست القدرة) بينما يذكر ابن تيمية في لفتة فكرية رائعة (أن الحب (الإخلاص) يتبع العلم (الصواب) ).
والقرآن يؤكد كثيراً كيف يمكن للناس أن يتحدّوا البهيات والآيات البينات انطلاقاً من الأفكار المسيطرة والمسلمات التي عندهم من غير محاولة لفهم أفكارهم المسيطرة وأدلتها، وإنما يكتفون بالإجماع الظاهري الذي كان عليه الآباء، وهذا الذي وجودا عليه الآباء، جدار متين يسندون إليه ظهورهم بوعي ويغر وعي حين يتحدّون البدهيات في كل عصر سواء في ذلك الأمريكي حين يصر على العنصرية، أو المسلم حين يصر على التعامي عن آيات الآفاق والأنفس التي ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل كما هي اليوم. والقرآن مليء بمثل هذه المواقف التي كانت تقفها الأمم من الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس اتباعاً لأهوائهم، وما ألفوا عليه آباءهم.
وهذا الموضوع جدير بالبحث والدرس والتعميم ورؤية مشاكله اليومية. وإن الآليات الذهنية نفسها اليوم تقوم بتحدي البدهيات سواء ذلك عند المسلمين أو غيرهم؛ وأنا أحاول أن أبحث نقطة من هذه النقاط التي تسيطر على المسلمين، وتحول بينهم وبين رؤية الواقع على حقيقته ووضوحه؛ أل وهي ما يحدث من خطأ في فهم موضوع القدرة والإرادة، وكيف نقع في التناقضات في كل منهما.
كيف يحصّل الإنسان القدرات
إذا نظرنا إلى الطفل حين يولد نجد لديه قدرة مص الثدي - وهي قدرة مادية - وهذه القدرة مهما أن عنصر الإرادة فيها خفياً فهي قدرة، ولكن بعد قليل تصبح لديه قدرة أخرى هي التعبير عن إرادته بالبكاء فيستخدم قدرة البكاء لإظهار إرادة ما، لأن الطفل من شأنه عدم البكاء إذا كان في راحة تامة من حيث النظافة والغذاء والصحة والوضع المريح، والباحثون والمجربون يعلمون هذا. وكلما كبر الطفل صارت له قدرات، فهو لا يبصر في الأيام الأولى من ولادته، كما أنه لا يستطيع القعود والمشي و… ومع مرور الزمن تنمو هذه القدرات لديه. وكذلك الشأن في القدرات الفهمية فإن الطفل يبدأ في التمييز بين وجه والدته وإخوانه، ثم في فهم الكلمات إلى أن يتعلم التكلم، ويسأل عن الأشياء التي يراها. وهكذا يمر الطفل في مراحل مدهشة من النمو، سواء في نوه الجسمي، أو نموه الفهمي، أو نموه الأخلاقي..
إن لنمو القدرات الجسدية وتحصيلها، قوانين واضحة ساهمت في تحسين الوضع الصحي للبشر، وقللت من وفيات الأطفال؛ ويمكن للإنسان مهما اختلفت ثقافته أن يكتمل بناؤه الجسدي في سن العشرين بتطبيقه الأسلوب الصحي المناسب.
بينما القدرة الفهمية وتحصيلها ليست كذلك. وأما كيف بدأت؟ فنجيب ع ذلك بقولنا: إن القدرات الفهمية كسنن، موجودة من يوم خلق الله الأشياء، بل قدّرها قبل أن يخلق العالم … فمثلاً سنن الذرة هي سنن الذرة قبل كشفنا لها وبعد كشفنا لها، ولكن حين كشفناها صارت لنا قدرات فهمية عن الذرة لم تكن موجودة عندنا من قبل. وسنن الجراثيم الممرضة هي كما كانت قبل اكتشافنا لها، ولكن نحن الذين تغير موقفنا منها بعد أن كشفناها وصارت لنا قدرة على تسخيرها.
ولننظر نظرة أعمق للقدرات - على أساس كيف بدأ الخلق - إلى الفرق بين صغار الإنسان والحيوان. فلو أخذنا مولوداً حديثاً من الحيوانات وليكن من البقر، وربيناه من غير أن يرى واحداً من بني جنسه، حتى إذا بلغ مرحلة الإخصاب وأدخلناه بين بني جنسه لا نجد فرقاً كبيراً بينه وبين الذي عاش بين أفراد جنسه. ولكن لو تصورنا هذا الأمر في جنس الإنسان، فأخذنا طفلاً من يوم ولادته، وبطريقة ما وصل هذا الطفل إلى مرحلة الإخصاب دون أن يرى احداً من بني آدم؛ كيف تتصور أن يكون هذا الإنسان عندما ندخله إلى بني جنسه؟ يمكنك أيها القارئ أن تتخيل كيف سيكون هذا الإنسان؟ إنه لا يستطيع أن يتكلم أية لغة من اللغات، بل تكون قد فاتته المرحلة الذهبية في تعلم لغة ما بسهولة ويسر، ثم كم جانب من جوانب القدرات الإنسانية يظل ضائعاً؟ بل إن هذا الإنسان يكون أدنى من الحيوانات، لأن الحيوانات بغرائزها تنظم حياتها، بينما الإنسان مركب من قدرات الإنسان التاريخية التي اكتسبها على مر التاريخ، كالأمور الأخلاقية ومعنى الحلال والحرام، والحق والواجب، وما إلى ذلك من أمور. ومهما حلقت في التفكير، فما أظنك تحيط بما يفقد هذا الإنسان بفقده الحياة مع بني جنسه … ومن هنا نعلم أن الإنسان لا يمكن أن يستقل عن بني جنسه. ليس عن بني جنسه المعاصرين له؛ بل عن بني جنسه الأقدمين، لأن كل المعارف التي للأجيال الماضية تعطى مختصرة للطفل الذي ينشأ في المجتمع.وبهذا يُعرف أن الإنسان يكتسب قدرات هائلة، ولو كان في قبيلة ولو بدائية وبين من لم ير إنساناً قط. وكذلك يمكن ملاحظة الفرق بين من نشأ في قبيلة بدائية وبين من نشأ في مجتمع متمدن. وهذا يدلنا على أن الإنسان حين يولد، فإن المجتمع هو الذي يعطيه القدرات المكتسبة المتراكمة على مر التاريخ. ينبغي أن لا ننسى هذا؛ وهو أن الإنسان في قدراته وصلاته بالكون والإنسان والخالق في حاجة إلى أن نلخص له تاريخ مكاسب الإنسان كلها لنعطي له خلال سنوات قصيرة كل ما تبعت به البشرية في الحصول عليه خلال آلاف السنين، وهذا أوضح ما يكون في العلوم: الطب والفلك والرياضيات … فكم تعبت البشرية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في هذه العلوم - مثل كشف التعقيم والتلقيح وبعد النجوم وقوانين سرها ورموز الأرقام والصفر … - هذه القدرات الفهمية لها تواريخها والزمن الذي اكتشفها الإنسان فيه، وكذلك كل القدرات الأخرى من معرفة إيقاد النار وزرع الأرض واستئناس الحيوان ث تسخير البخار والكهرباء … وكما أن صنع سيارة أو صاروخ أو … يحتاج إلى قدرات فهمية لا شك فيها؛ فإن تنظيم المجتمع وصنع ثقافته واختيار المبدأ الذي يترابط على أساسه، يحتاج إلى قدرات فهمية أيضاً.
والجانب الذي نهتم به في هذا الكتاب؛ هو جانب القدرات الفهمية، ولاسيما القدرات الفهمية لصناعة المجتمع، وفهم القوانين التي لها أمر صلابة المجتمع وقوة تماسكه، وأساليب علاجه وتغييره وضبطه.
وينبغي أن نبدأ في موضوع القدرات من نقطة الصفر أيضاً. فلنفهم كيف توجد، ومن أي أبوين تولد، لابد من رؤية ذلك بوضوح. ولنتمكن من ذلك لابد من اتباع أمر الله في النظر كيف بدأ الخلق ومنه خلق القدرات الفهمية. وهنا يمكن أن نقول: إن الحيوانات ليس لها قدرات فهمية وغنما لها قدرات غريزية موروثة. ولإمكان رؤية بدء خلق القدرات الفهمية، يمكن أن ننظر إلى الأطفال كيف يتعلمون من المجتمع ما تعلمه الطفل خلال بضع سنوات. كما يمكن للطفل العادي خلل عشرين سنة أو ثلاثين سنة من عمره.. أن يبلغ في الموضوع الذي تخصص فيه إلى نهاية ما وصل إليه العلم في هذا الموضوع الذي جهدت فيه البشرية لبضعة آلاف من السنين.
ومن هذه الظاهرة نفهم أمرين:
1- كيف تتكون القدرات ببطء خلال التاريخ
2- كيف تنتقل هذه القدرات بعد أن أصبحت علماً إلى الأطفال خلال سنوات قليلة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر ينبغي البحث عن أبوي القدرات أي عن الزوجين اللذين يلدان القدرات وهما العقل وسنن الكون.
أما الزوج الأول وهو عقل الإنسان، فإننا لا نبحث عن كنهه وإنما عن وظيفته، وقد قال الله تعالى عنه:
﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر﴾ (سورة المؤمنون: الآية 14).. ﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً﴾ (سورة الإسراء: الآية 36).
والزوج الثاني وفيه مجال عمل عقل الإنسان؛ هو وقائع الكون وأحداث التاريخ البشري - أي آيات الآفاق والأنفس - لأن العقل إن لم يتصل بوقائع الكون وأحداث التاريخ البشري، لا يمكن له أن ينمو. فكما أن العين لا تبصر بغير ضوء، فكذلك العقل لا يقوم بوظيفته بغير وقائع الكون (آيات الآفاق)، وأحداث التاريخ البشري (آيات الأنفس).
إذن نستطيع القول: بأن العقل والكون يتفاعلان لإيجاد القدرات الفهمية.
إن من طبيعة العقل فهم السنن واستنباطها من المخلوقات ووقائع الكون وأحداث التاريخ التي تخضع بطبيعتها للسنن. وهذه العلاقة المزدوجة هي التي تولد القدرات. ومظهر هذه القدرات هو التسخير. فالقدرة تبرز من خلال التسخير ﴿وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ (سورة الجاثية: الآية 13).
وجدنا فيما سبق عندما يعرض المثل الأعلى على العقل فإنه يدركه ويميزه، كما تدرك حاسة الشم الرائحة وتميزها. فكما أن العقل طرف في تحصيل الارادات، كذلك هو أيضاً طرف في تحصيل القدرات الفهمية؛ وذلك حين تعرض الأحداث التاريخية ووقائع الكون عليه، يبدأ في البحث عن سننها وأسبابها، فيسأل: كيف ولمَ يحدث هذا؟ ثم يكشف قانونه كما فعل ابن خلدون في النظر إلى الأحداث التاريخية للبشر في عمرانها ونموها وتوسعها وانحدارها. ولهذا يأمرنا الله تعالى أن ننظر إلى سير الذين خلوا من قبل لنكشف عوامل هلاكها أو نموها، وعوامل سعادتها وشقائقها. ومكن بسهولة رؤية الهلاك والشقاء والنجاة والسعادة، ولكن رؤية أسبابها أصعب؛ وهذا ما بحثه ابن خلدون، والدارسون للتاريخ من هذه الجهة. وبرؤية أسباب ذلك رؤية واضحة يتحول التاريخ إلى علم وإلى تسخير، وما لم يتحول إلى تسخير - لتفادي المصائب - ليكون قد تحوّل إلى علم أصلاً.
وهنا ينبغي البحث في الموضوع من جانبين: جانب كيفية كشف السنة، وجانب التأكد من صحة هذا الكشف. ويكون الأول بملاحظة كيفية وقوع الحدث ورؤية سببه. ويكون الثاني بالقدرة على توجيه الحدث وتسخيره والسيطرة عليه.
والجانب الأول يمكن أن يبحث من خلال ما يعرضه ابن تيمية من مراتب الوجود في قوله تعالى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ (سورة العلق: الآية 1) فيعتبر أن مراتب الوجود أربعة: وجود عيني، وجود ذهني، وجود لساني، وجود بناني.. والآية تنص على الوجود الأخير والوجود الأول. فالوجود الأول هو الوجود الخلقي الذي سماه العيني، وسماه الغزالي: الوجود الخارجي أي وجد الشيء في الواقع الخارجي، ثم وجود صورة هذا الوجود الخارجي في ذهن الإنسان، ثم التعبير عن هذه الصورة الذهنية باللفظ - باللسان لفظاً - ثم التعبير عن هذا اللفظ بالخط الذي سماه ابن تيمية: بَناني. للاستزادة يرجى مراجعة المجلد 16 من الفتاوى لابن تيمية ص 2520 حتى 280.
ويمكن ضرب المثل لذلك بالرعد، فله وجود خارجي يحدث في السحاب، وله صورة ذهنية في الإنسان. ويعبر عن هذه الصورة الذهنية التي حدثت في ذهنه بلفظ رعد، ثم يعبر عن ذلك برسم صورة من الخط يدل على هذا اللفظ.
فالله تعالى ذكر القراءة، وذكر الخلق، لأن الوجود الخارجي هو الخلق الذي تحدث للإنسان صورة عنه، ثم يعبر عنها باللفظ ثم بالخط..
فالخلق هو الوجود الأول الذي يسمى العيني أو الخرجي، والخط - أو البناني أو الرسمي - هو الوجود الأخير. فالله ذكر الأخير والأول وما بينهما واسطة. وما ذكره ابن تيمية والغزالي يدل على الجانب لاسمي أكثر من الجانب السنني.
أما بحث هذا الموضوع من الجانب السنني فيكون في مطابقة الصورة الذهنية للوجود الخارجي، أي مطابقة الفهم للخلق بأن نفهم سنة الخلق. وهذا الموضوع بحثته في كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) وهو أن الله يخلق السنة والنتيجة، وقد أقدرنا الله على استخدام السنن التي على أساسها يحدث لنا التسخير، فإذا تصرفنا في الأسباب التي خلقها الله، حصلت لنا النتائج. فدور الإنسان هو فهم السنن (الأسباب)، والتصرف فيها هو التسخير.
وعندما يطابق الفهم للخلق (أي للسنة) تأتي النتائج كاملة؛ أي يحصل التسخير، وبمقدار ما يكون فهم الأسباب ناقصاً يكون العلم ناقصاً، ويكون التسخير ناقصاً، لأن دليل صحة الفهم هو تمام التسخير. وحين لا تأتي النتائج تامة فإننا - للأسف - لا نعترف بالخطأ أو بالنقص في فهمنا. بل نتذرع بأن النتيجة لم تأت وذلك لحكمة أرادها الله … وكثيراً ما تغدو هذه الحالة ستراً لعجزنا وتهرباً من مسؤولية البحث والتنقيب عن أسباب قصورنا.
ولهذا يأمرنا الله تعالى بالنظر إلى العواقب، لأنها تدل على صدق فهم السنن. فالعواقب والتسخير كلمتان قرآنيتان،وهما الدليلان على صدق فهم الإنسان للموضوع، ويمكن فهم هذا بشيء من السهولة \في موضوع آيات الآفاق ولاسيما في هذا العصر لأن التقدم العلمي في التسخير يتم على قدر ما يكتشف الإنسان من السنن. وينبغي أن يتم نقل هذا القانون إلى مستوى المجتمع، وهذا ما فعله القرآن حين أمر بالنظر إلى عاقبة الذين خلوا من قبل، وبالنظر إلى عاقبة الأمور. من ذلك قوله تعالى:
﴿قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾ (سورة آل عمران: الآية 137).. ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ (سورة يوسف: الآية 109).
هذه هي القدرات الفهمية التي يحتاج إليها العالم الإسلامي لينجح في مسعاه وفي صنعه للامة المسلمة.
وأمام العالم الإسلامي عقبات في إدراك هذا الموضوع، وهذا ما يجعل سعيه عقيماً، وهذا ما جعلني أحدد بأن هذا الجانب هو الذي ينقص العالم الإسلامي ليمشي سوياً بدل أن يظل مكبّاً على وجهه معرضاً عن أمر الله بالنظر في (كيف بدأ الخلق) (سورة العنكبوت: الاية20). ومازال أكثر المسلمين يظن أن هذا الأمر شيء غير الكتاب والسنة، ولسنا بحاجة إليه لأننا لسنا بحاجة إلى ما سوى الكتاب والسنة. إنهم لا يدركون مقدار ما يلح القرآن على النظر إلى سنن الذين خلوا من قبل. وهنا أريد أن أقول: إن فهمنا للكتاب والسنة متقيّد. وأعني بمتقيد: لو أن إنساناً خالي الذهن لا علم له بالمناخ الذي يحيط بالقرآن، عرضنا عليه القرآن وقلنا له: انظر لنا الأمور التي يهتم بها هذا الكتاب. إن هذا الإنسان يرى بسهولة أن اهتمام القرآن يتوجه لفهم سنن الذين خلوا من قبل، وللنظر إلى السنة والقوانين التي تتحكم في سِيَر البشر. إن هذا القارئ ينظر إلى القرآن الكريم من غير أن يتأثر بالمناخ الثقافي المحيط بالقرآن الذي صنعه المسلمون خلال القرون؛ وهو مناخ يقيد المسلم بفهم خاص يبعده عن إدراك هذه الأمور القرآنية، ويجعله لا يرى لها أهمية وفائدة …
إن هذا المناخ هو الذي يسبب ما سمته الآية الكريمة (الإعراض) في قوله تعالى:
﴿وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون﴾ (سورة يوسف: الآية 105).
إذن فعدم قدرة المسلمين في فهم أهمية هذه الأوامر ليست راجعة إلى الكتاب والسنة، ولكن إلى المسلم الذي صارت عليه الآصار والأغلال من صنع القرون الماضية، ومن إهمال العصور السابقة لهذه الأوامر.
إن فقدان المسلم لفكرة التسخير، وفكرة المراجعة وكشف الخطأ في النظر، وإعادة البحث في الأسباب … كل هذا قد جعله عاجزاً عن أن ينظر إلى الكتاب والسنة نظراً سليماً. لقد ضيعنا قاعدة التصحيح للخطأ، فلهذا لا قدرة لنا على الخروج من الخطأ، لأننا فقدنا قانون تصحيح الفهم ليتطابق مع سنن الوقائع في الكون والأحداث في التاريخ مردّدين: علينا أن نسعى، وليس علينا إدراك النجاح، وبهذه السهولة نمتنع عن مراجعة الموضوع لتلافي النقص في فهم السنن.. هذه عقبة كؤود تثقل كواهل المسلمين. وحين يقول الباحثون في التاريخ:
(إن العوامل التي تعيق النمو هي مواريث خاطئة تحول بين المسلمين وبين رؤية الصواب)، فإنهم يرون أن العلاج يكون بالتخفيف من أثقال المواريث أكثر من أن يكون بإضافة أشياء جديدة.
ويبدو هذا واضحاً في المثل الذي قدمناه سابقاً وهو أن الإنسان خالي الذهن أقدر على فهم القرآن من الإنسان الذي حمل مواريث خاطئة تمنعه من الفهم الصحيح.
وقد يرد معترض قائلاً: ما بال الأولين لم يروا هذا الذي تراه الآن؟
وقد يكون هذا الاعتراض صحيحاً، إلا أن الظروف التي عاش فيها الأولون ل تكن مواتية لفهم هذه الأمور كالظروف التي نعيش فيها الآن مع تقدم العلم واتساع كشوفه في مجال الآفاق والأنفس.
إلا أن الآصار والأغلال المتمثلة في المواريث الثقافية تمنع عنا الرؤية الصحيحة لأنوار الله تعالى، وهذا ما يجب أن نسعى للتخلص منه، وتلك مهمة رسول الله (ص) حين وصفه الله بقوله:
﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم﴾ (سورة الأعراف: الآية 157).
وهنا يجدر بنا أن نبحث فكرة مهمة وهي:
ملكة تحصيل القدرات
إن الثقافة التي تثقف بها والدراسات التي نعيش نعها، لا تبث فيا اكتساب ملة البحث والدرس وكشف السنن والقوانين. ولا يشعرنا الكاتب الذي نقرأ له أن بحثه ليس كافياً، وأن على الباحثين بعده أن يوضحوا الموضوع أكثر منه، كما لا يوحي إلينا أن العلم قابل للزيادة؛ فلا يحثنا على طلب المزيد منه، ولا ينذر عن ضآلة ما يقدمه، ليس بالكلمات وإنما بالأسلوب نفسه الذي يستطيع به أن يدل على بث روح الدأب لكشف السنن وتوضيح القوانين. وثقافتنا توحي بأن العالم خلق كاملاً، فلا يمكن المزيد عليه، وكأن البحوث انتهت مع الأولين الذين ل يتركوا شاردة ولا واردة إلا بحثوها وفهموها وحصّلوا الذروة والنهاية، وليس عليه هو إلا أن يتملّق بحوثهم. كذلك العلاقة بين التلميذ والمعلم، حيث يوحي المعلم بأنه يعلم كل شيء. وأخذ الأطفال الصغار هذا إلى أن يكتشفوا جهل المعلم في بعض الأمور. إلا أن هذا الكشف لا يأتي بشكل إيجابي لا من المعلم ولا من التلميذ، وإنما بشكل سلبي من كليهما. فالمعلم لا يقابل ما يجهل بسوية بل كثيراً ما يكون بمواربة وخداع … والتلميذ المسكين يتقمص هذا الموقف الذي ينتج سوء العلاقة المشبعة بالاحتقار.
فعلى الأجيال اللاحقة أن تكشف هذه الأمراض. وأن تبرز كيف يوحي كتّاب جيلنا والذين سبقوهم لقرائهم بالخمول والكسل ويقتلون فيهم المواهب ويأسرون العقول.
والمسلم حين يسمع مثل هذا الكلام قد يفهم هذا بالنسبة لأشخاص معينين، وبالنسبة لأجيال معينة، ولكن لا يريد أن يعمم هذه القاعدة على جميع الأشخاص والأجيال، وبهذا الاستثناء يهدم القاعدة ويعطل الفائدة فلا يصل إلى الحق، وإنما ينتقل من تقليد إلى تقليد، ه لا يشعر أنه قد اغتال القاعدة الأصلية القائلة:
(لا تعرف الحق بالرجال،ولكن أعرف الحق تعرف أهله).
وإن القفل الذي يسدّ به باب ملكة تحصيل القدرات، هو أن يصير الآباء مكان الحقيقة مهما كان هؤلاء الآباء.. وهذه إشارات صغيرة لوباء قتّال يشل العالم الإسلامي، ويصرفه عن القدرات الفهمية، وكيف يتم تحصيلها … وهذا الكتاب بحث لإبراز أهمية القدرات الفهمية (العلم) لمعرفة حل المشكلات وتسخيرها.. أين أنت يامن سينسف هذه الحواجز التي لا نقدر على مسّها؟ أين أنت يا من ستقلِّم شجرة المسلمين من الأغصان اليابسة التي منعت من أن تعطي الثمار؟ هل أنت لاتزال في عالم الأصلاب؟
انظر كيف نبذل جهوداً شاقة مضنية للتغلب على الأوهام، ولتكن لك هذه الجهود سابقة، تساعدك على تحصيل القدرات الفهمية للإشراف على بستان المسلمين، ولتتناوله من ايدي الذين يحرصون على الأغصان اليابسة التي علقت بها، ولتخلّص هذا البستان من الذين يريدون أن يستأصلوا شجرة الإسلام.
أنت يا من يكون لك شرف تحصيل القدرات الفهمية للإشراف على هذه الجنة التي أصابها الإهمال من أصحابها، والإفساد من آخرين مختلطين.
الإرادة كانت قدرة
تتولد الإرادة في صورة قدرة لاختيار الهدف الأفضل، وتتولد القدرة في صورة قدرة لكشف الوسائل لتحقيق الهدف، فكما أن الله خلقنا من زوجين، كذلك خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء … كذلك القدرة والإرادة زوجا خُلقا من نفس واحدة، ثم خلق منها زوجها وبث منهما أعمالاً كثيرة ناجحة وصالحة …
خلق الله آدم، ثم خلق منه زوجه ثم كان رجال ونساء.. وخلق الله القدرة، ثم خلق منها زوجها الإرادة ثم كانت أعمال كثيرة..
فالأصل القدرة، ثم الإرادة التي تتفاعل معها، فالقدرة على الإرادة، مثل القدرة على الشم فمنها تنشأ إرادة الشم.. والأصل أن يفهم الإنسان ثم يريد، هذا هو الأصل، وإن كان في الإمكان حصول العكس أحياناً، كما أن أصل اللاشعور شعور سابق، كذلك أصل الإرادة قدرة سابقة.
والقدرة - بمعنى إمكان فهم الأفضل مما هو متاح للإنسان - هي التي تُحدث الإرادة عند الإنسان، وعلى هذا يمكن أن نقول: القدرة تلد الإرادة وتعود الإرادة فتدفع إلى طلب الصواب والزيادة منه، وازدياد الصواب يساهم في بلورة الإرادة فتقوى، وهي بدورها تدفع إلى تحصيل القدرات، وهكذا يسير الأمر بعد ذلك، وهكذا نكن قد فهمنا البدء، وفهمنا التقدّم. وبعد البدء والتقدّم إما التوقف والتقهقر أو الاستمرار والتقدم.
فهمنا كيف يتم البدء والتقدم، ولكن كيف يحدث الانتكاس:
﴿ومن نعمره ننكسه في الخلق﴾ (سورة يس: الآية 65).
إن الإشارة في الآية إلى الحياة العضوية الفردية , وأما في الحياة العضوية الاجتماعية، فإن الانتكاس يتم بأن ينشأ قوم لا يكون واضحاً لديهم أمر العلاقة (التسخيرية) - بلغة القرآن، أو (السببية أو الجدلية) بلغة أخرى - بين القدرة والإرادة. فيزهدون في العلم أو يقتصرون على جانب منه، فتبقى الإرادة عزلى عن قدرتها وتبدأ في الضمور، وهكذا يقلّ العلم، فتقل الإرادة كما قال رسول الله (ص):
(إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
ويمكن ملاحظة ذلك الآن حيث نجد الذين يملكون إيرادات صحيحة، ويتحسّرون على انحسار مبادئ الإسلام من النفوس، ويتألمون بصدق،ولكنهم لا يعلمون كيف يحققون ما يريدون. فمع تألمنا يحدث ما لا نريد وذلك راجع إلى ذهاب العلم أي ذهاب الصواب وذهاب القدرات.
وهناك من يقول: (إن انهيار الأمم يصاحب توسعاً في العلم). إن هذا التوسع ظاهري، لأن علماً أساسياً قد فُقد فسبب فقده الانهيار. ومثال ذلك واضح في أي جهاز يبدأ بفقد القدرة على أداء وظيفته إذ لابد أن يكون قد اعتراه خلل معين، وينبغي ألا نخطئ هنا فنظن أن هذا الخلل قد نشأ من علم لاعن جهل.. وعدم تعميم مثل هذه البدهية على الحياة الاجتماعية هو الذي يُسقط الأمم، وينبغي إدانة العلم نفسه بسبب ادعاءاتهم، بل علينا أن نكشف الجهل الذي تسبب في الخطأ. وإلا فأي خطأ أكبر من أن نقول: إن الخطأ نشأ من العلم، فلهذا تناقض صريح. ولكن إن أقررنا الذين يفرجون بما عندهم من شواطئ العلم نكون في ذلك الوقت في الصحارى وليس في لجج العلم وبحره، وتقوى بذلك شوكة الجهل البسيط بجهلنا المركب. إن العلم لا يكون سبباً للضلال، وإنما نقص العلم سبب الضلال. ويجب أن نكشف ما حسبه الناس علماً على حقيقته، فنبيّن أنه لا يزيد عن كونه ظناً أو علماً ناقصاً غير كامل. ولذلك نسوق ما جاء في مجلة اليونسكو (ديوجين - مصباح الفكر - العدد 19/1972 في مقال لمحمد أركون): (… وفيما يتعلق بالغرب نراهم يبذلون الآن جهوداً دائبة لتحرير العلم من منهج ديكارت، ثم إن تقدم العلوم اللغوية وعلم النفس والتاريخ والأنثروبولوجيا - البشريات - وبخاصة علم الأحياء من شأنه أن يجعل المذهب الماركسي أكثر مرونة، وتجري بحوث جادة للقضاء على الآلهة الزائفة التي عبدها العقل بإخلاص، ولا يزال يقدسها.. وبدلاً من تقسيم العلم إلى:
أ- نظرية تقوم على الفروض الميتافيزيقية.
ب- تطبيق يترك أمره للمهندس والعامل.
يسود الاتجاه الآن نحو ما يسمى بالعلم العملي أي: الجمع بين النظرية والتطبيق، وهذا الموقف الجديد الذي يقفه العقل أمام نفسه يفرض عليه أن يعيد النظر في تاريخه كله، لا ليرفض هذا التاريخ بغطرسة وكبرياء، بل ليفهم عمليات هذا التاريخ على نحو أفضل، فيستطيع - على سبيل المثال - أن يفسر لنا كيف ربط مصير النفس الإنسانية بهيمنة الفكر الذي يزعم انه يستطيع تعليل كافة الحقائق بمقتضى بعض القوانين المنطقية المتناسقة. على أن هذه الجهود تستهدف - تقويض الصرح القائم - والتي يجب أن تسبق كل عمل على أساس أنه لا يمكن أن تبدأ إلا في الغرب نفسه، ذلك أن جميع الباحثين في الغرب، لم يتحولوا عن موقفهم، ولم يغيروا من أنفسهم، وكل ما تم إحرازه من تقدم في هذه السبل لم يمس جوهر الثقافة العلمية التي لا تزال تتسم في كثير من النواحي بخصائص فلسفة التنوير. ولم يقم الغرب بأي عمل حاسم حتى الآن إزاء الحضارات الأجنبية. وفيما يتعلق بالإسلام نلاحظ في فرنسا مثلاً قلة اهتمام بالدراسات العربية …).
إن ما ظنه هذا الكتاب محاولةً للتحرر من منهج ديكارت، ليس في حقيقته إلا تعميماً لهذا المنهج، وذلك بالانتقال من عالم الآفاق إلى عالم الأنفس، والتأكيد على أن:
برهان العلم في نتائجه التي سمّاها القرآن الكريم (العاقبة): ﴿والعاقبة للتقوى﴾ (سورة طه: الآية 132).
وهذا ما يظهره عسى عليه السلام حين سئل: كيف نعرف الأنبياء الصادقين من المتنبئين؟ قال: (من ثمارهم تعرفونهم) إنجيل متى - إصحاح 7 - فقرة 20. وليس هذا ذرائعية العاجلة، بل ذرائعية العاجلة:
﴿بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى﴾ (سورة الأعلى: الآيتان 16،174).
فما هو خير وأبقى هو البرهان الصحيح، فمن شاء أن يسميه ذرائعية فليسمه، من أراد أن يسميه براغماتية فليسمه؛ ونحن نسميه بما سماه الله تعالى: ﴿خير وأبقى﴾ أي أن الحق هو خير وأبقى، وما هو خير وأبقى هو الحق.
لقد أخذ العلم يتوسع ويكشف البراهين في الآفاق والأنفس كما وعد الله تعالى:
﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ (سورة فصلت: الآية 53).
فالإيمان بالله واليوم الآخر علم وأي علم، بل هو رأس العلم ببرهان أن من يؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يعطي في الدنيا - أيضاً - الخير والأبقى؛ وهذا البرهان لا يمكن أن يرده أحد إذا قام البرهان عليه أنه خير وأبقى. إن آيات الآفاق والأنفس تدل على انه خير وأبقى، وبقي علينا نحن أن نتمكن من إشهاد آيات الآفاق والأنفس على ذلك، بالكدح والسعي المستتر والنظر الدائب والتفكر في خلق السموات والأرض.
والقرآن لا يوجهنا إلى غير تأمل ما يقع تحت أسماعنا وأبصارنا من الشواهد على الإيمان بالله واليوم الآخر.
صحيح أن الإسلام فيه غيب، ولكن برهانه من عالم الشهادة ولهذا ينبغي أن نفصل بين معنى هذا الغيب ومعنى الميتافيزيقية التي هي في نظر الغرب أمر لا برهان عليه ولا يخضع لقانون. ونحن المسلمين مكلفون بألا نؤمن بما لا برهان عليه، ولا بشيء ليس على قانون ثابت. وفي هذا يقول ابن تيمية: (وقد بيّن سبحانه وتعالى أن السنة لا تتبدل ولا تتحول … والسنة: هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثانية مثلما فعل بنظيره الأول). ابن تيمية، الفتاوى، المجلد 13، ص 20.
﴿سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً﴾ (سورة الأحزاب: الآية 62).
وقد بدأ كثير من كتّاب العربية يستخدمون لفظة (الغيبية) بالمعنى الغربي أي اللاسننية واللاعلمية، كما استخدموا مصطلح (العلم) بالمعنى الغربي، فوقعوا في ضلال وفهم قاصر حين قالوا تبعاً لذلك: إن العلم محايد أخلاقياً. وأي قيمة للعلم إن لم ينتج ما هو ﴿خير وأبقى﴾، وإن لم يرفع إنسانية الإنسان ويحقق كرامته؟! إن هذا التعقيب بمثابة إشارات صغيرة على ما يسميه محمد أرون (تفويض الصرح القائم).
وإذا ذهبت القدرات تبدأ الارادات في الذهاب أيضاً، كما نجد صور ذلك في المجتمع حيث توجهت إرادة البعض إلى إيرادات أخرى.. هكذا البدء، وهكذا الإعادة:
﴿وإن عدتم عدنا﴾ (سورة الإسراء: الآية 8)، ﴿سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسن الله تبديلا﴾ (سورة الأحزاب: الآية 62).
وحينما يستجيب البشر لسنة الله، تسير الأمور إلى الرشاد:
﴿ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم﴾ (سورة النساء: الآية 147).
ولكن هل يمكن إعطاء الإرادة قبل القدرة؟
إن القدرة على الإرادة غير القدرة على وسائل تحقيق الإرادة، وإن كانت كلتاهما قدرة. وإن عند الإنسان قدرة على تحصيل الإرادة قبل أن تكون لديه قدرة على فهم صوابها وسبل تحقيقها. ومن هذا الجانب يمكن أن نرى البشرية أُعطيت القدرة على إرادة المثل الأعلى قبل أن يتيسّر لها معرفة صوابه وإمكان تحقيقه.. ويؤيد هذا قوله تعالى:
﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ (سورة فصلت: الآية 53).
والمقصود بالحق في هذه الآية هو مجمل ما في الدين من مثل عليا كالإيمان بالله واليوم الآخر والدعوة إلى مساواة الناس، وإلى فكرة العالمية وإلى سوى ذلك مما نادى به الدين وتقبَّله الناس قبل أن تكون لديهم القدرة على إدراك صوابه بأدلة العلم التي سماها القرآن: آيات الآفاق والأنفس. فالناس قد أعطوا هذه الأفكار قبل أن تتيسر لهم وسائل تحقيقها، لأن القدرات تتكون شيئاً فشيئاً على مرّ الزمان.
وكذلك الطفل يتلقى المثل العليا وقيم الأخلاق بما لديه من قدرة على تلقيها قبل أن يتمكن من فهم صوابها وصحتها وأخذ الأدلة على ذلك.
كذلك الأمر مع البشرية، فقد أنزل الله على الناس الهدى الذي يمكن أن يتبنوه وتظهر أدلته في كل جيل بما يناسبه من مستويات العلم.
وحين علّق الله أدلة الدِّين بآيات الآفاق والأنفس، فإن ذلك يدل على بلوغ البشرية درجة النضج في تلك المرحلة، لأن أدلة الدين لم تعد غيباً؛ وإن كان في الدين غيب إلا أن أدلته من عالم الشهادة في الآفاق والأنفس، وهذا ما جعل الدين صالحاً لكل زمان ومكان لأنه وجه إلى آيات الآفاق والأنفس …
ويمكن أن نضيف إلى هذا كيف أن معنى العلم زاد وضوحاً وسعة، وبسط آفاقه على مجالات أكثر …
إن دليل العلم عند الناس فيما مضى لم يكن مرتبطاً بالعاقبة - كما هو في القرآن - وإنما كان مرتبطاً بالاستنتاج العقلي، بينما أصبح الآن مرتبطاً بالعاقبة، أي بنتائجه، وبهذا تغير أو تحدد اتجاهه. وكثيراً ما يخفى هذا التطور الذي حدث للعلم، فيظن الناس أن العلم مازال مرتبطاً بالمنطق الارسطي الاستنتاجي …
بينما غدا دليل العلم عاقبة الأحداث. فما هو خير وأبقى من العواقب هو برهان العلم …
حتى إن موضوع الإيمان باليوم الآخر يعرضه القرآن على أساس العواقب، فأي إيمان أعطى عواقب خراً وأبقى فهو أحق، وعلى هذا جاء قوله تعالى: ﴿إن تكونوا تألمون، فإنهم يألمون كما تألمون؛ وترجون من الله ما لا يرجون﴾ (سورة النساء: الآية 104). إن الألم عند المؤمن والكافر واحد، ولكن المؤمن يزيد بأنه يرجو من الله مالا يرجوه الكافر، ومادام الإيمان يعطي نتائج طيبة تهر آثارها في الحياة واضحة، فإن الإيمان هو عين العلم. وكذلك قوله تعالى:
﴿فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون﴾ (سورة الذاريات: الآية 18)؛ ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون﴾ (سورة العنكبوت: الآية 43).
وبربط الحكم على الحدث بالعاقبة صار الإيمان باليوم الآخر من العلم الذي يُرى أثره في الحياة العملية اليومية، وهذا هو العلم التجريبي الذي يمكن إثباته في مجالات مختلفة، وإما يحتاج إلى تأمل. فقوله تعالى:
﴿بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد﴾ (سبأ: الآية 8)
نجد أدلة صدقه لا في عالم الغيب وإنما في عالم الشهادة بين جوانح الناس الذين يعيشون على هذه الأرض، بإظهار ما يعطيه الإيمان للناس من الطمأنينة والتخفيف من الشقاء والعذاب النفسي والضلال الذي يعاني منها من لا يؤمن بالله واليوم الآخر.د
وبربط الحكم على الحدث بالعاقبة، صار العلم بالآخرة في قوة العلم التجريبي، وصار مجاله أوسع؛ فبدل أن يكون مجال العلم التجريبي المخبر الذي تستخدم فيه الأنابيب، تحوَّل إلى مجال الكون الفسيح وأحداثه التاريخية التي سجلت عواقب الأمور.
وبربط برهان العلم بعاقبة الأمور، صار من الضروري أم يكون المجتمع الإنساني مستحضراً كل أحداث التاريخ ليستفيد من عواقبها، ويتأمل كيفية حدوثها، أي كيفية بدء خلقها:
﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟ ﴾ (سورة العنكبوت: الآية 20).
ومن لم يفعل فسيضطر أن يدفع ثمن جهله.
ولكن ما جدوى هذا البحث؟
إن جدواه أن الإيمان سيقدم إلى الناس بالصورة نفسها التي يقدم بها علم الجغرافيا أو الفلك أو الكيمياء أو الفيزياء.. وبذلك يصير الإيمان علماً. وهنا نعلم أنه لا إله إلا الله:
﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ (سورة محمد: الآية 19)، ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم﴾ (سورة آل عمران: الآية 18).
وما دام الموضوع يُبحث على أساس العواقب، فإن قبول الدين يرجع إلى النظر في عواقبه، فيقبله الناس كما قبلوا عواقب البحوث العلمية في شتى المجالات بدون أية عقدة عن شخص وزمان ومكان كشفها. هذه القدرات الفهمية ينبغي أن يحصلها العالم الإسلامي ليدخل إلى العالم من جديد وبيده الهدى الذي يخضع للبرهان. وكما أصبحت الكيمياء من أدق العلوم بعد أن كانت نوعاً من السحر …
كذلك يجب أن يصبح الإيمان ضرورة علمية لا غنى عنها للإنسان، وذلك حين يظهر الإيمان ومعه البرهان من أحداث التاريخ وعواقب الأمور الماضية والحاضرة، والتطلع إلى المستقبل:
﴿ولتعلمن نبأه بعد حين﴾ (سورة ص: الآية 88).
وهذا الموضوع يحتاج إلى نظر عميق ودراسات مجهدة واسعة يقصِّر المسلم عن أداء دوره فيها، مع أن هذه الدراسات ونتائجها هي ما تنتظره التكنولوجيا الحديثة لكي تتسخر لخدمة المثل الأعلى الذي تبرهن تلك الدراسات على صحته وتخرجه إلى حيّز العلم.
إن الحضارة مقدِّمة ممهدة لمجيء المثل إلا على - المبدأ الديني - وذلك ما يراه توينبي حين اعتبر أن الحضارة الرومانية بسلامتها وطرق مواصلاتها ورقي مؤسساتها كانت مقدمة سارت عليها الفكرة المسيحية التي حملها المبشرون على الطرق الرومانية الآمنة؛ حتى جعلوا روما نفسها مركز الكنيسة.
القدرة الأخلاقية الكامنة
كما أن هناك طاقة مادية تنشأ من احتراق الخشب والنفط وانشطار نواة الذرة، كذلك هناك مجال آخر في الخلق الآخر (إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر﴾ سورة المؤمنون: الآية 14) الذي هو الإنسان، وفيه طاقات أخلاقية.
إن (انيشتاين) أضاف البعد الرابع وهو الزمان إلى أبعاد المكان الثلاثة، ولكن الباحث في التاريخ مثل (توينبي) أضاف بعدين جديدين للوجود - في آخر دراسته للتاريخ - وهما: بعد الحياة وبعد الأخلاق.
يقول توينبي: ﴿كيف قدِّر لهذا الكتاب أن يكتب؟ لمَ يدرس الناس التاريخ؟ يجيب كاتب هذه الدراسة شخصياً بأن المؤرخ يستجيب - في دراسة التاريخ - إلى نداء الله له بتتبع خلقه بالسعي لمعرفته تعالى (بل يعتبر هذا القول استجابة لقوله تعالى: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟ ﴾ سورة العنكبوت: الآية 20) والمؤرخ هنا - شأنه شأن كل امرئ - سعيد بأن يكون له في الحياة غاية يسعى إليها.
وللمؤرخ زاوية رؤيا واحدة من بين زوايا الرؤيا التي لا تعد ولا تحصى، وإن أخصَّ ما تتميز به مساهمة المؤرخ في التراث الإنساني هو أنه يقدم لنا صورة لإبداع الخالق في حركته الدائبة داخل إطار هو - وفقاً لتجربتنا البشرية عنه - ذو ستة أبعاد..
فإن زاوية الرؤيا للمؤرخ، ترينا الكون المادي يتحرك منحرفاً عن المركز في إطار ذي أربعة أبعاد من المكان / الزمان. كما ترينا الحياة على كوكبنا تتحرك حركة دائرية في إطار ذي خمسة أبعاد من الحياة / الزمان / المكان.. وترينا نفوس البشر وقد ارتفعت إلى البعد السادس بنفحة من الروح القدس وإنها لتتحرك - وهي تمارس ما قدِّ لها من التحرر الروحي (من تتبعنا لما يقصده توينبي من هذه العبارة يبدو لنا أنه يقصد تحرر الإنسان من انفاعلاته، وسيطرته على دوافع الغي والقسوة والعداوة ووصوله إلى العفو والإيثار والحب … أي الخروج من الحيوانية إلى الإنسانية.)- إما صوب خالقها أو بمنأى عته. فإن كنا على حق إذ نرى في التاريخ صورة لإبداع الخالق في حركته الدائبة، فإنا لن نعجب إذا وجدنا أن القوة الفعلية لتأثير التاريخ في العقول البشرية التي تتماثل فرضاً درجة قابليتها الداخلية لتأثير التاريخ وفقاً للظروف التاريخية لمن يتلقاها، إذ لا مناص من أن تقوم نزعة حب الاستطلاع بتعزيز القابلية لاستيعاب التاريخ، ولكن حب الاستطلاع لن يثور إلا إذا بدت للعيان عملية التغير الاجتماعي واضحة وضوحاً ساطعً قوياً …)) (آرنولد توينبي - موجز دراسة التاريخ - ج4 - الفصل 44 - ص 233 - الطبعة الثانية - القاهرة 1965).
يريد (توينبي) من هذا الكلام أن إرادة الناس تظل كامنة معطلة حتى يروا طريق الصواب لتحقيق هذه الإرادة … حينئذ تنطلق الإرادة من مكنها، ويتحرك جهاز الكون بتحرك البعد السادس الذي يسميه القرآن (الخلق الآخر):
﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً؛ ثم أنشأناه خلقاً آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ (سورة المؤمنون: الآيات 12،13،14).
وكما نستخدم القدرة الفهمية في تسخير الجانب المادي، ينبغي أن نستخدمها أيضاً لإقامة الحياة الأخلاقية. وطريق إقامة هذه الحياة هي التي ينبغي أن تصل إلى درجة الوضوح الساطع.
هذا ما يراه المؤرخ في تتبعه لحركة عالم الأنفس، وهذا ما يأمرنا الله أن نصل إليه بالنظر إلى سنن الذين خلوا من قبل.
والآن هل يمكنك أن تتصور نشوء قدرة جديدة من مستوى قدرة القراءة والكتابة يمكن أن تضاف إلى الإنسانية في جانب من الجوانب لترفع من قدرات الإنسان؟ .. يمكنك هذا إذا تصورت البشرية وليس فيهم أحد يقرأ ويكتب مع كون هذه القدرة كامنة في وجودهم، وكيف كان يمكن لإنسان في ذلك الوقت أن يتصور الحالة التي يصل إليها الإنسان حين تضاف إليه هذه القدرة. وبإضافة قدرة الكتابة للإنسان أضيفت إليه ذاكرة جديدة، لم يكن للإنسانية أن تتقدم بدونها، لأن خبراته كانت تموت معه، فاكتسبت الأفكار والخبرات والتجارب الخلود في الدنيا بوساطة القراءة والكتابة، ولا يمكن للإنسان أن يتقدم إلا بوساطة الخبرات والتجارب.
علمنا أن الإنسان لا ينتمي في قدراته إلى جيله، بل يقعد فوق الأجيال السابقة كلها، والذي جعل هذا ممكناً هو كشف قدرة القراءة. هذه القدرات الكامنة التي أشار إليها محمد إقبال في الحوار الذي تخله بين الله والإنسان حين قال الله تعالى للإنسان (أثبت قدرة الله فيك) (فلسفة إقبال تأليف الأعظمي ص 94) وهنا نشير إلى القدرة التي يظنها الناس مستحيلة الحدوث، وهي خروج الإنسان باستخدام القدرات الكامنة فيه من توقعات الملائكة فيه إلى ما علمه الله فيه من قدرات كامنة حين قال تعالى رداً على الملائكة:
﴿إني أعلم مالا تعلمون﴾ (سورة البقرة: الآية 30).
وكما تنمو القدرات لاستخدام الطاقة المادية، ينبغي أن تنمو القدرات لاستخدام القدرة النفسية، ولن تصبح القدرات المادية نعمة للإنسان إلا إذا تقدم في القدرات النفسية، لهذا يقول الله تعالى:
﴿وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً﴾ (سورة سبأ: الآية 37).
فالعالم اليوم لا يعرف كيف يستخدم الأرقام إلا في حساب الطاقة والدخل. ولمّا يكمل بعد معرفته لقياس التقدم النفسي. إن موازين التقدم ينبغي ألا تبقى متعلقة بالدخل المادي، وإذا لم يكشف الإنسان مقاييس لفهم التقدم النفسي يظل عاجزاً عن تسخير هذا الجانب المهم من الكيان الإنساني - وهو لم يكتسب بعد دقة جانب الآفاق - وكل ما يطرأ على الإنسان من تقدم إنما ينطلق من تغيير ما بالنفس. وكلما تقدم فهم الإنسان في هذا الجانب برزت أهمية الطفولة وما يملك من استعدادات هائلة إذا توفرت له الأجواء المناسبة.
ولابد من التمييز بين ما يرجع إلى القدرة وما يرجع إلى الإرادة، وبيان سبب الاشتباه بينهما لأن كلاً منهما يستدعي وجود الآخر. فالقدرات هي التي تكشف أهمية الارادات، والإيرادات هي التي تبعث على طلب القدرات. فقدرتك على التمييز بين الخطأ والصواب تجعلك تريد الصواب.. وإرادتك الصواب تحملك على السعي لاكتساب قدرات من أجل تحقيقه. وبتعبير آخر: إن قدرتك على التمييز بين الظلم والعدل تجعلك تريد العدل، وإن إرادتك للعدل تحملك على السعي لاكتساب القدرات التي تحقق العدل وتحميه.
هذا أمر هام لأنه كلما تقدمت القدرات ولاسيما الفهمية منها في مستوى المادة والنفس، أمكننا أن نفهم المثل الأعلى المناسب للإنسان؛ وبذلك تكون القدرات سبباً في التوصل إلى اختيار المثل الأعلى المناسب. وكذلك الارادات تبعث على السعي لتحصيل القدرات، فإذا لم توجد إرادات فعلامَ يبحث الإنسان عن القدرات؟ !
لهذا نجد القرآن يتهم الارادات إذا لم يَسْعَ صاحبها لتحصيل القدرات المتاحة، وكذلك يتهم القدرات حين لا تدرك ولا تميز المثل العليا الصحيحة، فيقول في اتهام الارادات:
﴿لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾ (سورة التوبة: الآية 46).
أي لو وجُدت الارادات لوجدت القدرات؛ ومنه المثل العربي القديم: (لو صحَّ منك الهوى أرشدت للحيل). أي لو صحَّ العزم لهديت إلى الوسائل المحققة لذلك. وقد جرت عادة الناس حين تفتقد القدرات لديهم أن يتهموا الإيمان بالنقص، وهذا الاتهام لا يخلو من صواب لأن من شأن الإرادة ا\ن تحمل الإنسان على طلب القدرات إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع. والانتباه لهذا ضروري لأن هناك صوراً خادعة … ولأن شأن القدرات أن تكتشف الحق والصواب والمثل الأعلى الصحيح الذي يولد الارادات.
فالقدرات تكشف الارادات الصالحة، والارادات تحمل على توفير القدرات. وبعبارة أخرى: الإخلاص يدفع إلى طلب الصواب، والصواب يولد الإخلاص وينميه. لهذا لمّا يعجز العالم الإسلامي اليوم عن تحصيل القدرات مع وجود الإيمان (الارادات) لديه، يسهل على الذي يريد التهام أن يتهم العالم الإسلامي بعدم الإيمان أو عدم الإرادة (ويظهر هذا الاتهام في صورة اعتبار هذه المجتمعات مجتمعات جاهلية). وكذلك لما يعجز العالم الغربي عن تحصيل الارادات مع وجود القدرات، يمكن أن يقال: لو كان هناك مثل أعلى صحيح أحسن مما هم عليه لاهتدوا إليه بقدراتهم الدقيقة المادية والفهمية. هذه الأمور من المتشابهات التي يخيل للناظرين من أول مرة أنها صحيحة لأنها جاءت في صور القواعد الصحيحة دون مراعاة توفير الشروط وارتفاع الموانع للقدرات والرادات، لأنه يمكن أن تحدث موانع تحول دون رؤية القدرات أو رؤية الارادات.
يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: (إن أوروبا التي اعتقدت أن العناية قد اختارها لتستودعها مصائر الإنسانية، قد أخذت من عصر بوكاشيو - حين كانت حضارتها ترضع في مهدها لبان حضارة العرب - أخذت تتنكر للحضارة الإسلامية تنكراً سهلاً.. وهاك ما قاله أحد الأوروبيين في هذا الصدد وهو الدكتور غوستاف لوبون، فإنه حن أراد أن يختم دراسته عن الحضارة العربية اختتمها بهذا التأمل الحزين:
(لعل القارئ يتساءل: لماذا ينكر العلماء في هذه الظروف تأثير العرب؟ وقد كان أولى بهم أن يتنزهوا عن اعتبارات التفرقة الدينية؟ .
والحق أن استقلال آرائنا وتجردها ظاهري أكثر من أن يكون واقعياً. وأننا لا نكون البتة أحراراً في تفكيرنا كما ينبغي حيال بعض الموضوعات، فلقد تجمعت العقد الموروثة، عقد التعصب التي ندين بها ضد الإسلام ورجاله، وتراكمت خلال قرون سحيقة حتى أصبحت ضمن تركيبنا العضوي …).
هذا النص يوضح بصورة غير مباشرة، ولكنها صريحة موقف الحضارة الأوروبية في وجه العالم الإسلامي منذ بداية التاريخ الاستعماري. وهو موقف يتفق وموقف هذا العالم الإسلامي من أشياء أوربا وأفكارها حين ينظر إليها باحتقار شديد مؤكداً أنه المستقر الوحيد لفضل الله ومواهبه). مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص 43، الطبعة الأولى، 1959م.
هل آن لنا أن ندخل إلى المشكلة؟ أم لا نزال ندور حول الموضوع؟
ما المشكلة؟ المشكلة هي العمل الإسلامي، وكيف ينجح؟
وما دام لابد لنجاح العمل من قدرة وإرادة، فهل يملك العالم الإسلامي قدرة وإرادة؟ وإذا وجدتا فهل توفرت الشروط وانتفت الموانع؟ وما الشروط؟ وما الموانع؟
أقذف بوجهة نظري عن الموضوع بأسطر مع أن الكتاب كان لإثبات هذه الفكرة: إن العالم الإسلامي عنده من الرادة متا يكفي على الأقل للإقلاع، هذا من جانب الإرادة. أما من جانب القدرة: فعنده من القدرات والإمكانات (المادية) القدر الهائل غير أن عنده إعوازاً حقيقياً في القدرات (الفهمية). فإذا استطعت أن أفهمه هذه الفكرة فقط، فهذا هو كل ما أريد من هذا الكتاب. وإذا فهم الشباب الحائر اليائس هذا فسيتوجه بكل جد لتحيل القدرات الفهمية التي تنقصه، وهذا ما سيضعه على الطريق ليخرج من حيرته وقلقه. هذه هي المشكلة في إيجازها ووضوحها. كيف نعالجها؟ بل كيف نكشف أن هذه الفكرة مفهومة أم لا؟ أو أنها معطلة بعوامل أخرى؟ وها ما أردنا بحثه.
أسلوب آخر لتعريف الصواب
الصواب هو كشف العلاقة السليمة، سواء كانت هذه العلاقة بين الخالق والإنسان، أو بين بني آدم بعضهم مع بعض، أو بين بني آدم والآفاق (الكون بما فيه من مادة ونبات وحياة)، وهذه العلاقات الثلاث هي:
1- علاقة الإنسان مع الخالق (العبودية):
﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني﴾ (سورة الذاريات: الآية 56). ﴿فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص﴾ (سورة الزمر: الآيتان 2،3).
2- العلاقة بين بني آدم فينا بينهم (العدل والإحسان):
﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ (سورة النحل: الآية 90). ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ (سورة المائدة: الآية 8).
3- علاقة الإنسان مع الكون (التسخير):
﴿وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ (سورة الجاثية: الآية 13).
ولطريق التي توصل إلى كشف العلاقات السليمة هي العقل أي القدرة التفكيرية عند الإنسان:
﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً﴾ (سورة الإسراء: الآية 36).
والمسلم العادي حسبه دليلاً على هذه العلاقات، آيات الله التي سقتها من كتاب الله تعالى. ومن أراد دليلاً غير ذلك فعليه أن ينظر في آيات الله في الآفاق والأنفس، ليرى مصداق ذلك؛ لأن آيات الآفاق والأنفس تشهد لآيات الكتاب.
والمسلم مأمور بأن يرى آيات الله في الآفاق والأنفس، وأن يسير في الأرض ليرى عواقب العلاقات السليمة أو الخاطئة، عواقب (المصدقين) و(المكذبين) لآيات الله:
﴿قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾ (سورة آل عمران: الآية 137).
وإذا تطلعت نفس المسلم إلى أن يرى سلامة هذه العلاقات التي يقررها الله في كتابه … وإذا اشتاقت نفسه إلى أن يرى مصداقها في آيات الله في الآفاق والأنفس، فإن هذا الاشتياق هو ما أزكّيه وأدعو إليه وأكتب من أجله.. ولكن ينبغي على الشباب المسلم المشتاق الناشئ - أصحاب الأسماع والأبصار والأفئدة، أصحاب لكفاءات السليمة - أن يجتهدوا ليجعلوا أنفسهم من الذين يُظهرون آيات الله في الآفاق والأنفس للناس. وهذا العمل هو العمل الشريف، وعمل الربانيين وظيفة الرسل التي تزكوها لنا. وينبغي أن تدرك أيها المسلم القلق على أحوال المسلمين أنه لا يجوز ترك دراسة آيات الله في الآفاق والأنفس للذين يستغلونها لعلاقاتهم الفاسدة ولمآربهم العاجلة …
ينبغي أن يستنفر المسلم لرؤية هذه الآيات التي يعرضها الله من خلال خلقه المتتابع في هذا الكون الذي نعيش فيه. كما ينبغي أن أكون صريحاً معك.. إني لا أقدّم لك آيات الآفاق والأنفس، وإنما أدعوك إلى دراستها وأن تستشعر مسئوليتك في تحصيلها. أدعوك إلى أن تعلم أن سنن الآفاق والأنفس تنتظر الذين يبحثون عنها، ولا تظنن أنها استنفدت، وأن تعلم أن عِلْم موسى وعلم الخضر - عليهما السلام - معاً ما هو إلا كنقرة عصفور في بحر: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾ (سورة الإسراء: الآية 85) … وليس معنى ذلك أن الله لا يعطي ﴿وقل رب زدني علماً﴾ (سورة طه: الآية 114)، وليس مثل العلم منجماً مكلما أخذ منه دل على سعته.. فالمجال أمامك واسع:
﴿قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً﴾ (سورة الكهف: الآية 1096).