الفصل الثالث: قراءتان للقرآن
من Jawdat Said
هنا أطرح موضوعاً متصلاً بمشكلة الرشد، وكنت قد عرضته مرات عدة، وبعناوين مختلفة، لقد عرضته في كتاب (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، ولكنني الآن أطرحه بشكل مختلف وبعنوان جديد هو: إمكان قراءة القرآن قراءتين مختلفتين.
نقرؤه مرّة على أن التاريخ ووقائع الأيام من صنع الله تعالى، ومرّة على أن التاريخ والأحداث والتغيرات التي تحدث خلال التاريخ وبين الناس من صنع الناس أنفسهم. وعلينا أن نهتم بالتمييز بين هاتين القراءتين، لأنه يترتب عليهما مواقف العرض الذي قدمه محمد أركون في تاريخية الفكر العربي الإسلامي، حين قال: « إن التاريخ بحسب القرآن من صنع الله وليس من صنع البشر، بما فيهم الأنبياء والمصلحون » ثم يذكر آيات على ذلك.
فإذا وصل الالتباس في هذا الموضوع إلى هذه الدرجة، فإنني أشعر بضرورة بحثه وتوضيحه. ولتوضيح هذا الأمر أذكر هنا المثل الذي يقدمه القرآن حين يتحدث عن كل من الزراعة والتناسل البشري، فيقول:
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟) الواقعة: 56/63-64.
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ؟) الواقعة: 56/58-59.
في الواقع إن الله هو الذي خلق النباتات والأشجار، وهو الذي خلق التربة والماء، ولكن نحن من صنع البستان، نحن من وضع البذور في الأرض وقلب التربة، إلا أننا لم نصنع، ولم نضع، ولم نخلق سنن الإلقاح وتكوّن الأجنة في الأرحام، ولكن بدون تزاوج الناس سوف لن يخلق الله الإنسان.
هكذا نستطيع أن نرى الجزء الذي يرجع إلى الله تعالى في حدوث الأحداث التاريخية، والجزء الذي يرجع إلى الإنسان في حدوثها، فنقول:
إن الله هو الذي انبت الزروع، وخلق الأجنة في بطون أمهاتها.
ونقول أيضاً:
عن الناس هم الذين يفلحون الأرض ويضعون البذور، وهم الذين يتزوجون ويضعون النطاف في الأرحام.
فالفعل يرجع إلى الله من جانب، وإلى الإنسان من جانب آخر، الخلق يرجع إلى الله، ووضع البذور في الحقل، والنطاف في الأرحام؛ يرجع إلى الإنسان. وينبغي أن نميز بين هذين العملين، بين السنن التي تعود إلى الله، وبين ما يعود للإنسان من ممارسة هذه السنن، والله تعالى هو الذي خلق السنن والنتائج، والبشر هم الذين مارسوا السنن وسخروها لتحقيق النتائج، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقرأ القرآن قراءتين اثنتين، قراءة تشير إلى أن التاريخ والتغيير الذي يحدث في حياة الناس؛ يخلقه الله تعالى، وقراءة تشير إلى أن أحداث التاريخ تنتج عن ممارسة سنن الله في التاريخ، هكذا يُنسب الحدث إلى الله من جانب، وذلك بخلقه للسنن وجعلها قابلة للتسخير من قبل البشر، وينسب إلى الناس الذين يتصرفون بهذه السنن ويمارسونها من جانب آخر، وممارسة الناس للسنن هي التي تكون سبباً لحدوث هذه الأحداث، وبون هذه الممارسة لا يبرز الله تعالى الأحداث إلى الوجود.
ينبغي على المسلمين أن يتأملوا هاتين القراءتين، وأن يعلموها لأطفالهم، وأن يدربوهم عليهما، كما يعلموهم ويدربوه على الأحرف الهجائية، على تجويد القرآن، كي لا تلتبس عليهم هذه التفصيلات، وكي لا ينتج عن هذا الالتباس مذاهب وعقائد متضادة ومتضاربة ومتقاتلة، وكي لا ينتج عن التباسها افتراء على الله وتكذيب لآيات الله، أو تأليه للبشر، أو إضاعة لقيمة سعيهم وجهدهم.
إن إبراز هاتين القراءتين ضرورة كبرى، بل لعلنا، إن لم نوضح هاتين القراءتين والالتباس الحاصل بينهما؛ نضيع الفائدة من دراسة القرآن الكريم، ويتحول إلى عامل إلغاء وحذف لجهود البشر كما فهمه محمد أركون اعتماداً على الصور الذهنية الموجودة عند أكثر المسلمين، أو في الثقافة الإسلامية التي اختلط فيها أمور كثيرة، والتبست التباساً شديداً.
هاتان القراءتان: قراءة خلق الله للسنن، وقراءة ممارسة البشر لهذه السنن، تُذكران أحياناً بوضوح وجلاء، كما في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) الأنفال: 8/53، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد: 13/11.
عن النعم التي يتمتع بها البشر، من الصحة في الأبدان، والغنى في الأموال، والتعاون على البر والتقوى في الشدة والرخاء، هذه النعم لها قوانين وسنن، وينبغي على الناس أن يفهموها ويمارسوها، كي تبقى هذه النعم عليهم ولا تزول عنهم، وإذا زالت فإن الله لن يعيدها إلى الناس إلا إذا غيروا بجهدهم وسعيهم وتبصرهم ما بأنفسهم.
هنا في آيتي التغيير هاتين؛ نسب الله إلى ذاته تغييراً، ونسب إلى الناس تغييراً، ولكنه جعل التغير الذي نسبه لأي ذاته متعلقاً بالتغيير الذي نسبه إلى الناس، فعلى الناس أن يغيروا ما بأنفسهم أولاً، كي يغير الله ما بهم ثانياً، وهذا واضح وجلي غاية الوضوح والجلاء في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، ولكن ومع وضوحه وجلائه لا زال يشوبه الغموض في نفوس الناس، ولا زالوا ينتظرون من الله أن يغير ما بهم وما بأنفسهم.
ينبغي أن نتمسك بهذه الآية، ونعض عليها بالنواجذ، ونجعلها آية مفتاحية لفهم القراءتين بوضوح وجلاء، وينبغي أن نقوم باختبارات وتدريبات على هاتين القراءتين، لأن عدم الانتباه إليهما يخلّف إشكالات كثيرة وكبيرة.