الفصل الثالث، كتاب العمل
من Jawdat Said
بعد أن تكوّن لدينا فهم أولي أن العمل لا يوجد إلا بوجود القدرة والإرادة معاً، علينا أن نقف عند كل منهما لنعرفهما أقرب ما يكون من الواقع والصواب.
الفصل الثالث، الإرادة
1- مفهوم الإرادة:
الإرادة: أن تريد الشيء وترغب فيه.
والسؤال هنا: كيف نستطيع تصور الإرادة عند الإنسان؟ هل هي عضو في الإنسان؟ أم وظيفة؟ وكيف يمكن تصور فقدها؟ الإرادة وظيفة مثل الرؤية والشم والإحساس بالصوت … وإذا كان الأنف عضو وظيفة الشم، وعضو الرؤية العين، وعضو الإرادة عند الإنسان؟ لكي نفهم هذا علينا أن نفهم المثل الذي نقيس عليه، وهو الشم. يشم الإنسان الرائحة إذا وصلت جزئياتها إلى أنفه، فيقبل الزكية منها وينفر من الكريهة بالفطرة؛ ما لم تكن حاسة الشم قد فسدت لديه لمرض أو غيره. ومثل الشم التذوق والسمع والبصر، وإن كان الأمر في السمع والبصر أرقى وأدق. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإرادة: إذ يعرض الشيء الحسن أو القبيح على العقل فيقبله أو يرفضه. إن الإرادة وظيفة العقل الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوانات فكما تقبل حاسة الشم الروائح الطيبة وتريدها، كذلك يتقل العقل الأفكار الطيبة والأعمال الصالحة ويريدها، وكما يقبل تلك بالفطرة يقبل هذه بالفطرة أيضاً. وكما يمكن أن تفسد تلك فيصير الإنسان يتلذذ برائحة الفسيخ (السمك المتعفن)، يمكن أن تفسد إرادته فيتلذذ بالأفكار الضالة والأعمال الفاسدة. إلا أن الذي يكون على الفطرة إذا عرض الصواب عليه - دون أن يفسد ذوقه - فإنه يميل إلى الصواب؛ كما يميل الحديد إلى المغناطيس دون أن يحول بينهما مانع؛ وقد يكون التشبيه غير موفق إلا أنه مقرب إلى حد ما.
وإفساد الإرادة ممكن، لهذا يقول الرسول (ص):
(ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه …).
فالوليد يولد على الفطرة في سمعه وبصره وشمه وذوقه وإرادته للخير، ولكن يمكن أن يلقّن بعض الأمور الفاسدة حتى يراها حسنة:
﴿أفمن زين له سوء عمله، فرآه حسناً، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، إن الله عليم بما يصنعون﴾ (سورة فاطر: الآية 8).
إنه لأمر مهم أن يفهم الإنسان جيداً مسألة الفطرة، كيف يمكن إفسادها أو المحافظة عليها، لأن هذا مرتبط بقابلية الإنسان لأن يكون في احسن تقويم، أو أن يرتد إلى اسفل سافلين.
الموضوع مهم، والجهاز دقيق، والأمانة ثقيلة ينبغي الاستنفار للمحافظة على سلامتها، وإن وراء حواس الإنسان الجهاز الأعجب، إنه العقل أو الخلق الآخر الذي قال الله عنه:
﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر﴾ (سورة المؤمنون: الآية 14) …
وهو غير المخلوقات المعهودة، فليس له مثيل في الوجود. هذا اعقل الذي يفسر الحواس، ويميز الأسود من الأبيض، ويرى الحلل بيّنا، والحرام بيّنا، ويميز القبيح من الحسن؛ وكما أنه لا تستوي الظلمات والنور، ولا الظل والحرور … كذلك لا تستوي الحسنة والسيئة.
الإرادة باعث باطني عند الإنسان يتولد من رؤية الشيء الحسن كما يتولد الميل إلى الرائحة الزكية، والنفور من النتن؛
لهذا إذا عرضت الأفكار والأعمال على الإنسان الفطري - خالي الذهن من التجارب السابقة - فإن له القدرة على أن يختار أفضلها.
وهذا هو الرصيد الأساسي عند الإنسان، حتى إذا فسدت فِطَرُ الناس وتنازعوا في فهم الصواب يبقى لدى الأجيال الناشئة هذا الرصيد، ويجعل من الممكن أن يخرج من بينهم من يختار أفضل الأفكار التي يسمعها، وهذه القدرة دائمة تتجدد مع كل مولود، ولذلك فإن الباطل في عرض أفكارهم وآرائهم حتى لا تفسد فِطَرُ الناشئة. وعلى فرض أن الباطل قد سبقهم، فهذا السبق ليس نهائياً، حيث أن إمكانية العودة وإظهار الحق لا تزال باقية؛ وإلا لما أمكن نشر الأديان والآراء التي كان يعارضها أهل زمانها كلهم، وإن التاريخ والفطرة مع أهل الحق حين يعرف أهل الحق حقهم، وحين يعرفون مزاياه.
وأثناء كتابة هذا الموضوع كانت تثور في ذهني أمور شتى وشبهات، إلا أنني أيضاً اعتمد على ذكاء القارئ وقدرته على إدراك هذه الموضوع لا رجاء أن يكملها، أو يعرف أمثلتها الكثيرة جداً.. وهذا يجعلني أكتفي بالإشارات التي ربما تقضي الوقفات …
إذن: الإرادة هي اختيار العقل، وحين أقول العقل: أعني جهاز التمييز عند الإنسان (السمع والبصر والفؤاد). وقد يتدخل في سلامة الإرادة الشعور واللاشعور، ومؤثرات الطفولة والبيئة؛ ومع ذلك فإن العقل قادر - حين يستخدم استخداماً سليماً - أن يميز الخطأ من الصواب ويعرف أدلة الخطأ والصواب؛ وبذلك تستمر سلامة الإرادة في المحافظة على سلامة جهاز المعرفة في الإنسان.
كثراً ما تستعمل كلمة الإرادة ونصفها بالحديدية تارة والصلبة تارة أخرى، إلى آخر هذه الأوصاف؛ إلا أن هذه الأوصاف لم تعد تشبع رغبتي في الفهم. فأنا أريد أن اعرف كيف تُصنع الإرادة الحديدية أو الصلبة من الألف إلى الياء؟ وكيف يفقد الإنسان الإرادة؟ وكيف تضعف الإرادة، وتموت؟ فإذا عُرف منشأ الإرادة وكيف تضعف؟ وكيف تقوى؟ عندها تُخلق عندنا إرادة للمحافظة على الإرادة بأسلوب علمي عملي، لا بأسلوب الأماني والأحلام والقعود والانتظار رجاء حدوثها بنفسها. وكل شيء لا نعرف كيفية حدوثه ونرده إلى الله دون أن يكون لنا دخل في حدوثه أو تغييره - بمعنى لم يعطنا الله سلطان تسخيره - فإنني أعاف البحث فيه. أما إذا أدركت المكان الذي يكون فيه جهدي مؤثراً، فعندها أكون قد حصلت على ما يخلب لبي ويثير اهتمامي. لهذا إذا أردت أن تثير إرادة إنسان فعليك أن تريه الجانب الذي يستطيع أن يؤثر فيه ويكون له دخل في حدوثه، أما الجانب الذي لا دخل فيه، ولا يمكن أن يكون جهده مؤثراً فيه، فإنه لا يستطيع أن ينشط إليه، ولا أن يوجه إرادته نحوه.
وهنا لابد من ملحوظة.. وهي أن هناك أمور لا نعرف كيفية حدوثها، ولكن لا يؤثر في إرادة الإنسان. قد لا أعرف سر علاقة الأسباب بالنتائج، أعني علاقة: لم يحدث هذا من هذا؟ إذ الأمر يرجع إلى الله تعالى.
ولكن الذي يهمني هو: هل أستطيع أن أوثر في هذا، حتى أصنع هذا من هذا؟ فالأمر المفيد هو أن يتدخل جهدي في إحداث التركيب المطلوب والمماثل له. فليس المهم مثلاً أن أعرف لمَ ينتج الماء من اتحاد الأكسجين والهيدروجين ولا ينتج من غيرهما؟ ولكن المهم أن أستطيع إجراء ذلك الاتحاد لينتج الماء، فقدرتي تنحصر في كشف القانون وتطبيقه؛ أما النتيجة فمخلوقة وترجع إلى الله تعالى وحده لا سريك له، وأما غيري فقد ينسبها إلى الطبيعة أو.. وخلق الله السنن التي لا تتغير ولا تتبدل، ويجب توضيح هذه النقطة جيداً، حتى يزول الالتباس ولا يختلط علينا الأمر، نعرف أين مكان قدراتنا، وأين مكان خلق الله تعالى وقدرته؟ وقد شرحت ها الأمر بتفصيل أكثر في كتاب حتى يغيروا ما بأنفسهم. والمقصود هنا، أن نعرف الأسباب التي تؤثر في نشأة الإرادة، وليس المقصود أن نبحث لِمَ أوجد الله الإرادة من هذه الأسباب؟ فهذا يرجع إليه وحده، وعدم بحثه لا يؤثر في بحث مشكلتنا الآن.
تخلق الإرادة عند الإنسان عندما يعرض عليه المثل الأعلى الذي قامت الأدلة التاريخية على صدقه، وتقبله الفطرة السليمة كما يقبل الإنسان شم الروائح الزكية.
قال ابن تيمية في الفتاوى عند شرح قوله تعالى:
﴿ولا يسمع الصمُّ الدعاء إذا ما ينذرون﴾ (سورة الأنبياء: الآية 45): (وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس بالحركة، وإيجاب علم القلب حركة القلب، فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه، والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه، فحيث انتقى موجب ذلك دلّ على انتفاء مبدئه) ابن تيمية، الفتاوى ج28، ص 195، طبعة الرياض، 1382 هـ
فالناس يميلون بفطرتهم إلى الحق ويحبونه، مثل ميلهم إلى العدل والصدق والعلم والكرم إلى آخر ما سميه الله معروفاً. كما ينفرون من الباطل ويكرهونه مثل نفورهم من الظلم والكذب والجهل والبخل إلى آخر ما يسميه الله منكراً، وإن حب المعروف وتعظيمه، وحب أهله مطبوع في فطر الناس، وقد يعجز الإنسان عن فعل المعروف أو لا يستطيعه، إلا أنه يقرّ بفضل من يفعله. وقد تعرض للناس أهواء تجعلهم يميلون عن هذا، ومع ذلك يبقى الاعتراف به عند الناس أو على الأقل عند أكثرهم. وهنا علينا أن نستعمل عقولنا لنمكّن الناس من تنفيذ ما عرفوا حقيقته وفضله.. وينبغي أولاً أن نساهم في إبراز العدل والصدق كمثل أعلى عند الإنسان، وينبغي ثانياً أن نساهم في إبراز كيف يمكن إقامة العدل والصدق والعلم في حياة الناس.