الغفلة والعذاب الأليم
من Jawdat Said
إن غياب المميزين، وكثرة الهالكين، جعلنا حيارى يائسين، ولكن التاريخ يعلمنا ويؤدبنا بالمطالبة بالفواتير الباهظة جزاء غفلتنا، وما حرب الخليج عنا ببعيد!! صحيح أن السياسي والأخلاقي يقفان منها موقف الإدانة والأسى، ولكن عالم الاجتماع والتاريخ يكون له نظر آخر، ربما يبصر في الفساد والخراب فيرى في أعماقه ما يساعده على التخلص منه.
كيف يأخذ إنسانٌ السِّلعة مجاناً؟ إنه لا يقدر تلك السلعة، ولا يستطيع أن يأخذها بحق إلا من دفعه ثمنها، ولكن التاريخ ليس مثل التاجر، إنه يقدم العبرة مجاناً إذا أردت أن تستفيد منه، أما إذا رفضت أن تأخذها مجاناً بالاعتبار، فستُرغم على شرائها ودفع ثمنها الغالي.
خذها مجاناً، فإنه يكفي أن تدفع ثمنها مرّة واحدة، لا تشتر السلعة مرتين، والمؤمن لا يشتري السلعة مرتين: « لا يلدغ المؤمن من حجر واحد مرتين».
إن حرباً خليجية واحدة، تمكننا من رؤية جميع الحروب الخليجية، القديمة والحديثة، إنها تتراكم لنأخذ منها العبرة.
لقد جددت المآسي الحديثة المآسي القديمة، ولكن المأساة الحديثة كانت مؤلمة جداً، فالطعنة دخلت إلى الأعماق، ووصلت إلى الأعصاب، وهشمت الجمجمة، وطحنت الدماغ، وزلزلت الجلود، والناس في حرب الخليج تركوا أعمالهم، وانصرفوا عن الأشياء المسلية، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، قادة ومقودين، وجلسوا يسمعون الأخبار وينظرون إلى الأحداث، وليست آثار هذه الحرب هي ما تحدث به الجانبان.
لقد حطمت عالمنا القديم الساكن، وجعلت الناس قادرين على المراجعة أكثر من ذي قبل، وتهاوت مقدساتٌ كثيرة كنا نلفّ بها أقذارنا، وشعرنا بأننا جميعاً ملوثون، لم يِبق لعالم على جاهل، لقد استوى الجميع في الحيرة والاندهاش.
إن العاصفة الماطرة تأتي وتقتلع أشياء كثيرة، ولكن الماء يأخذ سبيله في مسالكه، وينبع بعد ذلك ماءً يبعث الحياة من الموات.
إنني لا أتفاءل كثيراً، ولا أنكر حجم تلك المأساة المروعة، ولكنني متأكد من أننا تقدمنا، وأن الأساس الذي نقف عليه للبناء صار أمتن، وأحداث التاريخ، وإن كانت تشتمل على المآسي، لكنها تشتمل على المبشرات أيضاً.