العدمية في الفلسفة الحديثة
من Jawdat Said
إن عدم فهم هذا الموضوع، موضوع المآلات والعواقب، هو الذي كان السبب في إعلانهم موت الله وموت الحقيقة وموت التعالي، لأن فلاسفة القرن العشرين كشفوا عن أن ما كانوا يعتقدون انه الحق والإلهي المتعالي؛ ليس حقاً ولا إلهياً ولا متعالياً، بل هو باطل وشيطاني وسافل.
استمع إلى فوكو الذي يلخص فلسفة نيتشة ويشرحها إذ يقول: « التاريخ بالنسبة إلى نيتشة … هو وقائع عداوات دنيئة، وتفسيرات مفروضة بالإكراه، ونيات منحرفة، وروايات مجيدة تستر وراءها أحقر الغايات … التاريخ مصنوع من حوادث وشتات وأحداث عرضية وأكاذيب، ولست له أية علاقة بتفتح الحقيقة … إن تاريخ الحقيقة هو تاريخ خطأ وتعسف … وإذا كانت الأشياء الوحيدة التي يمكن اعتبارها إلهية هي الخطأ والضلال والكذب!!.. ماذا سيحصل إذا اتضح أن الله نفسه (الحقيقة) هي كذبتنا الإقدام عهداً؟ … » ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ص 100.
حين كنت أقول للناس: إن التاريخ هو مصدر معرفة الحق، كانوا يواجهونني ويقولون: كيف تقول: إن التاريخ هو مصدر معرفة الحق، والتاريخ كله أكاذيب وتشويهات وتحريفات؟ فأقول لهم: أيها الأحبة! ليس التاريخ هو كا كتبه الاتحاد السوفييتي عن نفسه، ولكن التاريخ هو مآل الاتحاد السوفييتي ومصيره. عن هذا المآل والمصير لا يمكن تكذيبه، إنه ينسف الأكاذيب ويكشف الزيف، التاريخ ليس ما كتبه المحبون، ولا ما كتبه المبغضون. التاريخ لا يضيع هدفه، ولا يحيد عن مساره، ولا يخطئ غايته، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يوسف: 12/21.
إن تاريخ أمريكا ليس هو ما يكتبه الأمريكيون عن أنفسهم، ولا ما يكتبه الذين يكرهونهم أو يحبونهم؛ بل هو المصير الذي سيؤول حال أمريكا في التاريخ، والنظرة التي ينظر بها الذي سيأتون بعد خمسة مئة عام إلى النتيجة التي آل إليها وضع أمريكا والأمريكيين.
والحضارة الفرعونية مثل على ذلك، فماذا قال المؤرخون عن الفراعنة الذين سخروا الناس لبناء الأهرامات، لتكون مثوىً لشخص واحدٍ أو شخصين؟ وماذا قالوا عن بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم عليه السلام في تلك الأيام، ليكون مثابة للناس وأمناً؟
أين بنو أمية؟ أين العباسيون؟ أين العثمانيون؟
إن التاريخ ليس كما فهمه نيتشة بأنه الكذبة الأقدم عهداً، بل هو المكان والزمان الذي تجلت فيه عظمة الله بديع السماوات والأرض، الذي أحسن كل شيء خلقه.
إن الفلاسفة الذين لا يرون في الخلق حكمة، ولا يرون التاريخ إلا لعيناً يتبع لعيناً، وبؤساً متتابعاً؛ لا يستطيعون أن يروا أي حسنة في العالم، إنهم لا يرون إلا الفساد، ولا يبصرون إلا لحظة آنية، وتعمى أعينهم عن كل شيء إلا الفساد وسفك الدماء، ومن كان شانه ألا يرى تطوراً وزيادة وتحسناً في الخلق؛ لا يمكن إلا أن يكون متشائماً، ويستحيل أن يكون جاداً في سعيه للإصلاح.
إن اليأس مقرون بالكفر، لأنه محبط للعمل مانع من الحركة، فشوبنهور المتشائم لا يمكنه أن يرى في الخلق جمالاً وحسناً وتقدماً. والالتباس في هذه المواضيع يجعل الناس حيارى يائسين غير جادين في التغلب على الفساد. إنهم لا يرون في الإنسان إلا السنتين الأوليين من طفولته، اللتين يقذر فيهما نفسه، ويعجز عن أن يتخلص من أقذاره، إنهم لا يرون مستقبله وشبابه وسعيه، ولا يعلمون أن تاريخه المستقبلي أكبر امتداداً من حياته الطفولية، والإنسان لازال في عهد طفولته: (كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) عبس: 80/23، لابد من فهم هذا، وقد يسأل سائل: ما طائل هذا الكلام؟ لا حرج في هذا الكلام، ولكني أرى أن له طائل، ولعل بعضنا لا يفهم في أول الأمر أن لهذا الكلام ثماراً كبيرة، وقد مررت بهذه المراحل، واعلم صعوبات الطرق، وأعلم فوق ذلك أنه من الممكن أن أكون مخطئاً، فأرى السراب وأحسبه ماءً، ولكن مع ذلك أشعر أن العالم في تقدم، وإذا تأخرت أنا، فإن العالم لا يتوقف، وإذا كنت زبداً فسأذهب جفاءً وغير مأسوف علي، وإذا كان فيما أقوله نفع وفائدة فسيمكث حتى يأتي ما هو أكثر نفعاً، وأكثر وضوحاً، وأشد تألقاً، وأسهل فهماً، وأيسر تقبلاً، وأعتقد أنه لو كان لدي علم أكثر؛ لكان كلامي أكثر إيجازاً، وأمثلتي أكثر وضوحاً وأكبر تأثيراً وأسرع تغييراً.