الدين والقانون، قصة ابني آدم

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

الدين والقانون


Aldeenwalkanon.gif
تحميل الكتاب
المقدمة
أسس الدين والقانون من رؤية قرآنية
الإنسان في الدين والقرآن
وحدة النبوات
الرسل الذين لم يقصصهم الله علينا
العلماء ورثة الأنبياء
ختم النبوة
الخروج من الخوارق إلى السننية
ارتباط آيات الآفاق والأنفس بآيات الكتاب
كلمة السواء
لا إكراه في الدين
قانون النسخ
السلطة للجهاز العصبي
قصة آدم وزوجه
قصة ابني آدم
ما الدين وما القانون؟
السلام العالمي
شروط القتال في الإسلام
عصر الفتن


إنني أعيش مع الفكر الإنساني والحضارات ، ولكن أزعم أن لي القدرة على الفهم الخاص ، فلي الحق في أن أفهم غير ما فهمه الناس ، وأشعر أن الله والأنبياء والكتب والتاريخ تساعدني وتشد من قوتي في مواجهة العالم . أنا أفهم وأتلمس بقرون الاستشعار فهماً أعلى ، وأجد الله والأسماء والكتب يقولون لي : تقدم ولا تخف فهذا الذي يشجعني ، ويجعلني أجرؤ على الإعلان والتبني لما فهمت .

ما قصة ابن آدم هذا في القرآن ؟ يذكر قصة ابني آدم قائلاً موجهاً الكلام إلى محمد (ص) أن يتلو على البشر وعلى العالم جميعاً نبأ ابني آدم بالحق :

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّباً قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ : لأقْتُلَنَّكَ قَالَ : إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ ، لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ . قَالَ : يَاوَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ ) ] البقرة : 5/27-31 [ .

من أراد أن ينظر إلى هذه القصة حقيقة واقعية فليفعل ، ومن أراد أن ينظر إليها رمزاً فليفعل ، إلا أنني أجد في هذه القصة ، ارتفاع الإنسان إلى مستوى جهازه العصبي الجديد ، جهاز الفهم والتسخير والانتقال بالسلطة والقانون إلى الوعي الإنساني ، لا إلى الجهاز العضلي للأمم ، هذا هو التطور والنتيجة الأولى للتطور والانتقال ، والتمييز الاختياري بين الشر والخير ، وأن السلطة لجهاز الفهم لا لجهاز العنف والإكراه . تَطورَ الإنسان إلى شريعة الفهم وخرج من شريعة الغاب والناب إلى شريعة الحوار وتحمل مسؤولية التطور وعدم القبول بالعودة إلى القانون السابق ، عالم سابق تجاوزه الإنسان ، وأمانة تحملها وعهد أخذه ، ينبغي الوفاء به ، وأن لا يخون الأمانة .

إن قصة ابن آدم المقتول في القرآن تضيف إلى القصة التي في سفر التكوين موقفاً من ابن آدم القتيل ، إنه جرى بينهما حوار فالذي لم ينجح في عمله وفشل في حل مشكلته ، بدل أن يراجع نفسه المتطورة ، رجع وانتكس إلى الأسلوب القديم ؛ أسلوب القتل ؛ وقال لأخيه هابيل الذي تقبل الله قربانه ونجح عمله : لأقتلنك ، سفر التكوين لا يذكر جواب هابيل في الحوار ، والقرآن يذكر جواب هابيل بوضوح وإصرار ووعي من هابيل . أجاب هابيل على التهديد من قبل أخيه فقال :

( لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) ] المائدة : 5/28 [ . لم يقف هابيل هذا الموقف بتردد بل بإصرار ووعي وتحمل للعواقب وتحمل للمسؤولية وحسن استخدام للسلطة الجديدة التي اكتسبها الإنسان ، هذا الذي ينبغي أن نقف عنده لبدء عهد جديد . ولقد دشن هابيل بموقفه هذا ، الوعي التاريخي التطوري ، سواء صحت هذه القصة أم لم تصح كتاريخ ، إلا أن الكون يشهد بعد أربعة ملايين من السنين على ظهور الإنسان المنتصب القامة المرفوع الرأس ذي الجهاز العصبي المتطور ، بصحة قصة سقراط . فكما شهد العالم وحتى الكنيسة برّأت جاليليو بعد أربع مئة عام من أن فكرته ليست هرطقة ، فإني أشهد أن موقف هابيل ليس هرطقة ، بل هو الموقف المتطور للحياة الإنسانية الجديدة مهما كان كشف ذلك صعباً ، إن هذا الموقف ليس هرطقة ، وإذا كان صعباً علينا أن نثبت تاريخياً صحة هذا الحوار وهذا الموقف من ابْنَيْ آدم ، إلا أن التاريخ سجل لنا موقفاً شبيهاً وتاريخياً هو موقف سقراط وتحديه بقبول العنف الجسدي والموت ، ورفض أن يُقفَ حواره مع الجهاز العصبي أو يهرب من الحوار . إننا نقدم هنا تحية إعجاب وخشوع لابن آدم الأول ولسقراط لأنها وثقا بالتطور الذي حدث للأمم ولم يتراجعا ، ورفضا أن يقبلا العودة إلى شريعة القوة الجسدية ، فنها قدما مثلاً وموقفاً للمثقف ، ولكن القرآن يعرض الأنبياء جميعاً على أن موقفهم كان مثل موقف ابن آدم ؛ منهم من قتل ومنهم من مات موتاً طبيعياً ويذكر هذا الموقف في حوار بعض الأنبياء . جاء في القرآن عن النبي نوح ، وأمر الله محمداً (ص) أن يتلو على العالم جميعاً نبأ نوح كنبأ ابن آدم :

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) ] يونس : 10/71 [ .

إن نوحاً هنا يتحدى جهاز الفهم عند البشر ، ويصمم على الصبر في هذا الحوار والدعوة ، افعلوا أنتم ما شئتم ، إنني سأخاطب عقولكم بالمعرفة ، وليس أجسادكم بالأذى ، ويذكر القرآن حوار شعيب مع قومه وتصميم شعيب على الحوار والتمسك بآرائه :

( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ . قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا .. ) ] الأعراف : 7/88-89 [ .

وكذلك يذكر القرآن على لسان الأنبياء جميعاً تصميم الرسل على الصبر على أذية أقوامهم من غير أن يواجهوا الأذية مقلها ، وإنما يصبرون على الأذى ويستمرون في الدعوة والحوار وتحمل النتائج ، لن نعود إلى ملة العنف ، قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ، يقول القرآن :

( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ . قَالَتْ رُسُلُهُمْ .. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا .. ) ] إبراهيم : 14/9-13 [ .

هنا التصميم واضح على لسان الأنبياء جميعاً على الصبر على أذى الأقوام من غير أن يردوا على الأذى بأذى ، فهم على موقف ابن آدم الذي رفض الدخول إلى صراع الأجساد ؛ يثبتون في صراع الأفكار ، ولا يقبلون العودة إلى ملة صراع الأجساد والعضلات ويقولون :

( قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ) ] الأعراف : 7/89 [ .

وهي ملة شريعة الغاب ، شريعة العنف أو الخضوع لصاحب القوة .

هذا هو الموقف السلمي ، والامتناع عن الدفاع عن النفس ، والصبر على الأذى ، والإصرار على الاستمرار في ممارسة حرية الرأي وتحمل ما يترتب عليه . وهكذا يكون ترسيخ عمليات الرأي والمعتقد ، لتبقى الساحة نظيفة ومعقمة ، كغرف عمليات الجراحة . هذه النظافة الفكرية ، مارسها ابن آدم وسقراط والأسماء ، وهكذا يصنع مناخ حرية الرأي والعقيدة .

من المفارقات التي ينبغي أن تذكر هنا ، أن جميع جيوش العالم يربون ويصنعون على أساس الطاعة وتنفيذ الأوامر التي تصدر إليهم ، قديماً وحديثاً وإلى يومنا هذا . وغن كانت بدأت توجه بعض الاتهامات التي لا تزعج على هذه المؤسسة ، وكذلك بدأ بعض الأفراد يقدمون استقالاتهم أو يرفضون الأوامر ، كاستقالة وزير الدفاع الفرنسي في حرب الخليج ، وامتناع بعض الجنرالات الروس في حرب الشيشان ، وإن ظاهرة الخلل التي أصيب بها الجنود في حرب الخليج وفي حروب فيتنام من الشعور بتوبيخ الضمير ، يبحثون لها عن مبررات ، ولكن لابد من الانتباه إلى أن هذا الجهاز العصبي له قوانينه الخاصة فأي خطأ له ثمنه ، حيث لم يعد للحروب أي مبرر ، ربما كان قديماً يمكن تبريرها ، أما الآن فقد فقدت أي مبرر والأيام ستكشف أن الإنسان له تطلعات عميقة .

ولكن الأنبياء جميعاً تنبهوا إلى هذا ، وخرجوا من هذا الإجماع العالمي وتوجهوا إلى الإنسان وقالوا له : أنت أيها الإنسان لك سيد واحد سماوي ينبغي طاعته فإذا جاء أحد من البشر وطلب منك أن ترجع إلى شريعة العضلات عليك أن ترفضه بدون تردد . « لا يقدر أحد أن يخدم سيدين » متى ( 6 : 24 ) .

( اعبُدوا اللهَ واجْتَنِبُوا الطاغوتَ ) ] النحل : 16/36 [ .

العالم جميعاً يريدون من الجندي أن يكون مثل البندقية يطيع الأوامر ، ولا حق له في رفضها ، هكذا يرون ، ويمثل هذا المفهوم في أعلى مستواه « إذا ذهبتم إلى القتال يوجد احتمال انم لا تموتوا ولكن إن لم تذهبوا إلى القتال فستموتون حتماً » .

وهذا ما قاله فرعون القديم للذين رفضوا خدمته وخرجوا من ملته .

( فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ) ] طه : 20/71 [ ، فوقفوا موقف ابن آدم وواجهوا التهديد بالصلب ، مثلما واجه ابن آدم تهديد أخيه ، وقالوا لفرعون (لَ نْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ] طه : 20/72 [ .

الأنبياء اعترفوا بنعمة الله عليهم في أن الله جعلهم يعرفون الخير والشر :

« وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفاً الخير والشر » تكوين ( 3 : 23 ) .

إن الإنسان الذي عرف الخير من الشر لا يمكن أن يفعل الشر ويطيع داعي الشر ، إنه سيفعل الخير ويمتنع عن فعل الشر ، وهذه نقطة مهمة . التدريب الأول الانسحاب من فعل الشر والاستمرار في الخير . هكذا علم الأنبياء ، إن جندياً من هذا النوع لن يُقْبَل في جيوش العالم اليوم ، من الذي سيشتري سلاحاً له قدرة على رفض الأمر ؟ من الذي يشتري سيفاً عارفاً الخير والشر فيفعل الخير ويرفض أن يفعل الشر . هذا ما أراد الأنبياء أن يصنعوه من الإنسان . إنهم لا يريدون بندقية من لحم ودم ، ومن دون جهاز عصبي عارف للخير من الشر ويحمل بندقية من حديد ونار .

لعلي أُبسِّط الأشياء إلى درجة مبتذلة ، ولكن نريد أن نرفض ملة ومذهب ابن آدم القاتل ، ونحيي ونؤصل ونرسخ مذهب ابن آدم الذي قال إنني صرت عارفاً الخير والشر ، وخرجت من شريعة الغاب . إنك يمكن أن تقتلني ، ولكن لا يمكنك أن تجعل مني قاتلاً . يمكن أن تقتلني ، ولكن لن تكسب المعركة ، يمكن أن تقتلني وإنني سأموت إن لم تقتلني أيضاً ، ولكن لن أجعل موتي بطريقة تجعلك تؤمن بجدوى القتل ، إنني سأحرمك من الإيمان بفائدة القتل ، إنني لن أشارك في إعطاء جدوى من القتل ، وسيكون ذلك بامتناعي عن الدخول إلى معركة الأجساد ، فإذا دافعت عن نفسي ستؤمن بأن القتل ينفع ويخدم ويؤدي دوراً ، إنني سأنسخ وسألغي الفائدة من القتل ، وسأجعل القتل قبيحاً حتى في عينك أنت أيضاً . أنظر ماذا قال الرب الإله في التوراة لابن آدم القاتل :

« فقال الرب الإله لقايين أين هابيل أخوك ، فقال : لا أعلم ، أحارس أنا لأخي . فقال : ماذا فعلت ، صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض … فقال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يحتمل » تكوين ( 4 : 13 ) .

وفي القرآن يقول : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) .. ثم قال : (يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا لْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ ) ] المائدة : 5/31 [ . يمكن أن يفسر النجاح في القتال فخراً وبطولةً ، ويمكن أن يعتبر اغتيال المُسلحِ الذي يحاط بالحراسة مهارة ، ولكن قتل الذي لا يدافع عن نفسه ولا يقبل مثل هذه المواجهات ، لا يمكن أن يعتبر مثل هذا القتل إلا جريمة مقززة . إنه الأسلوب الاقتصادي ، مهما خدعنا أنفسنا ، ولا يمكن أن يُقْتَلَ بهذا الموقف عدد كبير ، كما يحدث في المعارك ، ولا يحتاج إلى خارق لفهم هذا .

إذن لماذا لا نجتهد في جعل القتل جريمة ؟ نحن الذين نستطيع ذلك . إن ابنا آدم ، والأنبياء ، وسقراط ، جعلوا القتل جريمة ، نزعوا أي إعجاب من القتل . والتوراة والقرآن يذكران أن ابن آدم القاتل أصيب بالخسارة وأكله الندم ، هذا هو المرض اللاشعوري الذي يصاب به الجنود الذين يدخلون في حروب هي جريمة مهما لبست من لبوس ، هذا الجهاز العصبي ليس لعبة بدون قوانين وأهداف . إن نتائج استخدامه استخداماً سيئاً تحدث أضراراً لا نهائية ، إذا كان الفساد ظهر في الآفاق مما كسبت أيدي الناس ، فإن الفساد سيظهر في الأنفس من إساءة التعامل معها ، إن العالم كله يعيش مرض عدم التكيف مع الجهاز العصبي .

لقد تطور هذا الموضوع عند المسيح ومحمد(ص) إلى درجة أن الأمر وصل إلى حب الأعداء والإحسان إلى الذين يسيؤون إليهم ، يقول المسيح :

« سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر .. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم واحسنوا إلى مبغضيكم … لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين ، إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك » متى ( 5: 38-48 ) .

ويقول القرآن عن أصحاب محمد ليس أمراً لأصحابه أن يحبوا أعداءهم بل يخبر عنهم أنهم يحبون أعداءهم فعلاً . يقول : (هَاأَنْتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ) ] آل عمران : 3/119[ .

لقد تطور الموضوع أكثر عند أصحاب محمد حين يصفهم أنهم يحبون أعداءهم فعلاً ، لا أنه يطلب منهم فعل ذلك فقط . إنني أحاول أن أقرب فهم دعوة الحب في كل المستويات ، وأحاول أن أظهر لهم ذلك ، وأن أجعل فهم حب الأعداء ممكناً وليس جنوناً ومستحيلاً وخيالياً كما عشنا خلال تاريخ البشر كله . أقول : علينا أن نتمكن من فصل الجسد عن الأفكار ، إن الجسد يُولَد وهو لا يحمل شراً وإنما نحن الذين نضع في الجسد الشر ونصنع الشر ، نحن الذين نضع في الجسد الشر .

( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ] الشمس : 91/7 -10 [ .

نحن الذين نزكي النفس أو ندسيها . أضرب لهم مثلاً فأقول : ألسنا إذا أصيب أحد بالمرض نحب المريض ونكره المرض ، وخاصة إذا كان المريض قريباً لنا ؟ ألسنا قادرين على التفريق بين المريض وبين المرض ، فنحب المريض ونكره المرض ، ونسعى بكل جهدنا أن نقضي على المرض وننقذ المريض ؟ فكيف لو رأيتم طبيباً يرى علاج المريض بقتله بدل تخليصه من المرض ، من الذي سيتعالج عند هذا الطبيب ؟ أليس المريض في أفكاره أيضاً إنساناً مريضاً ، يمكن تشبيهه بالمريض مرضاً جسدياً ؟ أليس في الإمكان أن نحب المريض فكرياً ونكره مرضه ؟ إن المريض أحوج ما يكون إلى الحب والإحسان والعطف ، إن المريض فكرياً مريض بالجهل والكراهية فهو في حاجة إلى الحب والمعرفة . متى سنتعلم أن المعرفة حب وان الحب معرفة ؟ إننا نستطيع أن نحول الكراهية إلى حب ، وهذا أعظم الاستثمار ، القرآن يقول بعبارة واضحة صريحة .

( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ] فصلت : 41/34 [ .

هذه ليست أمنيات وخيالات ، ولا طوباويات . هذه حقائق وعلم ويقين عند الأنبياء وعند الله ، وهذه الحقيقة سنكتشفها بل العلم بها صار ممكناً . بشروا العالم ، ملكوت الله قادم بلغة العلم ليس ببشارة النبوة فقط ، وأن الدماغ الإنساني والجهاز العصبي قابل أن يصنع ما يوضع فيه . هل يمكن أن أصرخ في البرية كما فعل يوحنا المعمدان :

« قد جاء يوحنا المعمدان يكرز في اليهودية قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات .. صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب اِصنعوا سُبُلَهُ مستقيمةً » متى ( 3 : 1-3 ) .

هل يمكن أن أصرخ وأقول إن الذي قام بالتفجير في ( أوكلاهوما سيتي ) ، والذي فجر الغاز في أنفاق ( طوكيو ) ، والذي اغتال السادات ، والذي قتل ( إسحق رابين ) ، وكل الذين اتخذوا قرارات الحروب في النصف الأخير من هذا القرن ، من حرب كوريا وفيتنام وحرب الخليج الأولى والثانية ، كل هؤلاء يصرخون بأنهم يجهلون التاريخ والتطور الذي حدث في العالم ؟ وأن كل الذين قُتلوا في هذه المعارك قرابين بشرية لا يدعمهم إلا أن آباءنا كانوا من أكلة لحوم البشر يوماً ما ؟ .

لما كان الناس يجهلون أسباب الأوبئة التي كانت تجتاح العالم لم يكونوا يعرفون كيف جاء الوباء ، ولا كيف ذهب ، وإنما يترك الموتى ويذهب . ولكن بعد أن عرف الناس وتمكنوا من رؤية الكائنات الحية الدقيقة التي تسبب الوباء ، يتمكنون الآن من إيقافها ومعافاة الناس منها . وإذا أصيب بلد بالوباء الآن ، يمكن أن نقول عنه إنّه بلد لا يعرف النظافة ، وبالمثل يمكن أن نقول : إن الحروب التي تندلع هنا وهناك أسبابها جهل بالكائنات الفكرية المقدسة التي تدفع الناس إلى القيام بالمذابح . إن أغذيتنا الفكرية لا تزال ملوثة وكأننا نزعم أننا نحرم الأسلحة الجرثومية ، ولكننا نحمي الجراثيم الفكرية . إنني لم أعد في حيرة ، إن العلم بالنافع والضار سيرغمنا على حل المشكلات ، وغن العلماء سيكشفون هذا وسيصيرون قادرين على الإقناع ، وحتى علماء الاقتصاد والصناعة بدؤوا يكشفون أهمية الصدق ليكون التعاون مثمراً ، إنني أشفق على الذين لا يتمكنون من فهم هذا ، وألوم نفسي لأنني لم أتمكن من توضيح الموضوع ، وسأظل أجتهد وأبحث لأتمكن من التوضيح ، ولن أملّ . لقد علمنا المسيح أن لا نمل .

« كم مرة يخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له . هل إلى سبع مرات . قال له يسوع لا أقول لك إلى سبع بل سبعين مرة سبع مرات » متى ( 18: 21 - 22 ) .