الدين والقانون، السلام العالمي
من Jawdat Said
إن الأنبياء هم الذين علموا الناس واجباتهم ، وعلى المثقفين أن يأخذوا بيد اليقظة الدينية في العالم ، وأن يقوموا بأعمال تليق بالتوبة ، لأن العالم وصل إلى مرحلة ميلاد ديمقراطية عالمية ، والاعتراف بالمساواة بين جميع البشر . ينبغي أن نستجيب لنداء العالم ، لنداء التاريخ للدخول إلى تاريخ الإنسانية الجديد . إن أربعة أخماس العالم يتململون والخمس الآخر في توجس ؛ لأنَّ ورقة الأمم المتحدة لا تستر عورة الإنسانية بل تفضحها ، إذا كانت عبة الأمم غير مأسوف عليها والأمم المتحدة الحالية نشأتا بعد حربين عالميتين ، فإن الاتحاد الإنساني ينبغي أن يولد ولادة طبيعية سليمة لا ولادة قيصرية ، وإذا كان في الميدان من يسر بنهاية التاريخ ، وصدام الحضارات ، فكأنهم سدنة إله الحرب ، علينا أن نعرف التاريخ وأنه ليس في نهايته ، بل علمنا التاريخ أن الحضارات التي لا تتمكن من التكيف مع التاريخ هي التي تنشر فكرة نهاية العالم ، وأن الصدام ليس هو الذي يخدم التاريخ ، وهذا ما يجعلنا نؤكد مرة أخرى ، أن الأنبياء لم يأت دورهم في تاريخ البشر السابق ، بل الآن صار العالم قادراً أن يفهمهم الأنبياء لم يأتوا للتنافس في الصدام العنفي ، الأنبياء جاؤوا للتنافس في فعل الخير ، لنتنافس كيف نصنع السلام العالمي ، ونصنع المجتمع العالمي الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون ، ونكون بذلك حققنا إرادة الله وأُمنية الأنبياء . وأقرب الناس إلى الله هم الذين يُقدِّمون خدمات للناس أكثر .
« من أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخْدُمَ » متى ( 20 : 27 - 28 ) .
حتى إن المثقفين ليشعروا بأنهم إذا تناولوا الحديث عن الطفل سيتلوثون بماء غسيله . ولما تراءى لصاحب كتاب ( تاريخ الجنون ) وانتهى في بحثه ( عمل الجنون الأعظم ) إلى نوع من الغيرية يخرج عن متناول العقل والدين . حيث تساءل : « ماذا إذا كانت هذه الغيرية بداية معارضة جذرية للثقافة الغربية ، فهو تصور تجربة أصيلة تقع خارج التاريخ ، ويهمسون أن هذه المحاولة الفلسفية مميزة لأكثر أشكال الفكر الحديث تقدماً ، لكنه محكوم عليها بالفشل ». (مسيرة فلسفية ص 17 باللغة العربية ، بيروت من دون تاريخ).
هذا المفهوم المحكوم عليه بالفشل ، هو الحجر الذي يرفضه البناؤون للحداثة الفكرية وهو الذي جاء في الإنجيل :
« قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب ، الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية . من قبل الرب كان هذا ، وهو عجيب في أعيننا ، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره » متى ( 21 : 42 - 43 ) .
إننا أدنّا في العالم حق ( الفيتو ) ولكن كما ننكر الخطأ ينبغي أن نعترف بالتوجه إلى الصواب وبمن يقترب من الصواب ، هل لي أن أقول : إن نسمة الديمقراطية في العالم كانت اقتراباً من دعوة الأنبياء ، ومن توحيد الله وما لم نعرف هذا أيضاً ، لا نكون مدركين تطور التاريخ . إن ما جاء به الأنبياء كإيمان بالمساواة بين الناس بدأ يدخل إلى حياة الناس علماً ووعياً . لقد كان بطيئاً ومكرباً وسريعاً على حسب فهمنا لنسبية الزمن إلاَّ أن ميلاد الديمقراطية مفهوماً وواقعاً مهما كان حجمه صغيراً كان ميلاداً لشيء جديد في العالم ، وتضافرت عوامل كثيرة حتى صار ميلادها ممكناً وواقعياً . لقد كان تجسيداً لدعوة الأنبياء للتوحيد وتوسيعاً لمعنى القانون ، ولكنها ولدت بين الدماء . هذا هو الفرق بين الأنبياء والديمقراطية بكل الإيجاز : الديمقراطية ولدت في مفهومات تجيز للناس صنع المجتمع بالدماء ، والأسماء تمنع ذلك وتصر على صنع التوحيد بالإقناع وليس بالإكراه والعنف ، وما لم نفهم هذا ، لا نفهم المشكلات الحالية المعقدة في حياة البشر الآن . الديمقراطية تصل إلى الإقرار في النهاية بعدم جواز صنع الحكم بالعنف ، ولكن الثقافة التي صنعت الديمقراطية أجازت العنف وقتل المستبدين بشعوبها والمتسلطين على الشعوب الأخرى والثورة عليهم .
بينما الأنبياء اعتبروا هذا العنف غير شرعي ، وأصروا على صنع الشرعية بالشرعية ، بينتا مفهوم الثقافة الحديثة قد نصَّ على جواز استخدام العنف لصنع الشرعية وهذا النقص والعيب لا يزال يلاحق ، ويلوث العالم ويجعل الناس جميعاً يتناقضون في مواقفهم . وبقاء حق ( الفيتو ) بعد زوال كل مبرراته نتيجة لذلك الخطأ .
إن دعوة عيسى عليه السلام لم يكن تغيير أحكام ، ولكن تغيير المجتمع ، ومن هنا ظن من ظن أن عيسى عليه السلام يترك ما لقيصر لقيصر ، ويفصل التوحيد عن السياسة ، ويفصل الدين عن الدولة ، فإن هذا الظن خاطئ وملوث ويجعل حل المشكلات عسيراً ، بينما إصلاح السياسة هو التوحيد الذي ينبثق من وعي الناس ، وخروج البشر من طاعة المستكبرين الفراعنة في تنفيذ قهرهم للناس . كم هو بسيط هذا الذي جاء به الأنبياء ، وكم هو اقتصادي في الأموال والأرواح ؟ ولابد من إعادة كشف هذه التقنية الاجتماعية السياسية التي جاء بها الأنبياء وإلى الآن نعجز عن فهمها ، ونقوم بفصل الدين عن السياسة . نعم ، فصل العدل عن السياسة ، ففي دين العالم الآن لا مانع أن يكون العدل مفصولاً عن السياسة العالمية ، فهكذا فصلنا السياسة عن العدل والمساواة ، بعبادة القوة والإكراه و ( الفيتو ) هذا في شريعة الذين يفصلون الدين عن السياسة .
أما الذين يخلطون الدين بالسياسة كما في العالم الإسلامي ، فإنهم أيضاً يقلدون العالم وينفصلون عن الأنبياء في قبولهم جواز صنع الحكم بالعنف . إن العنف الجزائري الآن مثلُهُ الأعلى هو الثورة الفرنسية ، وليس دعوة الأنبياء ، وأما العالم المتحضر الذي لا يتعاون مع الثورة الجزائرية فإنه يخون مبادئه في حق تقرير المصير للشعوب ويخون الديمقراطية حيث لا ينصرها . إن الأزمة العالمية كلها أنهم لا يزالون يعتمدون على العنف والقوة والجهاز العضلي ، بدل الثقة والاطمئنان إلى قوة الفكر . نعم ، ينبغي أن نفصل بين الفكر والعضلات فصلاً باتاً قاطعاً ، ينبغي أن نحدث قطيعة معرفية بين الفكر والإكراه وأدوات الإكراه .
(إِ كْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا .. ) ] البقرة : 2/256 [ .
لا إكراه في الاعتقاد ، في الفهم ( حرية الاعتقاد ) بهذا تبين الرشد من الغي ، والحق من الباطل ، والنافع من الضار ، فمن يكفر بالطاغوت الذي هو الإكراه ، ويكفر بالدين الذي يجيز الإكراه في الدين ، ويؤمن بالله الذي يحرم الإكراه في الدين ، فمن فعل هذا ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، إذا كان للفلاسفة حجر تحويل المعادن إلى ذهب ، فإن حجر الأنبياء الذي رفضه بناؤوا العالم ، هو الذي صار حجر الزاوية .
هذا الذي قال عنه المسيح :
« ومن سقط على هذا الحجر يَتَرَضَّض ، ومن سقط علي هو يستحقه » متى ( 21 : 44 ) .
ولهذا قال لأحد الذين معه لما جاؤوا ليقبضوا عليه :
« وإذا واحدٌ من الذين مع يسوع مدّ يده واستل سيفه وضرب بع عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه . فقال له يسوع :
« رد سيفك إلى مكانه ، لأن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف يَهْلَكُون » متى ( 26 : 52 ) .
وحين ننظر إلى امتدادات هذه الفكرة ، نجد أن أتباع المسيح ظلوا مكافحين وهم ملتزمون هذه الطريقة ، يحرمون على أنفسهم القتل أو محاولة تغيير أفكار الناس بالقوة ، وظلوا يبشرون ، ليس في فلسطين فقط ، وإنما في قلب روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية حيث كانت فلسطين تابعة لها ، واستمرت الفكرة النبوية على نبذ العنف وقبول الاضطهاد إلى أن تحول الناس وتحول المجتمع ، ثم تحول الإمبراطور نفسه إلى المسيحية . ليس بثورة دموية كالثورة الفرنسية والشيوعية ، وغيرها من ثورات العالم ، وغنما من دون أن يقتل المسيحيون أحداً ، فقد تحولت روما إلى المسيحية بعد أربع مئة عام من الكفاح السلمي العلمي الأخلاقي الصعب ، والضحايا من طرف واحد فقط . يا لها من عملية إبداعية ستمكن الناس من فهمها في المستقبل ، ولكن العالم لم يكن متمكناً من وعي وفهم هذا الحدث ، كقانون وتقنية سياسية .
إن هذا الذي حدث للمسيحية خلال أربع مئة عام من الكفاح ، حدث للمسلمين خلال أقل من أربعة عشر عاماً من الدعوة على نفس طريقة أتباع المسيح ، وذلك بالخروج من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله ، ليس بقتل الطاغوت ، ولكن بالخروج من طاعته في الشر ودعوته إلى الخير . وكذلك لما انتقل المسلمون إلى المدينة لم يدخلوها إثر معركة وثورة دموية ، وإنما بتحول إقناعي اجتماعي طوعي حيث تكون مجتمع جديد من دون عنف ومن دون قتل رجلٍ واحدٍ من المجتمع الذي زال زوالاً طبيعياً . وقتل شخصان فقط ن المسلمين في مكة تحت التعذيب ، وكانوا ممنوعين من أن يدافعوا أن أنفسهم .
إن الذين يؤمنون بجواز صنع المجتمع بالعنف لا يشعرون أنهم يجعلون العنف إلههم ويرسخون شريعة الغاب ، شريعة القوة ، ويرفضون القانون ، ويثقون بالقوة ولا يثقون بالفكر ، إنك حين تجيز لنفسك صنع المجتمع بالعنف ، تلقائياً تكون أجزت للآخر أن يفعل ذلك ، وتكون بذلك دخلت الحلقة المعيبة حلقة تأليه القوة والطاغوت ، وبهذا الفهم يمكن أن ندخل إلى عالم آخر ، وهو انه إذا امتنعت عن تغيير المجتمع بالعنف وحرمته على نفسك تحريماً قاطعاً ، تكون دخلت إلى عالم آخر ؛ عالم شريعة الإنسان الذي يعرف الخير من الشر ، وإذا حرمت على نفسك العنف ، هناك يتولد عند الآخر الشعور بأنَّ لك الحق بأن تطالب بتحريم العنف ، وإلا لا تكون صادقاً ولا أميناً لا مع نفسك ولا مع الآخر . والقرآن يقرر هذا .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ] الصف : 61/2-3 [ .
فمن هنا حرم الأنبياء جميعاً استخدام العنف في صنع مجتمع القانون ، لأنه مستحيل أن تصنع مجتمع القانون وأنت تؤمن بالعنف ، لأنهما متناقضان ، وأصعب شيء يواجهني به الناس في دعوتي إلى اللاعنف وإلى إحياء فكرة ابن آدم وسقراط والمسيح ومحمد (ص) حين أقول : إن الأنبياء حرموا الدفاع عن النفس حين يقع عليهم العدوان من المجتمع أو ممثليه .
فهذه الفكرة النبوية الأساسية هي الفكرة المرفوضة ، من قبل العالم كله رفضاً قاطعاً ولا قدرة له على تأملها والبحث فيها ، وما لم يفهم الإنسان هذا الموضوع لا يمكن أن يدخل في عالم الأنبياء ولا عالم الديمقراطية ، لأن الأنبياء يريدون أن يصنعوا مجتمعاً لا يحمي الأفراد فيه أنفسهم إلا باحترامهم والتزامهم القانون . والقانون يمثل الشخص الثالث بين المتنازعين فإذا لم يوجد ثالث - خارج القطبين : قطب المستكبر الذي يخاف أن يفقد استكباره ، والمستضعف الذي يتمنى أن يصير مستكبراً - فإذا لم يوجد هذا الثالث فسيظل القطبان يتبادلان المواقع حتى يبرز الثالث الذي يلغي الاستكبار والاستضعاف . لهذا خرج الأنبياء من النزاع وأعلنوا الخروج من النزاع من طرف واحد ، ليهددوا السبيل لوجود المجتمع المدني وإلغاء المجتمع العسكري ، لإيجاد مجتمع الجهاز العصبي المتطور ، وإلغاء مجتمع الجهاز العضلي ، وهذا ما فعله ابن آدم الأول والأسماء ويفعله دعاة السلام الآن ، إلى يومنا هذا لا يوجد فيه ثالث الذي يحكم بين المتنازعين ، وإنما يوجد في العالم اثنان متنازعان ولم يولد الثالث . الأنبياء بشروا بهذا والتزموا عملياً بمنع جواز الدفاع عن النفس ، ليصنعوا المجتمع السواء الذي لا يوجد فيه مستكبر ولا مستضعف ؛ لأن المستضعف هو الوجه الآخر لمجتمع الاستكبار حيث المستكبر والمستضعف فقط . الأنبياء جاؤوا بعالم جديد لم ير الوجودَ بعدُ بشكل مُمارسٍ من قبل البشر إلا في الجزر الديمقراطية ، وبشكل معاق غير راسخ وضعيف . إلا أنه مع ذلك ولد حياً قابلاً للنمو مهما كان يشكو من ضعف ورخاوة ، ولقد نما بشكل ملحوظ بظهور التحاد الأوروبي حيث لأول مرة في التاريخ يتحد عدد من الدول والقوميات المختلفة على أساس المساواة ( كلمة السواء ) أمام القانون ، ووعي الشعوب لا على أساس إمبراطور مستبد . لهذا لم تتحد أوربا على يد نابليون أو هتلر وإنما تتحد على أساس ( كلمة السواء ) أمام القانون ، ولا يوجد حق ( الفيتو ) في الاتحاد الأوربي . ويمكن أن يتحول إلى نموذج للاتحاد العالمي من حيث المبدأ ، أما الأمم المتحدة فلا يمكن أن تفعل ذلك إلا إذا قبل المجتمع الخضوع لقانون واحد وإلغاء ( الفيتو ) من العالم .
ما أدري إذا كنت واضحاً ، أو تمكنت من شرح ما أريد أن أوضحه للذين أتوجه إليهم بهذا الخطاب ، فإذا لم أتمكن من ذلك فلا ألومهم وإنما ألوم نفسي ؛ لأنني لم أتمكن من ضرب الأمثلة الواضحة المترابطة المتسلسلة التي تقع تحت خبرتهم وممارستهم ، إن طمعي في الإقناع يتجاوز إلى أن أتمكن من الخطاب مع الناس العاديين ، وأظن أن الأنبياء يمتازون بتوجيه خطابهم إلى الناس جميعاً وأن الناس العاديين هم أقرب للاستجابة لهم .
« أحمدك أيها الأب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء وأعلنتها للأطفال » متى ( 11 : 25 ) .