الدين والقانون، السلام العالمي

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

الدين والقانون


Aldeenwalkanon.gif
تحميل الكتاب
المقدمة
أسس الدين والقانون من رؤية قرآنية
الإنسان في الدين والقرآن
وحدة النبوات
الرسل الذين لم يقصصهم الله علينا
العلماء ورثة الأنبياء
ختم النبوة
الخروج من الخوارق إلى السننية
ارتباط آيات الآفاق والأنفس بآيات الكتاب
كلمة السواء
لا إكراه في الدين
قانون النسخ
السلطة للجهاز العصبي
قصة آدم وزوجه
قصة ابني آدم
ما الدين وما القانون؟
السلام العالمي
شروط القتال في الإسلام
عصر الفتن


إن الأنبياء هم الذين علموا الناس واجباتهم ، وعلى المثقفين أن يأخذوا بيد اليقظة الدينية في العالم ، وأن يقوموا بأعمال تليق بالتوبة ، لأن العالم وصل إلى مرحلة ميلاد ديمقراطية عالمية ، والاعتراف بالمساواة بين جميع البشر . ينبغي أن نستجيب لنداء العالم ، لنداء التاريخ للدخول إلى تاريخ الإنسانية الجديد . إن أربعة أخماس العالم يتململون والخمس الآخر في توجس ؛ لأنَّ ورقة الأمم المتحدة لا تستر عورة الإنسانية بل تفضحها ، إذا كانت عبة الأمم غير مأسوف عليها والأمم المتحدة الحالية نشأتا بعد حربين عالميتين ، فإن الاتحاد الإنساني ينبغي أن يولد ولادة طبيعية سليمة لا ولادة قيصرية ، وإذا كان في الميدان من يسر بنهاية التاريخ ، وصدام الحضارات ، فكأنهم سدنة إله الحرب ، علينا أن نعرف التاريخ وأنه ليس في نهايته ، بل علمنا التاريخ أن الحضارات التي لا تتمكن من التكيف مع التاريخ هي التي تنشر فكرة نهاية العالم ، وأن الصدام ليس هو الذي يخدم التاريخ ، وهذا ما يجعلنا نؤكد مرة أخرى ، أن الأنبياء لم يأت دورهم في تاريخ البشر السابق ، بل الآن صار العالم قادراً أن يفهمهم الأنبياء لم يأتوا للتنافس في الصدام العنفي ، الأنبياء جاؤوا للتنافس في فعل الخير ، لنتنافس كيف نصنع السلام العالمي ، ونصنع المجتمع العالمي الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون ، ونكون بذلك حققنا إرادة الله وأُمنية الأنبياء . وأقرب الناس إلى الله هم الذين يُقدِّمون خدمات للناس أكثر .

« من أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخْدُمَ » متى ( 20 : 27 - 28 ) .

حتى إن المثقفين ليشعروا بأنهم إذا تناولوا الحديث عن الطفل سيتلوثون بماء غسيله . ولما تراءى لصاحب كتاب ( تاريخ الجنون ) وانتهى في بحثه ( عمل الجنون الأعظم ) إلى نوع من الغيرية يخرج عن متناول العقل والدين . حيث تساءل : « ماذا إذا كانت هذه الغيرية بداية معارضة جذرية للثقافة الغربية ، فهو تصور تجربة أصيلة تقع خارج التاريخ ، ويهمسون أن هذه المحاولة الفلسفية مميزة لأكثر أشكال الفكر الحديث تقدماً ، لكنه محكوم عليها بالفشل ». (مسيرة فلسفية ص 17 باللغة العربية ، بيروت من دون تاريخ).

هذا المفهوم المحكوم عليه بالفشل ، هو الحجر الذي يرفضه البناؤون للحداثة الفكرية وهو الذي جاء في الإنجيل :

« قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب ، الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية . من قبل الرب كان هذا ، وهو عجيب في أعيننا ، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره » متى ( 21 : 42 - 43 ) .

إننا أدنّا في العالم حق ( الفيتو ) ولكن كما ننكر الخطأ ينبغي أن نعترف بالتوجه إلى الصواب وبمن يقترب من الصواب ، هل لي أن أقول : إن نسمة الديمقراطية في العالم كانت اقتراباً من دعوة الأنبياء ، ومن توحيد الله وما لم نعرف هذا أيضاً ، لا نكون مدركين تطور التاريخ . إن ما جاء به الأنبياء كإيمان بالمساواة بين الناس بدأ يدخل إلى حياة الناس علماً ووعياً . لقد كان بطيئاً ومكرباً وسريعاً على حسب فهمنا لنسبية الزمن إلاَّ أن ميلاد الديمقراطية مفهوماً وواقعاً مهما كان حجمه صغيراً كان ميلاداً لشيء جديد في العالم ، وتضافرت عوامل كثيرة حتى صار ميلادها ممكناً وواقعياً . لقد كان تجسيداً لدعوة الأنبياء للتوحيد وتوسيعاً لمعنى القانون ، ولكنها ولدت بين الدماء . هذا هو الفرق بين الأنبياء والديمقراطية بكل الإيجاز : الديمقراطية ولدت في مفهومات تجيز للناس صنع المجتمع بالدماء ، والأسماء تمنع ذلك وتصر على صنع التوحيد بالإقناع وليس بالإكراه والعنف ، وما لم نفهم هذا ، لا نفهم المشكلات الحالية المعقدة في حياة البشر الآن . الديمقراطية تصل إلى الإقرار في النهاية بعدم جواز صنع الحكم بالعنف ، ولكن الثقافة التي صنعت الديمقراطية أجازت العنف وقتل المستبدين بشعوبها والمتسلطين على الشعوب الأخرى والثورة عليهم .

بينما الأنبياء اعتبروا هذا العنف غير شرعي ، وأصروا على صنع الشرعية بالشرعية ، بينتا مفهوم الثقافة الحديثة قد نصَّ على جواز استخدام العنف لصنع الشرعية وهذا النقص والعيب لا يزال يلاحق ، ويلوث العالم ويجعل الناس جميعاً يتناقضون في مواقفهم . وبقاء حق ( الفيتو ) بعد زوال كل مبرراته نتيجة لذلك الخطأ .

إن دعوة عيسى عليه السلام لم يكن تغيير أحكام ، ولكن تغيير المجتمع ، ومن هنا ظن من ظن أن عيسى عليه السلام يترك ما لقيصر لقيصر ، ويفصل التوحيد عن السياسة ، ويفصل الدين عن الدولة ، فإن هذا الظن خاطئ وملوث ويجعل حل المشكلات عسيراً ، بينما إصلاح السياسة هو التوحيد الذي ينبثق من وعي الناس ، وخروج البشر من طاعة المستكبرين الفراعنة في تنفيذ قهرهم للناس . كم هو بسيط هذا الذي جاء به الأنبياء ، وكم هو اقتصادي في الأموال والأرواح ؟ ولابد من إعادة كشف هذه التقنية الاجتماعية السياسية التي جاء بها الأنبياء وإلى الآن نعجز عن فهمها ، ونقوم بفصل الدين عن السياسة . نعم ، فصل العدل عن السياسة ، ففي دين العالم الآن لا مانع أن يكون العدل مفصولاً عن السياسة العالمية ، فهكذا فصلنا السياسة عن العدل والمساواة ، بعبادة القوة والإكراه و ( الفيتو ) هذا في شريعة الذين يفصلون الدين عن السياسة .

أما الذين يخلطون الدين بالسياسة كما في العالم الإسلامي ، فإنهم أيضاً يقلدون العالم وينفصلون عن الأنبياء في قبولهم جواز صنع الحكم بالعنف . إن العنف الجزائري الآن مثلُهُ الأعلى هو الثورة الفرنسية ، وليس دعوة الأنبياء ، وأما العالم المتحضر الذي لا يتعاون مع الثورة الجزائرية فإنه يخون مبادئه في حق تقرير المصير للشعوب ويخون الديمقراطية حيث لا ينصرها . إن الأزمة العالمية كلها أنهم لا يزالون يعتمدون على العنف والقوة والجهاز العضلي ، بدل الثقة والاطمئنان إلى قوة الفكر . نعم ، ينبغي أن نفصل بين الفكر والعضلات فصلاً باتاً قاطعاً ، ينبغي أن نحدث قطيعة معرفية بين الفكر والإكراه وأدوات الإكراه .

(إِ كْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا .. ) ] البقرة : 2/256 [ .

لا إكراه في الاعتقاد ، في الفهم ( حرية الاعتقاد ) بهذا تبين الرشد من الغي ، والحق من الباطل ، والنافع من الضار ، فمن يكفر بالطاغوت الذي هو الإكراه ، ويكفر بالدين الذي يجيز الإكراه في الدين ، ويؤمن بالله الذي يحرم الإكراه في الدين ، فمن فعل هذا ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، إذا كان للفلاسفة حجر تحويل المعادن إلى ذهب ، فإن حجر الأنبياء الذي رفضه بناؤوا العالم ، هو الذي صار حجر الزاوية .

هذا الذي قال عنه المسيح :

« ومن سقط على هذا الحجر يَتَرَضَّض ، ومن سقط علي هو يستحقه » متى ( 21 : 44 ) .

ولهذا قال لأحد الذين معه لما جاؤوا ليقبضوا عليه :

« وإذا واحدٌ من الذين مع يسوع مدّ يده واستل سيفه وضرب بع عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه . فقال له يسوع :

« رد سيفك إلى مكانه ، لأن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف يَهْلَكُون » متى ( 26 : 52 ) .

وحين ننظر إلى امتدادات هذه الفكرة ، نجد أن أتباع المسيح ظلوا مكافحين وهم ملتزمون هذه الطريقة ، يحرمون على أنفسهم القتل أو محاولة تغيير أفكار الناس بالقوة ، وظلوا يبشرون ، ليس في فلسطين فقط ، وإنما في قلب روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية حيث كانت فلسطين تابعة لها ، واستمرت الفكرة النبوية على نبذ العنف وقبول الاضطهاد إلى أن تحول الناس وتحول المجتمع ، ثم تحول الإمبراطور نفسه إلى المسيحية . ليس بثورة دموية كالثورة الفرنسية والشيوعية ، وغيرها من ثورات العالم ، وغنما من دون أن يقتل المسيحيون أحداً ، فقد تحولت روما إلى المسيحية بعد أربع مئة عام من الكفاح السلمي العلمي الأخلاقي الصعب ، والضحايا من طرف واحد فقط . يا لها من عملية إبداعية ستمكن الناس من فهمها في المستقبل ، ولكن العالم لم يكن متمكناً من وعي وفهم هذا الحدث ، كقانون وتقنية سياسية .

إن هذا الذي حدث للمسيحية خلال أربع مئة عام من الكفاح ، حدث للمسلمين خلال أقل من أربعة عشر عاماً من الدعوة على نفس طريقة أتباع المسيح ، وذلك بالخروج من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله ، ليس بقتل الطاغوت ، ولكن بالخروج من طاعته في الشر ودعوته إلى الخير . وكذلك لما انتقل المسلمون إلى المدينة لم يدخلوها إثر معركة وثورة دموية ، وإنما بتحول إقناعي اجتماعي طوعي حيث تكون مجتمع جديد من دون عنف ومن دون قتل رجلٍ واحدٍ من المجتمع الذي زال زوالاً طبيعياً . وقتل شخصان فقط ن المسلمين في مكة تحت التعذيب ، وكانوا ممنوعين من أن يدافعوا أن أنفسهم .

إن الذين يؤمنون بجواز صنع المجتمع بالعنف لا يشعرون أنهم يجعلون العنف إلههم ويرسخون شريعة الغاب ، شريعة القوة ، ويرفضون القانون ، ويثقون بالقوة ولا يثقون بالفكر ، إنك حين تجيز لنفسك صنع المجتمع بالعنف ، تلقائياً تكون أجزت للآخر أن يفعل ذلك ، وتكون بذلك دخلت الحلقة المعيبة حلقة تأليه القوة والطاغوت ، وبهذا الفهم يمكن أن ندخل إلى عالم آخر ، وهو انه إذا امتنعت عن تغيير المجتمع بالعنف وحرمته على نفسك تحريماً قاطعاً ، تكون دخلت إلى عالم آخر ؛ عالم شريعة الإنسان الذي يعرف الخير من الشر ، وإذا حرمت على نفسك العنف ، هناك يتولد عند الآخر الشعور بأنَّ لك الحق بأن تطالب بتحريم العنف ، وإلا لا تكون صادقاً ولا أميناً لا مع نفسك ولا مع الآخر . والقرآن يقرر هذا .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ] الصف : 61/2-3 [ .

فمن هنا حرم الأنبياء جميعاً استخدام العنف في صنع مجتمع القانون ، لأنه مستحيل أن تصنع مجتمع القانون وأنت تؤمن بالعنف ، لأنهما متناقضان ، وأصعب شيء يواجهني به الناس في دعوتي إلى اللاعنف وإلى إحياء فكرة ابن آدم وسقراط والمسيح ومحمد (ص) حين أقول : إن الأنبياء حرموا الدفاع عن النفس حين يقع عليهم العدوان من المجتمع أو ممثليه .

فهذه الفكرة النبوية الأساسية هي الفكرة المرفوضة ، من قبل العالم كله رفضاً قاطعاً ولا قدرة له على تأملها والبحث فيها ، وما لم يفهم الإنسان هذا الموضوع لا يمكن أن يدخل في عالم الأنبياء ولا عالم الديمقراطية ، لأن الأنبياء يريدون أن يصنعوا مجتمعاً لا يحمي الأفراد فيه أنفسهم إلا باحترامهم والتزامهم القانون . والقانون يمثل الشخص الثالث بين المتنازعين فإذا لم يوجد ثالث - خارج القطبين : قطب المستكبر الذي يخاف أن يفقد استكباره ، والمستضعف الذي يتمنى أن يصير مستكبراً - فإذا لم يوجد هذا الثالث فسيظل القطبان يتبادلان المواقع حتى يبرز الثالث الذي يلغي الاستكبار والاستضعاف . لهذا خرج الأنبياء من النزاع وأعلنوا الخروج من النزاع من طرف واحد ، ليهددوا السبيل لوجود المجتمع المدني وإلغاء المجتمع العسكري ، لإيجاد مجتمع الجهاز العصبي المتطور ، وإلغاء مجتمع الجهاز العضلي ، وهذا ما فعله ابن آدم الأول والأسماء ويفعله دعاة السلام الآن ، إلى يومنا هذا لا يوجد فيه ثالث الذي يحكم بين المتنازعين ، وإنما يوجد في العالم اثنان متنازعان ولم يولد الثالث . الأنبياء بشروا بهذا والتزموا عملياً بمنع جواز الدفاع عن النفس ، ليصنعوا المجتمع السواء الذي لا يوجد فيه مستكبر ولا مستضعف ؛ لأن المستضعف هو الوجه الآخر لمجتمع الاستكبار حيث المستكبر والمستضعف فقط . الأنبياء جاؤوا بعالم جديد لم ير الوجودَ بعدُ بشكل مُمارسٍ من قبل البشر إلا في الجزر الديمقراطية ، وبشكل معاق غير راسخ وضعيف . إلا أنه مع ذلك ولد حياً قابلاً للنمو مهما كان يشكو من ضعف ورخاوة ، ولقد نما بشكل ملحوظ بظهور التحاد الأوروبي حيث لأول مرة في التاريخ يتحد عدد من الدول والقوميات المختلفة على أساس المساواة ( كلمة السواء ) أمام القانون ، ووعي الشعوب لا على أساس إمبراطور مستبد . لهذا لم تتحد أوربا على يد نابليون أو هتلر وإنما تتحد على أساس ( كلمة السواء ) أمام القانون ، ولا يوجد حق ( الفيتو ) في الاتحاد الأوربي . ويمكن أن يتحول إلى نموذج للاتحاد العالمي من حيث المبدأ ، أما الأمم المتحدة فلا يمكن أن تفعل ذلك إلا إذا قبل المجتمع الخضوع لقانون واحد وإلغاء ( الفيتو ) من العالم .

ما أدري إذا كنت واضحاً ، أو تمكنت من شرح ما أريد أن أوضحه للذين أتوجه إليهم بهذا الخطاب ، فإذا لم أتمكن من ذلك فلا ألومهم وإنما ألوم نفسي ؛ لأنني لم أتمكن من ضرب الأمثلة الواضحة المترابطة المتسلسلة التي تقع تحت خبرتهم وممارستهم ، إن طمعي في الإقناع يتجاوز إلى أن أتمكن من الخطاب مع الناس العاديين ، وأظن أن الأنبياء يمتازون بتوجيه خطابهم إلى الناس جميعاً وأن الناس العاديين هم أقرب للاستجابة لهم .

« أحمدك أيها الأب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء وأعلنتها للأطفال » متى ( 11 : 25 ) .