الخوف من المعرفة
من Jawdat Said
دعني أقص عليك قصة تثبت لك أن جميع الذين لا يسلكون سبيل الرشد يخافون من العلم، وبتعبير آخر، جميع الذين لا يعرفون العلم يخافون منه، لأنهُ سيزيل جهلهم، وهم يظنون أن زوال جهلهم، زوالٌ لوجودهم، لأن وجودهم مبني على الجهل، ولكن ما الذي نجهله؟ وما الذي نخاف أن نفقده؟ وما هذا الذي نخاف منه؟
لقد تقدم ميشيل فوكو إلى بحث هذا الموضع وكان يقول عن المعرفة (اللوغوس) أو الخطاب أو الثقافة: « أين هي الحضارة التي تبدو في الظاهرة أنها كانت اكثر احتراماً للخطاب من حضارتنا؟ أين تم تكريمه أحسن واكثر؟ أين تم تحريره جذرياً فيما يبدو؟ وأين …؟ غير أنه يبدو لي أن نوعاً من الخوف يختفي وراء هذا التقدير الظاهري للخطاب وتحت هذا الحب الظاهري للوغوس … كل شيء يجري كما لو أنه أريد محو علامات ظهوره نفسها ضمن ألاعيب الفكر واللغة، يوجد في مجتمعنا وفي كل المجتمعات الأخرى كما أتصور - لكن حسب اوجه وتقطيعات مختلفة - خوف عميق من اللوغوس (المعرفة)، نوع من الخوف الأصم ضد هذه الأحداث، ضد..، ضد هذا الدوي الضخم المتواصل والمختلط للخطاب.
وإذا أردنا - لا أقول محو هذا الخوف - بل تحليله ضمن شروطه، ضمن لعبته وآثاره، فإنه يلزم - على ما اعتقد - اتخاذ قرارات ثلاثة يقاومها فكرنا اليوم » ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ص 33 - 34.
الخوف من المعرفة مع التقدير الظاهري لها، لم هذا الخوف من المعرفة؟ لماذا هو عميق في كل المجتمعات؟ السبب في ذلك أن الإنسان لا يزال يخضع للعبة السيد والعبد، للعبة القاهر والمقهور، ولا قدرة له على الخروج من هذه اللعبة التي انحصر فيها طويلاً، فبالمعرفة الظاهرية يصل الإنسان إلى أن يقهر الآخرين، فإذا عمّت هذه المعرفة فانه سيسخر الذي يقهر الناس بالمعرفة وربما يصير مقهوراً، وهذا ما يخشاه.
هذا هو الخوف من كشف الحقيقة، الخوف من قبول المساواة، لأن المقهور حين يسعى للخروج مما هو فيه، لا يهدف إلى السواء، بل لا يهدف إلى أن يتحول إلى قاهر، ولهذا فإن الصراع مأساوي، وتكاد الحلقة تكون مفرغة، وهي ليست مفرغة.
إن السواء والعدل يزيل القاهر، ولكنه يزيل المقهور أيضاً، ولهذا فإن الاحتفاظ بالقهر، والخوف من زواله، أو السعي لجعل المقهور قاهراً، كل هذا يخدع الناس، وكأن هذه اللعبة سرمدية، والتاريخ لم يعطنا نماذج قادرة على الاستمرار في الخروج من دائرة القاهر والمقهور، في الخروج من اللعبة القديمة.
هذا هو تحليل الخوف ضمن شروطه وضمن لعبته وآثاره، ولهذا يقاوم فكرنا اليوم اتخاذ قرار الخروج. إن قبول السواء مُغرٍ، ولكن الاستعلاء الذي يسحر البشر لا يزال يسيطر على الناس، والآباء هم الذي خرجوا بإصرار من لعبة القاهر والمقهور، ومعهم خرج الآمرون بالقسط من الناس، ولازالت البشرية تتسلق هذا الجدار الأملس الذي يمكن أن تحدث له نتوءات تساعد على تسلقه، هذا ما نسعى إليه، وهذه هي التعويذة التي نريد أن نفك بها السحر الأكبر، السحر الذي خدع أعين الناس خلال التاريخ: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ) يس: 36/30-31.
كيف نخرج من دوّامة القاهر والمقهور إلى حياة الرشد والسواء؟ كيف نضيء ظلمات التاريخ الذي يتقدم ببطء شديد إلى الوعي؟ كيف يُخفي علينا بطؤه واختلاطه السعي الحثيث، والتقدم الراسخ الثابت إلى الهدف، والخروج من وهم العبثية؟