العلم والتوحيد

من Jawdat Said

(بالتحويل من التوحيد)
اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

اقرأ وربك الأكرم


Change.gif
لتحميل الكتاب
مقدمة
مدخل
الفصول
الفصل الأول، مراتب الوجود
المرتبة الثالثة:الوجود اللفظي
المرتبة الرابعة: التعليم بالقلم
المرتبة الخامسة: الوجود السنني
الفصل الثاني، العلم
دليل العلم
الموقف العلمي
العلم والتوحيد
الفصل الثالث، الأجنة القرآنية
سيروا في الأرض فانظروا
سنريهم آياتنا في الآفاق
سخر لكم ما في السموات
إن الذين آمنوا والذين هادوا
خاتمة



التوحيد هو لب الدين وجوهر العبادة، وهو الركن الأول والأساسي في الإسلام وشعاره: (لا إله إلا الله) و(قل هو الله أحد) و(إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) (النعام / 162).

وهذا الشيء معروف معرفة عامة لدى عامة المؤمنين، ولكن الذي في حاجة إلى إيضاح هو أن التوحيد يمكن أن يظهر في ثلاثة جوانب: توحيد الذات، وتوحيد التشريع، وتوحيد الرغبة والرهبة.

توحيد الذات

ونعني بذلك أن الخالق واحد. (هل من خالق غير الله) (فاطر / 3). وهذا النوع من التوحيد، كان كثير من المشركين المعاصرين لرسول الله  يقول به: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) (العنكبوت / 61). إلا أن هذا التوحيد غير كاف. فما دام الخالق واحداً فيجب أن تكون الطاعة لأمره وحده.

توحيد التشريع

وهو أن تكون الطاعة لأمر الله وحده. ولقد أطلق المسلمون على توحيد الذات وتوحيد التشريع لفظة توحيد الربوبية. قال الله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) (الأعراف / 54). فكما أن الله خالق لا شريك له في الخلق، كذلك لا شريك له في الأمر الذي هو التشريع. تلا عدي بن حاتم قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال عدي بن حاتم (لم يعبدوهم)، فقال له رسول الله : « بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم » رواه احمد والترمذي.

توحيد الرغبة والرهبة

أما النوع الثالث من التوحيد فهو: توحيد الرغبة والرهبة.

وهذا النوع هو الذي سماه المسلمون توحيد الألوهية، وهو الذي أنكره المشركون حين قالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) (ص / 5).

فالنوع الأول من التوحيد يخالفه الماديون أصحاب وحدة الوجود، والثاني يخالفه الذين يتخذون البشر مصدراً للتشريع دون مراعاة موافقة أو مخالفة أمر الله، ويُخضعون البشر له كما يحكي القرآن الكريم عن فرعون: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) (الشعراء / 29).

والنوع الثالث يخالفه عامة البشر الذين يخافون ضُرَّ المخلوقات أو يرجون نفعها.

إن هذه المعاني يمكن أن نعبر عنها بأساليب مختلفة.. والمهم هنا: ما علاقة هذا التوحيد بالعلم؟

العلم أساس التوحيد

الجواب على هذا التساؤل يكون بمعرفة أمر الله والالتزام به، فعدم العلم هو الذي يجعل الإنسان لا يلتزم بالتوحيد. إذن العلم هو أساس التوحيد الذي يقوم عليه، ولا توحيد بلا علم، فإذا كان لا نجاة بدون توحيد، ولا توحيد بدون علم، فإنه لا نجاة بدون علم.

هذا معلوم في التوحيد في أمر الله التشريعي (الحلال والحرام في الدين). أما العلم في أمر الله الكوني أي معرفة آياته في الآفاق والأنفس وتسخير الكون فالأمر كذلك أي لا تسخير بدون علم. فعدم العلم بسنن الله في الكون لا يجعل الكون مسخراً للإنسان، لأن تسخير الكون لا يتم إلا بالعلم. وهذا واضح في مجالات الزراعة والصناعة وتربية الحيوان بل وفي مجال الإنسان، إذن إن النجاة والنجاح في الآخرة، والنجاة والنجاح في الدنيا لا تتم إلا بالعلم..

التوحيد قيمة إنسانية أو مشكلة إنسانية

هذا الأسلوب الذي قدمنا به الموضوع معروف إلى حدٍ ما، ولكن يمكن أن يعرض الموضوع بأسلوب آخر تحت عنوان مشكلة إنسانية زماناً ومكاناً بل تحت عنوان قيمة إنسانية.

لمَ هذا الاهتمام الكبير بالتوحيد في الدين؟ فهل يمكن أن نرى أهمية التوحيد في واقع الفرد والجماعة؟ وهل هو شيء مهم لما يعانيه الإنسان في هذه الحياة أيضاً؟ لأنه لا نجاة في الآخرة بدون توحيد وعلم، ولا نجاح في الدنيا بدون علم كما سنوضح فيما بعد. إننا لو أعدنا قراءة الفقرة السابقة ونحن نضع كلمة العلم مكان كلمة التوحيد لكان المغزى واحداً.

سبق أن بحثنا أن العلم إنما نحصله بالتعامل مع الواقع الخارجي، وتصحيح أفكار الناس يتم بالعودة إلى الواقع الخارجي الذي تتحدث عنه تلك الأفكار. كما بحثنا أن من معوقات العلم النظر إلى عالم الأشخاص بأنهم مصدر العلم، وأن القرآن يدين هذا النظر ويسميه (ما وجدنا عليه آباءنا) ويلح على التعامل مع الواقع الخارجي ورؤية عواقب الأمور.

والإنسان لا يتعلم الشك فيما عليه الآباء واختبار ما هم عليه بالوقائع الخارجية إلا بمعاناة شديدة وأثمان مكلفة، فالإنسان تعلق بوسائل العلم التي أخذها عن آبائه وقبيلته تعلقاً ذابت معه شخصيته.. فلو نظرنا إلى العلم أو التوحيد كيف يتعلمه الإنسان بمعاناة، أو نظرنا إلى الواقع كيف بدأ الإنسان في تعلمه، أو كيف بدأ خلقه.. لأمكننا أن نقول مع الذين يسيرون في الأرض وينظرون كيف بدأ الخلق. إن الخلق لم يظهر كما هو مرة واحدة، وإنما بدأ ضعيفاً ويزيد فيه ما يشاء.

وإعادة النظر في كيف بدأ الخلق أمر مهم مثل التوحيد والعلم، فهو يدخل في لب العلم.. أي معرفة كف خلق الله ما خلق حتى لا يكون علمنا بالله مثل ظن الجاهلية (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) (آل عمران - 154).

الفردية

(إننا لم نألف النظر إلى ظهور الفردية على انه عملية تاريخية، بل إننا نجنح إلى الاعتقاد بأن الأفراد كانوا منذ أن كان الناس على الأرض، وهذا بالطبع صحيح بمعنى ما، فكل إنسان عاش في ا وقت كان فرداً، لكن الملفت للنظر هو أن غالبية الناس في معظم التاريخ البشري لم يخامرهم إلا أدنى شعور بفرديتهم، فقد تطورت فكرة الفردية بوصفها حقيقة من حقائق الناس أو مثلاً أعلى يحيا من أجله الإنسان خلال التاريخ البشري). (الغرب والعالم، تاريخ الحضارة من خلال موضوعات، تأليف كافين رايلي، ص 151، طبع 1985).

شو بيطلع بأيدينا

وأظن أنه يمكن إلقاء ضوء - مهما كان خافتاً - على هذا الموضوع حين ننظر إلى الناس في يمونا هذا وهم يقولون إزاء المشكلات الاجتماعية (شو بيطلع بأيدينا؟). إن من أكبر الأمور التي على المصلح الاجتماعي القيام بها تبصير الأفراد بقدراتهم وإمكاناتهم التي يهدرونها. وفتح ثقب على هذا الحاجز الوهمي - الشعور بعدم القدرة على فعل شيء ما - الذي يشل جهد الأفراد في السعي لتغير الوضع إلى ما هو أفضل، يضعنا على طريق الحل ويغير مواقفنا، لأن المشكلة ليست غياب الأهداف وإنما عدم معرفة وسائل تحقيق الأهداف التي هي - الوسائل - العلم والتوحيد.

فالمعنى الذي يريد أن يبرزه صاحب النص المقتبس السابق من كلمة (ظهور الفردية) هو هذا المعنى الذي أردت إبرازه بهذا الضوء الخافت.

إذا ألقينا النظر على الواقع الاجتماعي وقمنا بتحليله لوجدنا أن الشعور العميق بالعجز من أكبر المشكلات التي لا تعيق التقدم فحسب، بل تجعل البدء في العملية أمراً مستحيلاً. إن إبراز إمكانات الفرد قدراته على التغيير والمساهمة في التغيير من أشرف وأقدس الجهود التي بذلها البشر في تاريخهم الطويل. وما أحوجنا اليوم إلى الكتاب والبينات لإعادة الحياة إلى هذه البذرة المفقودة وفتح ثقب في هذا الجدار الذي يصطدم به جهود المصلحين فنرتد خائبين حسارى خاسئين.

وحتى الجهود التغييرية المبذولة في عالم اليوم قاطبة لا تزال تكبتُ هذا المعنى وهم - في أحسن الأحوال - لا يريدون إظهار النزعات الفردية في القدرة على إبصار كيف ومتى تكون جهودهم مثمرة.

وإن من أروع اللحظات تلك التي يحس فيها الإنسان بفرديته، أي ينكشف له السلطان الكامن في داخله، وتبدو مكانته في هذا الكون المسخر له وتفاعله مع الحقيقة العظمى التي تنقذه من الذين يكبتون فيه هذا الحق الكامن منه، هذا العلم الذي يعطي للإنسان هذا الشعور هو الذي يشعره بفرديته وتوحده، ويخرجه من الجهل والشرك إلى التوحيد، والمسؤولية وحمل الأمانة الإيجابية.

التفرد والثقافة

يذكر صاحب كتاب (الغرب والعالم - القسم الأول) في فصل (التفرد والثقافة) كيف أن التفرد وشعور الإنسان بالمسؤولية الخاصة كانت مفقودة في القبائل البدائية قبائل الصيد وعندما نتكلم عن التفرد والنزعة الفردية في المجتمع الحديث، من المهم أن ندرك أننا نتأول أفكاراً لها تاريخ محدود ومحدد من المعاني، وفي أقصى حالات تفردنا لا نملك أن نعبر عن أنفسنا بغير الألفاظ التي أخذناها عن تاريخنا الثقافي). (ص -152-). (عالم المعرفة ع.9 تأليف كافين رايلي، ترجمة: عبد الوهاب المسيري وهدى حجازي).

واللغة ترشد إلى كيف بدأت هذه المعاني، لأن اللغة توجد بعد أن تحلق هذه المعاني، ودراسة اللغات تبين عدم وجود الكلمات التي تدل على استقلال الإنسان الفرد، ودراسة الحضارات ونشوء المدن وانتشار الحديد تبين كيف ساهمت هذه الأمور في إبراز شخصية الإنسان الفردية.

(مع أن اليونان كانوا متطورين بالنسبة لقبائل الصيد، فإن سقراط حين كان يوجه نقده الحاد للأسلوب الذي يتلقى الناس به معارفهم، وكان يطرح أسئلة ثاقبة تعد تحدياً للأفكار التقليدية متسائلاً عن الطريقة التي تم بها التوصل إلى هذه الأفكار …) (ص - 195).

(على الرغم من أن أثينا أنجبت سقراط، فإن المجتمع الأثيني كان عاجزاً عن التسامح مع مثل هذه النزعة الفردية، والحكم بالإعدام الذي صدر عليه يوضح الحدود التي لا يجوز أن تتعداها النزعة الفردية فغي ذلك التاريخ) ص 160.

(وكان الاسبرطيون من سن السابعة يتلقون تعليماً يعدهم للنظام العسكري الصارم والطاعة المطلقة للدولة) ص - 161.

الرؤية الرومانية للمسيحية

ويذكر توينبي كيف استقبل اليونان والرومان الفكرة المسيحية على أنها سرطان اجتماعي مسؤول عن تحلل الدولة، ويذكر عن شاعر روماني أنه قال: (إن شاباً كريم المحتد ينتمي إلى أمتنا، شاباً لا يعوزه الحسب انساق وراء الخبل وفكرة هجران الدنيا.. إلى أن جاء جيبون ووصف انتصار البربرية والدين. وقد وسع الشرح عالم في القرن العشرين ضليع في علم أصول الإنسان لا يقل عن جيبون وهو فريزر وقد قال فريزر في كتابه الغصن الذهبي:

فقد قام المجتمع اليوناني - الروماني على فكرة خنوع الفرد للجماعة وسيطرة الدولة على المواطن. وتجعل هذه الفكرة سلامة المجتمع مناط السلوك وهدفه الأسمى وتؤثرها على سلامة الفرد في الدنيا والآخرة.. على أن انتشار الأديان الشرقية وذيوع تعاليمها قد غيّر هذا الطابع بأسره وبث فيهم اعتبار الخلاص السرمدي هو المأرب الوحيد بتكريس الحياة من أجله. ومقابل هذا أصبح ازدهار الدولة بل وحتى وجودها في أدنى درجات الأهمية والتقدير … واستمرت هذه الفكرة تسيطر ألف سنة على عقول الناس، ثم كا إحياء القانون الروماني وفلسفة أرسطو والفنون القديمة في أواخر القرون الوسطى.

وهكذا انقضى التوقف الطويل الذي كابدته الحضارة وانحسر غزو المد الشرقي وما يزال في انحسار متصل). ثم يقول توينبي:

(ولكن ما رأي الناظر عن بعض الأساليب التي تبدت بها عودة أوروبا إلى المثل العليا إنه جيل آخر من الوثنية). (دراسة للتاريخ، توينبي، ج 3، ص 145، طبع 1960. ويذكر توينبي أيضاً نماذج لهذه الثنية الجديدة التي تمثلت في النازية والفاشية والعنصرية).

نقلنا هذه الكلمات لتدل على رؤية تسلسل المشكلة الإنسانية، كيف أن إعادة الاعتبار للإنسان والتفرد، أو إعادة التوحيد إلى الإنسان يعتبره فريزر عقبة أمام الحضارة بينما يعتبر توينبي فريزر عائداً للوثنية. الأمر واضح من ناحية كيف عبّر كل واحد عن رأيه، ولكن ما مقار الصواب وأين بدأ التاريخ وأين يتجه؟

واضح أن الحضارة اليونانية - الرومانية استبعدت الإنسان للدولة. والحق أن المشكلة ليست في سلامة الفرد وحده أو سلامة المجتمع فقط، ولكن في سلامة الجميع، لأن سلامة الجميع بدون اجتهاد الأفراد ليست بشيء، ولا يتجاوز ذلك المجتمع مجتمع النمل، والفرد بدون المجتمع صفر. والعلم والنظر والتأمل كيف يتم الخلق هو الذي يضع كل شيء موضعه المناسب. والأفراد الذين ينظرون كيف يتم الخلق، كانوا في موضع الاضطهاد مثل سقراط. وهذا ما نجده في قصص الأنبياء والأمم.. كانت الأمم تواجه هذه النظرات التي يأتي بها الأفراد بقولهم: (وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) (القصص - 36)، (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) (طه / 63) (لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) (إبراهيم - 13)، (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) (سبأ / 34).

العلم والمبادرة الفردية

والعلم ينتج دائماً من المبادرات الفردية التي نبتت في أرض المجتمع، هذا هو الواقع ولكن المجتمع يريد أن يكبت هذه المبادرات حتى في الأمور الكونية التسخيرية، وهنا لابد من وضع قاعدة للعلم والحق أساسها أن الأفراد الذين يتبين لهم هذا عليهم أن يتحملوا الأمانة التي ألقيت عليهم ويتحملوا ضغط المجتمع؛ لهذا على الأنبياء والأمرين بالقسط من الناس أن يصبروا صبر أولي العزم من الرسل، وكما يقول محمد : « رحم الله أخي موسى إنه أوذي أكثر من هذا فصبر ».

لابد من كشف السنة والقانون ليتمكن الإنسان من الصبر، ولا يتم ذلك إلا إذا كشف قانون الجهد المكافئ. والكون خلق مسخراً للإنسان شرط أن يعلم الإنسان قانون التسخير، لهذا فإن الأمر ليس بالسهولة المفرطة ولا بالتعقيد المعجز، وإنما بالمعاناة التي تكون العاقبة فيها بجانب الحق (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرعد - 17 -) فعلى أهل العلم أن يبينوا ويبلغوا.

الآبائية

إن فكرة التوحيد خروج من الآبائية وعبادة الآباء، وهذه الفكرة - الخروج من تقليد الآباء - هي الأرضية التي نبتت فيها كل الإنجازات البشرية حتى التي كانت في صورة معارضة للدين إنها لم تكن معارضة لجوهر الدين وإنما كانت معارضة بكل وضوح لفكرة الآبائية.

حرص الآباء على القوالب

والآباء كانوا حريصين دائماً على صب الأبناء في قوالب تسد عليهم المنافذ، والإنسان عنده مرونة كبيرة في تقبل القوالب التي يمكن أن يُشكل عليها، كما أن له توقاً وتطلعاً إلى الحق. إن هذه الطبيعة المزدوجة للإنسان تُمكن الاستفادة منها بفنية كاملة لإيجاد الإنسان الذي يلتزم بالجماعة، ولكن لا يسكت عن قول الحق. فالصحابي بلال - رضي الله عنه - كان يشعر بهذه المسؤولية وأنه ليس صفراً وأنه يمكن، بل يجب أن يؤدي دوره حين كان يعلن أحد أحد وهو تحت التعذيب، ولم يقل في نفسه: إن المشكلة فوق طاقتي، فمن أنا حتى أزج بنفسي في هذه المعركة؟ أجل! لقد كان عبداً غريباً طارئاً. كان عبداً من الناحية القانونية، ولكن كان يمارس الحرية والمسؤولية بشكل لم يكن في مقدور من يعيشون في عالم ألغيت فيه العبودية قانونياً بل إنهم محرومون من لحظة يشعرون فيها بأنهم يمارسون حقهم في تبني ما يرونه حقاً ويلتزمونه علانية.

وعند هذه النقطة يبدو صراع الحضارة مع التخلف وصراع التوحيد مع الوثنية. الحضارة والتوحيد يقولان للإنسان: عليك أن تمارس هذا الحق فأنت مسؤول أمام الحق وحده أمام الله الذي خلق بالحق وأمام نفسك. أنت الذي تحمل الحق وتلتزم به، وهذا الحق لك ومن ينازعك فهو المتخلف المشرك (لا إكراه في الدين) (البقرة / 256)، (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) كما قال عمر رضي الله عنه.

وجاليلو وهو يعلن أنه يترك الهرطقة أمام هيئة الإدانة كانت تتقد في نفسه شعلة الحق والعلم، وإن كان آثر أن يتخذ موقف الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.

ميزان إبراهيم

إن من لا يقف عند الرسوم والأشكال يعرف أين يتمركز الزبد وأين يبقى ما ينفع الناس؟.. إنها ملة إبراهيم - الأواه الحليم - الذي يلتزم الحق ويرحم الخلق مع أنه لا يكف عن إعلانه في أنه لا يحب الآفلين، ويظل يكرر: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً. فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون) (الأنعام / 81)، (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) (الممتحنة / 4).

لقد وضع إبراهيم - عليه السلام - الآبائية في الميزان، وأنه لا يجوز للإنسان أن يخون الحق والضمير في سبيل الآباء، إنه موطن الصراع: الحق والضمير أم الآباء والمجتمع؟ إن الحق والضمير ليس ضد الآباء والمجتمع وإما ضد الباطل والخطأ. وهذا التمييز ضروري حتى لا نخرج عن العدل.

إن الآباء في عصر التخلف يريدون من الإنسان أن يكون مثل سائر الأشياء التي يستخدمها الإنسان ويسخرها، بينما يقول له العلم والتوحيد: أنت لست كالأشياء … إنك خلق آخر. ويعزز فريزر النظرة السلبية عندما يشكو من أن الأديان الشرقية قضت على ديانة اليونان والرومان التي كانت تصوغ الفرد على أنه للدولة والمجتمع، ولا تبالي بسلامة الفرد في الدنيا والآخرة، وأن الفكرة الشرقية استمرت في السيطرة ألف سنة على عقول الناس، ثم كان إحياء القانون الروماني وفلسفة أرسطو في أواخر القرون الوسطى بعد الفكر المسيحي. وإن ما يقول عنه فريزر: (ثم كان أحياء القانون الروماني) هوان يكون الإنسان مثل سائر أشياء المجتمع وكذلك فإن توينبي يُسبه جيوش الإمبراطوريات بضواري الرعاة، وكما يشبه الإنسان في مواطن أخرى بالفرس أو القارب.

نفذ ثم اعترض

والآن: إن فكرة اليونان والرومان عادت وسيطرت على العالم فجميع جيوش العالم تلقن أفرادها أن ينفذوا أوامر قادتهم بدون تردد أو تذمر، وألا يعترضوا إلا بعد تنفيذ ما أمروا به.

هذا النظام يجعل الجندي مثل البندقية أو المذياع. إن البندقية لا يمكن أن تمتنع عن الانطلاق حين يضغط على الزناد، ولا تقول: إنني لن أقتل هذا لأنه بريء أو لا يستحق القتل. والمذياع لا يمكن أن يقول: سوف لا أنقل هذا الخبر لأنه باطل. والسوط لا تمتنع عن الهوي على جسد إنسان لأنه غير مدان. وهكذا تريد الحضارات والدول في العالم الآن أن يكون جنودها، بينما التوحيد والعلم والأديان تقول للإنسان: لا يجوز لك أن تكون بندقية أو عصا أو ميكرفوناً بأيدي الناس. أنت خلق آخر تميز الخطأ من الصواب والحق من الباطل، لهذا لا يجوز لك أن تطيع في معصية: « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق »، « وإنما الطاعة في المعروف »، كما تقول له: إن العمل الذي تقوم به أنت مسؤول عنه، ولا تعفيك السلطة التي أصدرت الأمر، إذ الكل مسؤول.

الحضارات سرطانات الأديان

يوم القيامة يقولون: (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً) (الأحزاب / 68)، (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف) (الأعراف / 38). وهذه الفكرة هي الفكرة الأساسية التي تخالف فيها الأديان التوحيدية الحضارات؛ لهذا اعتبر توينبي الحضارات نكوصاً عن الأديان العليا. فالأديان العليا إنسانية وسمو، فالأديان العليا ليست هي سرطانات الحضارات كما تصورها فريزر وأضرابه، بل الحضارات هي سرطانات الأديان ونكو عنها، تلد ذراري مثل النازية والفاشية والعنصرية. فهذه هي السرطانات. (راجع الباب السابع من كتاب دراسة للتاريخ ج 3، طبعة 1960).

والأديان إنما تصاب بالنكسات حين تقلد الحضارات، وحين يتحول الدين إلى وثنية، ويلقن الناس أن العصمة للآباء والمشايخ … إنه التدحرج السهل للمنحدر وليس الصعود الشاق إلى تنمية الضمير وممارسة الحرية التي هي المسؤولية … وكما نقلنا من كتاب (العالم والغرب) أهمية ظهور النزعة الفردية في التاريخ، كذلك ننقل من كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) ما يلقي على هذا الموضوع ضوءاً أيضاً، وذلك للتعود على كيف يمكن أن يبحث عن مسار التوحيد في التاريخ في عالم الواقع. ولكن من المهم أيضاً القيام بعملية الربط بين البحث التاريخي - الذي يحدث في الواقع والذي يأمرنا به القرآن وهو السير في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق - وبين الأسلوب الذي يعرض به الموضوع في الكتب المقدسة، وهذا واجب الموحدين والشهداء بالقسط من الناس. يقول ويلز:

(وقد أخضع الناس بادئ الأمر فانضووا تحت شيء يعظم الجماعات القبلية بوازع من الخوف من الملك والله. ولم يحدث إلا في خلال الثلاثة آلاف أو على الأكثر الأربعة آلاف الأخيرة من السنين أن أصبح لدينا أي برهان واضح يدل على أن نكران الذات الاختياري في سبيل غالية أعظم وبغير أجر أو ثواب يُنتظر كانت فكرة مقبولة لدى الناس أو أن أي إنسان قد قام بطرحها على الناس.
ثم إنا نجد شيئاً ينتشر على سطح شؤون الإنسانية كما تنشر رقاع من ضياء الشمس ثم تمر فوق جوانب التلال في يوم رائح من أيام الربيع هو الفكرة القائلة: بأن هناك في تكريس النفس سعادة أعظم من أي إرضاء ذاتي أو انتصار شخصي، وحياة للبشرية مختلفة وأعظم قدراً وأكثر أهمية من صافي مجموع حياة الأفراد الذين يوجدون في نطاقها، ورأينا هذه الفكرة تصبح وهاجة كالنبراس ناصعة نصاعة ضياء الشمس حين تلتقطه إحدى النوافذ وتعكسه على منظر يبهر الأبصار، رأيناها في تعاليم « بوذا » و« لاوتسي » وبوجه أشد ما يكون وضوحاً في تعاليم « يسوع » الناصري.
ولم تفقد المسيحية قط تمام الفقدان أثناء كل ما ألم بها من التغيير والمفاسد، التلويح بالإخلاص لملكوت الرب الذي يجعل البذخ للملوك والحكام، والذي يجعل ما عليه الأثرياء من أبهة وإشباع للشهوات أشبه شيء بتبذير اللصوص.
وما من رجل يعيش في مجتمع مسته أنامل ديانة مثل المسيحية أو الإسلام بمستطيع أن يكون عبداً تام العبودية، فإن في هاتين الديانتين صفة لا يمكن أن تحمي تجبر الرجال على إصدار الأحكام على سادتهم وعلى تحقيق مسؤوليتهم الخاصة نحو العالم). (ويلز، معالم تاريخ الإنسانية، ص 1037).

انطلاقات جديدة في الحياة الروحية

ويقول توينبي في كتابه (تاريخ البشرية) في الفصل الخامس والعشرين:

(انطلاقات جديدة في الحياة الروحية: من عام 600 - 480 ق.م في فترة لا تتجاوز 120 سنة مدة أربع أجيال فقط ظهر خمسة من كبار الحكماء في العالم القديم، وهذا الزمن يتسع من عام 1060 ق.م إلى عام 632 م. وهي سنة وفاة رسول الإسلام .

1- زرادشت: أفعاله تمت في السنوات المبكرة من القرن السادس قبل الميلاد ومجال نشاطه حوض نهري سيحون وجيحون.

2- أشعيا الثاني: عاصر قورش الذي سمح بعودة اليهود من بابل وكان ذلك 539 ق.م.

3- بوذا: لعله كان يعيش نحو 567 - 487 ق.م نشاطه في بيهار الهند.

4- كونفوشيوس: إذا صح زمنه فهو 551 - 479 ق.م، موطنه الصين.

5- فيثاغورث: معاصر لبوذا تقريباً ولد في جزيرة ساموس.

ولا يزالون حتى اليوم يؤثرون في الإنسانية مباشرة أكثر من أي كائن بشري حي.

أهم الخصائص لهؤلاء الحكماء الخمسة هي أن يصل الكائن الإنساني الفرد إلى علاقة شخصيته مع الحقيقة النهائية. فكل هؤلاء الحكماء الخمسة خرج عن تراثه في خضوعه الروحي للجماعة التي ولد فيها، فإنه بتحديه التقاليد رفض كلتا العبادتين، عبادة الطبيعة وعبادة الإنسان. وكل هؤلاء اهتم أن يقود الناس الذين يتعال معهم إلى الطريق الجديد الذي كشفه. بوذا وفيثاغورث كانا يشتركان في عقيدة أن الموت ليس نهاية الحياة. وبسبب دعوة هؤلاء الحكماء تبدلت الحقيقة والسلوك البشري بشكل لا يمكن الرجوع عنه. وأشعيا أول موحد يهودي وأقدم الموحدين في أي مكان منذ أخناتون في محاولته الفاشلة).

هذه الرؤية التاريخية لتطور العقيدة والسلوك تتميز بإبراز جانبين هامين: الأول: تلمس الهدى خارج المجتمع؛ بمعنى الخروج عن التعبد للمجتمع والاستنامة إلى تقاليد الآباء. والثاني: إن الموت ليس نهاية الحياة.

والقرآن الكريم يعرض هذا الواقع التاريخي بشكل متسلسل بصرف النظر عن تحديد الزمن: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (آل عمران / 33). وفي ضوء آيات الآفاق والأنفس سيأخذ التوحيد بعداً جديداً في عالم المستقبل.

ولابد من معرفة ما كابدته الإنسانية خلال التاريخ من انسحاق كرامة الإنسان في طقوس العبادات السياسية منذ أن كان يقتل خدم الملك عند دفنه، وما كان يحدث في الهند من إنهاء حياة الزوجة بعد وفاة زوجها.. وحتى اليوم حيث يعتبر الإنسان مثل العصا فينفذ دون أن يكون له حق الاعتراض.

إن من يتتبع كيف بدأ الخلق، وكيف ينمو ويزداد يأخذ فكرة جديدة عن المبدأ والمصير، وتظهر له فكرة التوحيد كحاجة إنسانية لا تتم إلا برفع مستوى الناس جميعاً إلى درجة تحمل الأمانة والمسؤولية، وأن كل فرد عليه مسؤولية من كل خطأ يقع في العالم. وإذا ما وقع اعتداء على إنسان في العالم فكأنما حصل الاعتداء على كل إنسان في العالم، فكما أن الخالق واحد، فكذلك مصير البشرية واحد.

لا طاعة في معصية

ويحسن هنا أن نذكر حدثاً تاريخياً يساهم في إلقاء الضوء على الأهداف التوحيدية في رفع مستوى الإنسان وإشعاره بالمسؤولية الفردية المتوحدة عن مصير الناس أجمعين. وإن من المتعارف عليه عند المجتمعات البشرية أن يدلي من يتولى الأمر ببيان يحدد فيه المنهج ويذكر الناس بالأمور ذات الأهمية للمجتمع.

وفي أول خطبة واجه بها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - المسلمين حين بويع بالخلافة، تبرز أهمية التوحيد بمعنى تحديد شروط الطاعة للرؤساء وأولي الأمر؛ فقد ذكّر الناس بالمبدأ الأساسي في الإسلام أنه: « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ». يقول الخليفة الأول أبو بكر:

(أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم).

إن إعلان هذا المبدأ من قبل الخليفة في أول خطاب يوجه إلى المجتمع دليل على أهمية هذا المبدأ بالنسبة للمتكلم وللمجتمع الذي يوجه إليه هذا الكلام، إنه تذكير لهم أن لا يكونوا سياطاً وأبواقاً لولاة الأمور، إن مثل هذا المبدأ وحاجة الناس إليه ستظهر في المستقبل. والعالم الآن في حاجة إلى أن بتعلم مثل هذا الدرس وأن يستعيده.

إن العالم حين يتخلص من وثنية الآباء والسادة والكبراء سيتذكر أياماً في تاريخ البشرية أعلنت فيها مبادئ كرامة الإنسانية، ليس كحق فقط، بل كواجب لا يجوز أن يُتنازل عنه وأن يعلنه أينما كان لا يخاف في الله لومة لائم.

إن هذه الأضواء المبهرة انطفأت في خضم الأحداث، وحتى الذين أعلنت فيهم مثل هذه المبادئ من قديم هم اليوم أبعد الناس من أن تكون حياتهم مذكرة بشيء من هذا، بل سرعان ما تحول مثل ذلك الخطاب النموذجي إلى نوع آخر من الخطاب، كأن يقول والي الأمر في تحديد أسلوب انتقال الحكم: الخليفة هذا ويشير إليه، ثم يقول: وإن هلك هذا فالخليفة هذا ويشير إلى ولي العهد.. ومن رفض هذا فله هذا ويلوح بالسيف.. وتضيع الاحتجاجات الخافتة التي تقول: ويلكم أتعيدونها هرقلية إذا ذهب هرقل جاء هرقل..

ليس المهم مقدار صدق الرواية الخاصة بهذا الموضوع، ولكن الأحداث واتجاه سلوك الناس كانت ولا تزال تصدق هذا وتتحدى إعلان أبي بكر والعهد الذي كان يأخذه رسول الله ص من كل من بايعه على أن يقول بالحق حيثما كان لا يخاف في الله لومة لائم، وأن لا يطيع في معصية وفق الإعلان القرآني: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران / 64).

قانون الزبد

إن قانون ذهاب الزبد جفاء وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض هو الذي سيعيد الحياة إلى هذه المبادئ والذين سيجنون حصاد هذا البذار هم الذين يتلقون آيات الله في الآفاق والأنفس، وهم الذين يعرفون سنة الله وقانون علم الله في التاريخ، وكيف يخلق الله التاريخ، وكيف يساهم البشر في صنع هذا التاريخ بما حباهم الله من سلطان التسخير؛ هذا السلطان هو الذي يسميه إقبال: (النيابة الإلهية). أي إلى حالة إدراك الإنسان إمكاناته كفرد في قدرته على إنقاذ نفسه والآخرين، والمساهمة في إضاءة هذا الطريق … هذا ما كان يعلمه الأنبياء للناس (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) (التحريم / 6).

الاستضعاف والاستكبار

إن السلوك الذي ينقذ في الآخرة من الجحيم هو السلوك نفسه الذي يخلص الأفراد والمجتمعات من جحيم التخلف والإذلال الذي يمارسه المستكبرون في الأرض ونحن نتجرع ألوان الإذلال غصصاً نتجرعه ولا نكاد نسيغه.

إن تخليص أنفسنا من الاستضعاف وتخليص الآخرين من الاستكبار طريقه واحدة لأن منشأهما واحد، وهو نزع الكرامة من الإنسان، لأن المستضعف ينزع الكرامة من نفسه ويغري الآخر بأن يستمرئ نزع الكرامة. والمستكبر الذي ينزع الكرامة من الآخر هو نفسه قد نزعها من نفسه قبل ذلك، لأن من يتذوق الكرامة يعلم أنها وحدة لا تتجزأ، فإذا انتزعت من أحد فأنها لا تسلم لأحد، لأنه يذهب من كرامته بقدر ما انتزع من كرامة الآخر، وبقدر ما تهين الإنسان يعود إليك من الهوان مثله.

والتوحيد الذي نحتفظ به لله يعود علينا في المجتمع بوحدة الكرامة للبشرية جمعاء. فوظيفة التوحيد الاجتماعية هي تقويم السلوك الإنساني الذي به تتحقق إنسانية الإنسان. فأي إنسان تقع عليه مظلمة، فكأنما وقعت هذه المظلمة على الناس جميعاً، لأنه ما دام هناك ظلم يقع بغير حق فإنك لست آمناً أن يصيبك ما صاب غيرك من ظلم؛ ولهذا من سعى إلى إحياء الكرامة الإنسانية في إنسان، فكأنما أحيا الناس جميعاً، وهذا معنى قوله تعالى: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) (المائدة /32).

إن فكرة (من قال لشيخه لم؟ لا يفلح أبداً) لا تزال تأخذ مجراها إلى يومنا هذا، فجميع دول العالم ومؤسساته تلقن الناس أن يطيعوا الأوامر وينفذوها من غير أن يكون لهم الحق في الاعتراض قبل تنفيذها. إن هذا الإجماع العالم يخرقه الدين حين يقول  « لا طاعة في معصية … » وهذه الفكرة لا يستسيغها العالم الآن لأنهم لا يريدون أن يتعاملوا مع إنسان يراجعهم ويزن الأوامر التي يصدرونها إليهم، إنهم يرون أن إعطاء مثل هذا الحق للناس وللجنود فساد للنظام البشري وإحداث للفوضى، مع أن هذه الفكرة هي التي يجب أن تقوم عليها حضارة الإنسان.

هذا الموضوع لم يطرح بعد كمشكلة، لأن هذا يقتضي من كل إنسان ولو كان في أدنى رتب الجندية أن يكون واعياً للدستور حتى يميز الموافق له من المخالف.

إن العالم الذي تطبق فيه نظرية الدين يختلف كلياً عن العالم الذي نعيش فيه من أدناه إلى أعلاه، وحين استشعر أبو الأعلى المودودي - رحمه الله - هذا المعنى قال: (إن جنرالات العالم الآن لا يصلحون أن يكونوا مجندين في الجيش الإسلامي..) لأن الجندي الذي ينفذ ما يؤمر به دون أن يعترض، هو خطر على الآمر أيضاً.

هذه الأفكار بدأت تعرض من جديد وتكشف من قريب ولما تأخذ مجراها بعد في أقنية المؤسسات الثقافية، ولم يتكيف العالم بعد لتصور إمكان العالم الذي ينبثق ع مثل هذه الأفكار. والشهداء بالحق والآمرون بالقسط من الناس عليهم أن يقوموا بدورهم في حمل الأمانة والبلاغ المبين.

خلاصة القول

إن العلم والتوحيد يشتركان في أمور مما يجعلهما متحدي المعنى أو جانبان لموضوع واحد..

  • أولاً: لا يمكن أن يتحقق التوحيد بدون علم؛ لأن التوحيد يأتي بعد العلم كما يأتي التسخير بعد العلم.
  • ثانياً: إن الخطأ في أي من العلم والتوحيد تأتي عقوبته التي لا تغتفر ولو بعد حين. ومعلوم في الإسلام أن الذنب الذي لا يغتفر هو الشرك: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء / 48). وكذلك الخطأ في العلم نتيجة فورية وحتمية، فإذا أخطأت في استعمال الدواء أو الطاقة الكهربائية، أو أعطيت معلومات خاطئة في الحياة الاجتماعية.. تأتي العقوبات حتمية وغير متسامحة.. فالسموم تقتل، والكهرباء تصعق والمعلومات الخاطئة في الحياة الاجتماعية تجعل علاقات الناس مأساوية..
  • ثالثاً: إن العلم والتوحيد يتساوى موقفهما من عالم الأشخاص - الآباء - في ضرورة وضع عالم الأشخاص موضع الاختبار وعدم قبول ما يكون عليه عالم الأشخاص إلا على قدر ما يكون فيه من الصواب الذي تثبته عواقب الأمور. وإذا كان عالم الأشخاص يقدم لنا العلم والتوحيد، إلا أن العلم والتوحيد لابد أن تجري فيها دائماً عمليات التصحيح والضبط.