الإرادة روح الأمة
من Jawdat Said
4- الإرادة روح الأمة
يقول عليه الصلاة والسلام: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى).
وفي هذا الحديث تشبيه الأمة بالجسد في الترابط والسهر والشعور بالألم أو عدم نومها إذا كان أحد أعضائها مصاباً.. علينا أن ندقق في المشبه والمشبه به: ما الذي يجعل الجسد يتداعى إذا اشتكى عضواً من أعضائه؟ هذه دراسة حيوية فطرية للجسد الحي، إذ للحفاظ على كيانه وجد له الألم في المكان المصاب بالخلل ووجد له ناقل الألم من العضو المصاب إلى مركز الفهم في الكائن الحي، والكائن الحي يقوم بالفطرة بأعمال داخل الجسم للقضاء على هذا الخلل الذي طرأ عليه. والطبيب يتدخل ليساعد الجسم في القيام بعمله الفطري، فإن سائر الأعضاء تقوم بمهمات خاصة للحالة الطارئة، فستنفر الجسم كله للسهر على حل مشكلة الحمى. وحين يفقد هذه الوظيفة يبدأ نزول الموت البارد به، ويبدأ في التفسخ وفي العودة إلى عناصره الأولى من التراب شيئاً فشيئاً.
لماذا القلب؟ ولماذا يقبل الإنسان المثل الأعلى؟ لماذا تتحرك الأجرام؟ إن البحث في هذه الأمور لا جدوى منه لأنه لا يتعلق بوظيفة الإنسان وهي التسخير. فالمسلم يرى أن هذا يرجع في النهاية إلى الله تعالى الذي قدر فهدى، وجعل لما خلق سنناً يكتشفها الإنسان؛ فيرى آيات الله في الآفاق والأنفس ويتمكن من تسخيرها، وعليه أن لا يفلت منه هذا الفهم وهذا التسخير. فنقول هذا ونحن نميز بين ما نعلم وما لا نعلم، وإن ما نعلم يكفي لأن نقوم بوظيفتنا التسخيرية، وإن ما نجهله هنا وهو (لماذا يدق القلب؟ ) (ولماذا يقبل الإنسان المثل الأعلى؟ ) لا يتدخل في عملية التسخير، وذلك أننا حين نعلم أن صنع الماء من مواده هو الذي يمكننا من التسخير، وليس علمنا أو جهلنا: لماذا يحدث هذا من ذاك. فكما أن روح الإنسان من نفخ الله، فكذلك روح الأمة من إنزال الله. قال الله تعالى في نفخ الروح:
﴿يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون﴾ (سورة السجدة: الآيات 5-9).
وأما إنزال روح الأمة فقد قال عز وجل:
﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض﴾ (سورة الشورى: الآيتان 52،53).
فكما أن الخلايا تنضم بعضها إلى بعض وتكوّن الكائن الحي، كذلك أفراد البشر ينضم بعضهم إلى بعض ليكونوا الأمة. إن السر في انضمام بعضهم إلى بعض حينما تحدث لهم إرادة واحدة بهدف إيجاد كائن آخر هو (الأمة)، فحياة الخلية تجعلها ترتبط بالخلية الأخرى؛ كذلك تولد الإرادة في الفرد يجعله ينضم إلى الفرد الآخر فتتكون الأمة؛ وكما يقولون في علم الاجتماع: المجتمع رسالة من (الأنا) إلى (الآخر) ليتكون (النحن). فالجميع ينشأ من حمل فرد مثلاً أعلى إلى آخر … وهذا هو التبليغ للروح الذي أوحاه الله:
﴿أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾ (سورة الشورى: الآية 52).
وبشيء من الجهد يمكن تصور الشبه بين الجسد الواحد والأمة، فحين تتحقق الشروط لا يعود الفرد يملك الانضمام إلى بقية الأفراد، أو أن يبقى منعزلاً عن المجموع حين تتوحد الإرادة الواحدة فيها. وهذا ما يمكن فهمه من قوله (ص): (مثل المؤمنين …كالجسد الواحد).
عرفنا كيف تتولد الإرادة.. وإن ولَّدنا الإرادة يتحد الأفراد وتنشأ الأمة. ومن الأمور التي يعرفها الأطباء الحيويون أن لكل جسم نمطاً معيناً من حياة خلاياه يختلف عن نمط الفرد الآخر، فنمط الحياة في الكائن الحي يخضع لانسجام بحيث أن المشكلة التي تواجه الأطباء في عمليات نقل الأعضاء هي رفض الجسم للعضو الذي نقل إليه.
إننا يمكن أن نلاحظ ذلك في الأمة، فإن الأفراد الذين تنتمي إراداتهم الاجتماعية إلى أمة أخرى، فإنها لا تنسجم مادامت لا تحمل الوفاء إلا لمجتمع آخر ولروح أمة أخرى.
إن فطرة الجسم ترفض العضو الدخيل، ولو أدى الأمر إلى القضاء على الكيان كله فتضحي بالجسم وتفضل الفناء على البقاء مع هذا العضو الدخيل، وإن روح الأمة تكون في الإرادة الواحدة فإذا فقدت ماتت الأمة. وكما أن الجسم الحي إذا فقد روحه يتحلل ويعود إلى عناصره الأولية، فكذلك المجتمع (الأمة) حين تفقد الإرادة تموت ويرجع أفرادها إلى اهتماماتهم الأولية البدائية لحفظ الذات لا لحفظ نمو المجتمع، فلا يعود أحد يبالي بأحد، وكل واحد يقول: نفسي نفسي.
والمجتمع يبدأ في الوجود حين تصير للأفراد إرادات تتجاوز ذواتهم وتشمل الآخرين. فإذا كان المثل الأعلى يعطي الإرادة للأفراد والأفراد يحملونه، عند ذلك يبدأ المجتمع في الوجود. وهذا الفهم يسفر قوله تعالى: ﴿لكل أمة أجل ص (سورة يونس: الآية 49). وبهذا يمكن تصور الأجل للامة. فالرابطة التي تربط أفراد المجتمع هي الإرادة الواحدة.. والعقيدة الواحدة.. والهدف.. والمثل الأعلى الواحد. فالمثل الأعلى هو روح الأمة، فإذا عرفنا كيف توجد الإرادة ومن أي شيء تتولد؟ عرفنا روح الأمة كيف تتولد؟ وكيف ننميها؟ وكيف نحافظ عليها؟
وبعد ذلك نبدأ في بحث المثل الأعلى كقيمة.. والمثل الأعلى كصناعة.
5- الإرادة كقيمة وكصناعة:
ماذا نقصد بالمثل كقيمة؟ هذا جانب من جوانب بحث الإرادة. نقصد بالإرادة كقيمة: تفاضل الارادات، أي كيف تكون إرادة أفضل من إرادة؟ بل كيف يكون مثل أعلى أفضل من مثل أعلى آخر؟ أي كيف تكون عقيدة أفضل من عقيدة أو كيف تكون روح أمة أفضل من روح أمة أخرى؟
تكون روح أمة أفضل حين تشهد للمثل الأعلى حقائق الحياة والعلم بالصدق، وأنه ينسجم مع المستقبل ويظل يؤدي دوره الكامل. وقد بحث محمد إقبال هذا الموضوع، فكان مما قال:
(كان من بين ما يحكم به على قيمة دعوة النبي، البحث في نوع الرجولة التي ابتدعها والفحص عن العالم الثقافي الذي انبعث عن روح دعوته) تجديد التفكير الديني - فصل روح الثقافة الإسلامية ص 142.
فإذا قارنا سلوك رجل بسلوك رجل آخر أمكننا أن نميز بينهما ونحكم على قيمة المثل الأعلى الذي صنع كلاً منهما … إن الفطرة الصافية تختار أفضل المثل العليا حين تعرض عليها، وتقدر قيمتها بالنظر إلى نماذج الناس الذين صنعتهم هذه المثل العليا.
وإن قيمة الأنموذج الذي يصوغه الإسلام تبدو من المكانة التي وضع الله فيها الإنسان، والقيمة التي أعطاه إياها حين جعل الكون مسخراً له. وهيأه ليكون خليفته في الأرض، وتلك مكانة ما بعدها مكانة. وليس المراد هنا إثبات أفضلية الإسلام كقيمة. وإنما المراد إبراز أن الارادات تتفاضل على أساس قيمتها، ولتحديد الأفضلية ينظر إلى أنموذج الإنسان الذي صنعه المثل الأعلى - كما سبق أن نقلت عن إقبال - وكما يقول عيسى عليه السلام: (من ثمارهم تعرفونهم) إنجيل متى إصحاح 7 فقرة (20). والله تعالى يقول: ﴿وخير عقباً﴾ (سورة الكهف: الآية 44) أي انظر إلى العواقب.
نتحدث عن الإرادة هنا من جانبين:
1- قيمة المثل الأعلى.
2- والشروط التي يجب أن تتوفر في الإنسان لتتكون عنده إرادة مثل أعلى ما (أي المراد).
وعند بحثنا الإرادة ينبغي أن نشير إلى أن المثل الأعلى ولو كان في أعلى المستويات ينبغي أن نشير إلى أن المثل الأعلى ولو كان في أعلى المستويات لا يكفي لتوليد الإرادة، لأن الزوج الآخر وهو العقل الذي سيختار المثل الأعلى، قد يكون خارجاً عن فطرته، أو مرتبطاً بأهواء أخرى، فوضع العقل أيضاً - من كونه على الفطرة، أو محرف لحدوث أهواء فيه - يؤثر على قبول المثل الأعلى.
ومن هنا يمكن أن نفهم قوله تعالى: ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (سورة الأنعام: الآية 124). فاختيار الرسول (ص) كفرد، واختيار الأمة العربية كمجتمع لحمل الرسالة مبني على فطرتهم أسلم، وأهواءهم أقل من أهواء المجتمعات المعاصرة لهم من الفرس والروم التي لم تكن أحوالها تلائم لحمل الرسالة في تلك المرحلة من تاريخهم، فهم في ذلك الوقت من الأنموذج الذي وصفهم الله بقوله:
﴿فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون﴾ (سورة غافر: الآية 83).
وهذا الموضوع في حاجة إلى بيان أوفى، لأن له دخلاً وأهميته في بحث الإرادة كصناعة … وكثير من الذين يبحثون المشكلة الإسلامية لا يعطون لهذا الجانب الأهمية التي يستحقها. فكل بحثهم يتوجه إلى إبراز أهمية المثل العليا الإسلامية، بصرف النظر عن تأمل حال الإنسان الذي سيحملها. بينما ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (سورة الأنعام: الآية 124): تشير إلى الشروط التي ينبغي توفرها في المجتمع والإنسان - ولا تشير إلى الشرط الذي ينبغي توفره في الرسالة - وهذا الجانب يبرز أهمية أوضاع معينة للمجتمعات تساعد على قبول المثل الأعلى أو رفضه.
إن تفاوت الأفراد والجماعات في قبولهم المثل الأعلى راجع إلى ثقافتهم لا إلى فطرهم واستعداداتهم، وفي هذا جاءت الآية ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (سورة الأنعام: الآية 124). والسيطرة على تغيير ما بالنفس تدخل هذا الموضوع أيضاً في عالم التسخير الذي يقتدر به على تغيير ما بالأنفس من مثل عليا وضيعة إلى مثل عليا سليمة.
وأما الإرادة كصناعة:
فلا نقصد منها إيجاد الإرادة فهو جانب آخر من الموضوع، وإنما نقصد العملية الفنية لتحقيق ما نريده، وكفاءة الجهاز الذي يقوم بعملية عرض المثل الأعلى على العقل (بغض النظر عن قيمة المثل الأعلى) وإن كانت الإرادة تتولد ذاتياً حين يعرض المثل الأعلى. إلا أن صحة العقل ووضوح المثل الأعلى، كلما كانا تامين، كان القبول وتولُّد الإرادة أتم. وهذا لا يرجع إلى قيمة المثل الأعلى، وإنما يرجع إلى الجهاز الذي يقوم بتوليد الإرادة وحفظها. ويمكن تقريب الموضوع بمثل:
مدرستان تعلمان البرامج نفسها. ومع ذلك يمكن رؤية الفرق بينهما حين تعطي إحداهما نتائج أحسن من الأخرى، وهذا يمكن أن يكون راجعاً إلى نماذج الطلاب في المدرسة، أو إلى نماذج المعلمين والإدارات مع وحدة البرامج التي تعرض. وهكذا فإن بعض الأجواء تكون مساعدة في وضوح الرؤية الفكرية.
وهنا ارجع مرة أخرى إلى أهمية البلاغ المبين، وإلى أهمية الجهاز الذي يقوم بالبلاغ في العالم الإسلامي، إلى مدرسة العالم الإسلامي التي برنامجها القرآن، وقد أنتج هذا البرنامج (الصحابة) فماذا ينتج لنا الآن؟ إن الأمر لا يرجع إلى البرنامج. وإنما إلى المشرفين على البرنامج.. إلى الذين يقومون بتوليد الإرادة وحفظها. وفهم هذا سبب لفهم الفصل بين ما يرجع إلى المثل الأعلى وما يرجع إلى المشرف من نقص في عرض المثل الأعلى.. وبعبارة أخرى: الفرق بين المبدأ والتطبيق. فالمبدأ الجيد إذا أشرف على تطبيقه أناس غير مؤهلين كانت النتيجة الفشل. ويرى المنكرون للمبدأ أن الفشل راجع إلى طبيعة المبدأ فيقولون لو كان الإسلام حقاً لرفع أهله، بينما يرى أصحاب المبدأ أن فشلهم راجع إلى القدر الأعلى وكلتا النظريتين خاطئة. والمسألة رباعية:
1- مبدأ حق وتطبيق حق: وهذا ينتج نتائج إيجابية هي أعلى ما تكون نسبتها كما تحققت على يد رسول الله (ص).
2- مثل أعلى باطل وتطبيق جيد: قد يعطي نسبة عالية من النتائج ولكن دون الأول، كما جرى في اليابان وألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية فقد استطاعتا بالتطبيق الجيد أن ترفعا إرادة شعوبهما أعلى درجات الإرادة وهي بذل النفس والمال في سبيل خدمة مثلهم الأعلى الباطل وهو الاستكبار في الأرض والاستعلاء على البشر.
3- مثل أعلى حق وجهل في التطبيق: يعطي نتائج أقل من الأول. وحتى ما بقي له من نتائج لا يرجع إلى حذق في عملية توليد الإرادة، وإنما إلى ما في المثل الأعلى من قوة ذاتية؛ وهذا ما يعنيه أحد الدارسين للمشكلة الإسلامية قي قوله: (إن المسلمين ليسوا هم الذين حفظوا الإسلام، وإنما الإسلام هو الذي حفظهم …) وقد يتداخل الأمر بين حفظ الإسلام كمبدأ، أو حفظ المسلمين كبشر. ولكن لابد من فهم ما يرجع إلى كل واحد منهما، وهذا التداخل في كثير من الأحيان يكون سبباً لأحكام خاطئة. فمثلاً: حين يهاجم الإسلام من خلال عمل المسلمين، فهذا هجوم خاطئ على المبدأ نشأ من تداخل المبدأ بالمطبق. وكذلك الدفاعات الخاطئة حين نحاول أن نجعل بعض أعمال المسلمين الخاطئة في مستوى القرآن أو نجعل هذه الأعمال الخاطئة وسيلة لفهم القرآن. وهذا ما يجعل أعمال المسلمين وأفكارهم غير قابلة للنقد والمراجعة في العصر الحاضر؛ مما يوقع كثيراً من الشباب في البلبلة الفكرية.
4- مثل أعلى باطل وتطبيق سيئ.. وهذا لا يمكن أن ينشأ عليه مجتمع أصلاً.
ويمكن أن يكون تحت كل صنف من الأصناف الأربعة درجات لا تحصر من الخطأ والصواب، في كل من المبدأ والتطبيق.
إن الأول يكتسح العالم بسرعة. والثاني يعمل ضجيجاً وينجح إلى حد ما، ولكنه ينطفئ على مر التاريخ. والثالث يبقى بقوة ما في المثل الأعلى من صلابة كالأديان الكبرى وخاصة الإسلام.
والحالة الثالثة هي التي تقبل العودة بإصلاح الإنسان، وهو ما يدور حوله الكفاح والصراع في العالم الإسلامي بين الذين يرون الحاجة إلى تطوير المثل الأعلى - ويختلفون كثيراً في معنى التطوير، بين تغييره وبين إعادة فهمه على وجهه الصحيح - وبين الذين يرون ثبات المثل الأعلى الإسلامي وعدم حاجته إلى التطوير، ويختلف هؤلاء كثيراً أيضاً في معنى الثبات فهل الذي يثبت هو المبدأ أم التاريخ؟
وهنا أرى أنه ينبغي الإشارة إلى أن الإرادة كصناعة راجعة إلى القدرات، وهذا ما سنبحثه لاحقاً..