الأنبياء والصبر على الأذى
من Jawdat Said
هذا من جانب، ومن جانب آخر فكما هذا الأسلوب والموقف المثالي الواقعي في التغيير بقي متألقاً كالشمس والقمر، كذلك سجل القرآن هذا الموقف من قبل جميع الأنبياء جميعاً من مطلع البشرية إلى ختام النبوة.
لقد صبروا جميعاً على الأذى والقتل وعدم الدفاع عن النفس، وهذا ما ثبت بالقرآن الكريم وبالتطبيق العملي، ولم يسجل القرآن هذا الأمر فحسب، بل سجل شيئاً آخر غير عدم الرد على العدوان، سجل الشيء الذي اعتدى عليهم من أجله، حدد الذنب الذي اقترفوه، وحرص على أن يوضح أن ذنبهم كان محدداً وواضحاً، ولا لبس فيه فقال: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) البروج: 85/1-8، وحين آمن سحرة فرعون بموسى، وهددهم فرعون بالقطع والصلب قالوا: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ، وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) الأعراف: 7/125-126، وفي الحوار مع أهل الكتاب يعلمنا الله تعالى أن نسألهم عن الشيء المحدد الذي ينقمون منا، وذلك حين يقول: (قُلْ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ: هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ؟) المائدة: 5/59.
يظهر في هذا كله الاهتمام بتحديد موطن النزاع والنقمة، وهذا أمر جوهري، حتى إن فطرة الإنسان وطبيعته تدعوه، إذا رأى إنسانين متنازعين، أن يسأل عن الشيء الذي يتنازعان عليه، قبل أن يصدر أي حكم بينهما، اللهم إلا أن يكون إنساناً جاهلياً، لا يسأل عن سبب النزاع، بل ينضم إلى عشيرته دون نظر إلى الأسباب والنتائج، وهذا هو ما أنكره الشرع الإسلامي، والشرائع البشرية التي تتعامل بمقاييس الحضارة والتقدم، وهي تتجه إلى العدل وعدم محاباة الإنسان القريب لأجل قرابته من دون النظر إلى كونه ظالماً أو مظلوماً.
الإسلام جاء ليلغي هذا المفهوم الجاهلي، بأسلوب تربوي ملفت للنظر، وذلك حين اتجه إلى ترسيخ مفهوم تبين سبب النزاع، وحين دعا إلى عدم نصرة الظالم وإن كان قريباً، أياً كانت القرابة؛ فكرية أم عرقية أم جغرافية أم وطنية أم مجرد نزاع وعداوة: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) المائدة: 5/2، (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) المائدة: 5/8، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) النساء: 4/135.