أمراض الفكر وجراثيمه
من Jawdat Said
ما هو الحدث الفكري، الذي يُحدث الإقبال والإصغاء والسمع والخشوع والبكاء؟ هل هذه خوارق وفوضى، أم هي نظام دقيق؟ كيف نكشف الجرثوم، وكيف نعتقله ونحجمه ونسيطر عليه ونحمي أنفسنا منه؟
لقد عالجنا مرضنا القديم بمرض أشد بأساً وأشد تنكيلاً منه، فكيف نتخلص من المرض القديم والمرض الجديد؟ متى نكف عن علاج المريض بقتله بدل قتل المرض؟
إننا حريصون على المرض، نقدسه، ونحرص على قتل المريض بدل علاجه، فمتى نكف عن قتل المريض المصاب بالمرض الذي نحمله جميعاً؟
إننا بقتلنا له نصدر على أنفسنا جميعاً حكم القتل، مهما بدا لنا هذا المريض بغيضاً، فإننا لا نميز بين المرض والمريض، المرض مستوطن وجرثومته عند الجميع، ونحن لا نفكر في المرض أبداً، بل نفكر كيف نقتل المريض.
إننا نقدس المرض ونحافظ عليه، ونخاف من زواله، ونحمي عوامله وندافع عنها إلى درجة الموت في سبيلها.
نعم، إننا ندافع عن المريض ونحميه، إلى درجة أننا على استعداد للدفاع عنه حتى الموت.
كيف نكشف هذا الجرثوم المتلوث الخبيث؟ الذي يغتال الفهم، ويحمي نفسه بقوة الخفاء والتمويه والتلوث، وإذا كانت الجراثيم الكائنات الحية تحتفي عن الأبصار، فإن الجراثيم الفكرية أشد خفاءً وتلوناً وتمويهاً وتقلباً، هذه الجراثيم تتحدى المناظير، وتتحدى أهل البيان والمصلحين، وتضحك منهم.
لقد وصف ميشيل فوكو هذا الجرثوم، فقال على لسانه: « أنا لست حيث ترصدني، أنا هنا حيث أضحك منك وعليك »، وهذا الكلام يصف الحقيقة لأنها خفية أيضاً.
كأن الجرثومة تلعب معنا لعبة (الطميمة)، تختبئ عنا، وتجعلنا نتوه ونطاردها مطاردة الأشباح، إنها كالشيطان الذي يستطيع أن يختفي اختفاءً كاملاً، وقد تحدانا نحن البشر، إنه يرانا ونحن لا نراه، لا نراه ولكننا نرى تخريبه وفساده والأشلاء التي يتركها: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) الأعراف: 7/27.
إن الشيطان يتلبس علينا، ويضحك منا، ويغرينا ويغوينا.
نعم لدينا أناس يخرجون الشياطين، ويعالجون المرض التعساء الذين أصيبوا بالأمراض النفسية، وهم مبثوثون في كل البلاد الإسلامية، في طولها وعرضها، إنهم يُفْرزون تلقائياً وطبيعياً، لا يتخرجون من الجامعات، بل يتخرجون من جامعة الثقافة العامة التي تعمل ذاتياً. ولكننا، نحن المثقفين الذين يقال عنا إننا من إنتاج الثقافة الحديثة المتطورة؛ لسنا أفضل ولا أقرب إلى الرشد في علاج شيطان التخلف الذي يضحك منا ويقهقه، حين نظن أننا تخلصنا منه بالحداثة والفهم، وفي الحقيقة نحن لم نتخلص إلا من اسمه، أما وظيفته وفعاليته فقد زادت وقويت، وكما يقول محمد إقبال: « إن الشيطان أخذ إجازة طويلة حيث مثقفو العصر الحديث يقومون بدوره في معالجة الذين يتخبطهم الشيطان من المسِّ ».
أين باستور الجراثيم الفكرية؟ هل توجه منا أحد لسلوك سبيل يؤدي إلى المعرفة، وإلى الكشف في هذا المجال؟!..
يقول سكينر: « لو جاء أرسطو وأفلاطون وجالينوس، وحاولوا أن يقرؤوا صفحة واحدة في الرياضيات والبيولوجيا والأمراض الجسدية، لأصيبوا بالدهشة، ولما تمكنوا من تفهمها إلا بعد وقد طويل من التأمل، ولكن لو جاء سقراط وديوجين، وحاولا قراءة كتب السياسة والأخلاق والقانون الدولي، فإنهما لن يجدا صعوبة في فهم هذه الكتب، ولما وجدا تقدماً عنهما في فهم المشكلات القديمة، ولوجدا أن الناس لا زالوا في المكان الذي تُركوا فيه ».
لماذا لم نستطع تجاوزهم في موضوع الأخلاق والقانون الدولي؟ ألأن هذه المواضيع غي قابلة للفهم؟
لا، ليس الأمر هكذا، بل لأن المنطق الذي ننطلق منه في بحث المشكلة هو منطق خاطئ، وسكينر تقدم فعلاً في هذا المجال، وبدأت قرون الاستشعار لدى الفلاسفة تتلمس مجالاتٍ جديدة، وإن كانوا لم يقتربوا من منهج الأنبياء أبداً، وحتى حين يقودهم التأمل والتتبع إلى ما هو قريب من منهج الأنبياء، فإنهم يقولون: إنه الجنون، هل يمكن لنا أن نفكر في الجنون.