«أحبوا أعداءكم»: الفرق بين المراجعتين

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
(جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة)))
 
سطر ١: سطر ١:
 +
{{مقالات ذات صلة}}
 
==جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))==
 
==جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))==
  

المراجعة الحالية بتاريخ ١٠:١١، ٢٨ مارس ٢٠٠٩

مقالات ذات صلة
......................
انقر هنا لتحميل المقالات (Doc)

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

حين يمرض أحد نحبه نتفانى في بذل كل الرفق والرعاية، ويبقى حبنا للمريض بينما نكره مرضه ونحاول كل ما يمكننا لإزالته عنه. فالمرض الجسدي لا يزحزح مشاعرنا، بل يزيدنا حبا للمريض الذي يعاني أمامنا، ونزيد خدمة له. كذلك ينبغي أن نحب المريض فكريا بينما نكره أفكاره.

نحن نجد أن محبة المريض جسديا ممكنة ومعقولة وواجبة علينا، ولكننا لا نفهم كيف نقوم بمحبة المريض فكريا. فهذا صعب بدرجات ولكنه ليس مستحيل الفهم. ينبغي أن نحب المريض فكريا، ونكره أفكاره. وينبغي أن نبذل كل الجهد لإزالة مرضه الفكري. علينا أن نتمكن من فهم هذا حتى نتمكن من فهم الأنبياء، لأنهم هم الذين تمكنوا من رؤية الإنسان منفصلا عن مرضه، ولم يختلط عليهم الإنسان بالمرض فيكرهوا الإنسان.

عنوان المقالة هذا الأسبوع جملة من الإنجيل من موعظة الجبل التي يقول فيها عيسى عليه السلام لحواريه: "سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل… وسمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم… فإن الله يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم… أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك… فكونوا أنتم كاملين كما أن الذي في السموات هو كامل…" كثير من الناس يظنون أن هذه الموعظة غير منطقية، ولا يمكن أن يستقيم عليها أمر الناس اليوم. ولعله من هنا قالت كل الأقوام لكل الرسل أنهم مجانين، "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون". ومعظم الناس يظن أن الإحسان إلى المسيء يزيده علوا وعتوا وسوءا. كيف نفهم الإحسان؟ كيف ندرك أنه ليس مناقضا للعقل والمنطق؟ وكيف نرتفع لنعرف أن هذا هو الصواب؟

سنضطر أن نتحول إلى الإحسان الذي يهمله الناس. وسنتحول إلى هذا الذي قال عنه عيسى عليه السلام "الحجر الذي رفضه البناءون صار حجر الزاوية". والفكرة التي يستهزأ الناس بها الآن ستصير الفكرة المقدسة، ولكن لا يصل إليها ولا يرتفع إلى مستواها إلا الصابرون على رؤية العواقب.

والمسلمون اليوم لما يسمعوا مثل هذه المواعظ لا يمكنهم أن يتصورا أن يكون في الإسلام مثل هذه التعاليم، ولا يتذكرون قول الله: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم". كنت أقرأ مثنوي جلال الدين الرومي ووجدت أنه يقول: إذا أردت أن تعرف الفرق بين موسى ومحمد اقرأ قوله تعالى عن دعاء موسى "رب اشرح لي صدري" وقول الله لمحمد "ألم نشرح لك صدرك". لما قرأت ما قاله جلال الدين الرومي في هذه المقارنة خطر لي أيضا قول عيسى في الإنجيل "أحبوا أعداءكم" وقول الله في القرآن عن أصحاب الرسول (ص): "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم". فإذا كان عيسى عليه السلام يطلب من أصحابه أن يتحولوا إلى حب أعدائهم فإن الله يقول لأصحاب محمد: "ها أنتم أولاء تحبونهم"، أي أن أصحاب محمد قد حققوا هذا الحب.

والموضوع ليس مفاخرة ومقارنة، فالأنبياء كلهم جاؤوا ليحولوا الناس بالعلم والفهم إلى الحب، ولكن هذه الاختلافات تؤشر إلى تطور البشرية. ومن هنا كان الرسول (ص) يقول: رحم الله أخي موسى فإنه أوذي أكثر من هذا فصبر. ولما جاء أصحاب الرسول (ص) يشكون إليه ما يلقونه من أذى قريش، قال لهم: إن من كان قبلكم من كشط لحمه عن عظمه بأمشاط من حديد، ولم يكن ذلك يرده عن دينه. إن وسائل التعذيب قد تتطور، ولكن أخبار التعذيب والقتل صارت مقززة أكثر في هذا العصر. والبشرية في سعي حثيث لتحويل التعذيب إلى منكر. وهو يتحول إلى شيء لا يصبر عليه الذين يسمعون عنه من دون أن يبذلوا جهودا لرفع العنت عن الناس.

جاء الأنبياء ليغيروا الناس بالعلم والفهم لا بالخوارق والمغالطات، ونحن يمكن أن نفهم على أساس السنن والقوانين والعلم ما فهمه الأقدمون على أساس الخوارق. وعلينا أن نفهم أيضا الحب على أساس قوانين وسنن لا على أنه أمر إلهي خارق يأتي بدون أن يكون لنا دخل فيه، ويذهب دون أن تكون لنا سيطرة عليه. الحب هو مصلحة وتبادل خدمات، ولا يوجد "أحبني مجانا" ولا "أحبني غصبا". فحيث تكون مصلحتك يميل قلبك ويتولد الحب. وأعظم الحب بين الزوجين حيث المصالح المتبادلة، ويكون الحب قويا ويستمر حين يكون بالعدل والإحسان. وجميع العلاقات البشرية تنجح عندما يتبادل الجميع المصالح ويربح الكل، ولكن حين يدخل الخداع والغش في العلاقات بين الناس يدخل الفساد إليها ويموت الحب، بل وتظهر العداوة والبغضاء. وهذا قانون الله في الزمان الغابر. فمن يوم بدأ الناس بالاختصاص في الأعمال يتبادلون المصالح والمنتجات والسلع، بدأ مفهوم الربح المتبادل والخدمات المتبادلة. والبشر ابتكروا النقود المعدنية لتسهيل هذا التبادل، ولكن العواطف التي تنتج عن التبادل هي نوع من العملة أيضا. وإذا فهم الناس قيمة هذه العملة فيمكنهم أن يزيلوا الظلم ويحكموا بالعدل والإحسان.

أيها القارئ العزيز الكريم، ابذل معي جهدا لفهم هذا ورؤية إمكانية شفاء الناس من أمراضهم الفكرية حتى نخرج من الذين يكرهون الإنسان المريض فكريا. إن الجهل هو المرض، والعلم هو الصحة الفكرية. علينا أن نطلب العلم في الصحة الفكرية كما نطلبه في الصحة الجسدية. وعند ذلك سندخل عالما مختلفا كليا، عالم القلب السليم، عالم النفوس التي لا تحمل ضغينة ولا حقدا ولا كراهية لأحد، عالم الذين لا يحملون الناس على ما يكرهون. علينا أن نسارع في الدخول إلى هذا العالم الجديد الذي بشر به الأنبياء، وبدا الآن أنه صار يمكن فهمه علميا وفق آيات الآفاق والأنفس. علينا أن نتحدث في هذا وأن نزيد من معارفنا ونزيل أفكارنا الخاطئة. كل الناس في حاجة للحب والرفق، والخطوة الأولى إلى ذلك هو التعاون مع كل الناس على البر والتقوى، وأن لا نتعاون معهم على الخطأ. هذه مرحلة مهمة وطريق الأخوة العالمية أيضا للسلام والعدل والإحسان.

الناس ينتظرون من الآخرين أن يقدموا لهم الحب، فلنكن السباقين. أليس في رئيس فنزويلا الذي زار العراق متحديا العالم وأمريكا عبرة لكم يا عرب، يا مسلمون، يا مستضعفوا الأرض في العالم؟ "رب اشرح لي صدري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي".