أثر المناخ الثقافي في آلية التفكير
من Jawdat Said
الموضوع أولاً ليس موضوع تقديم أدلة للإقناع، بل هو بحث في موقف الإنسان من الأدلة، لمعرفة الكيفية التي يصنع بها هذا الموقف، وتحديد الشروط التي ينبغي أن تتوفر في دليل ما ليكون مقبولاً في جوٍّ ثقافي ما، والشروط التي ينبغي أن تتوفر في الإنسان ليصل إلى درجة القدرة على تأمل الدليل والتعامل معه. إنه بحث في ما يحدث داخل الإنسان.
إننا إن لم نمتلك تصوراً عن الوضع الإنساني الذي يحدد فهم الإنسان لموضوع ما أو قدرته على التعامل مع الأدلة؛ فإن جهودنا التي نبذلها تكون عديمة الفائدة، فلابد إذن من العودة إلى الخلف، كي نتمكن من القفز إلى الأمام.
لقد مرّت البشرية بمراحل ينبغي أن نستحضرها ولا ننساها أو نغفل عنها، ولكن ما هي شروط استحضارها؟ ولماذا يكثر القرآن من الدعوة إلى الذكر والتذكير وعدم الوقوع في الغفلة؟ وكم هي مرّات التذكير التي ينبغي أن نقوم بها حتى يبدأ التذكر؟
يحدثنا القرآن بأن البشر يصلون إلى درجة من عدم القدرة على الفهم، تجعلهم لا يسعون إلى الفهم، وليس هذا فحسب؛ بل يقاومون الفهم بكل جهودهم.
فالإنسان يصل إلى درجة لا يكون قابلاً معها للفهم، وإنه لممتع أن نتبع الوضع الإنساني في القرآن، وذلك حين يصف من أحواله أنه يرفض التأمل، ويعجز عن الفهم والتذكر.
ينبغي أن ندرس هذه الحالات، والحالات الأخرى التي تجعله يفهم الموضوع على عكسه، ويرى السيئ حسناً، والحسن سيئاً: (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) فاطر: 35/8، ولا ينتفع من سمعه وبصره: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلَى سَمْعِهِمْ، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) البقرة: 2/6-7، بل إنه يصل إلى درجة يقبل معها تقديم نفسه والآخرين قرابين في سبيل الحفاظ على ما في ذهنه.
إنني أقترح على الشباب الذين يدرسون الدراسات النفسيَّة والاجتماعيَّة، ويتأملون في تاريخ الأفكار، وفي علاقة الإنسان بها، وينظرون إلى ما يقدمه القرآن في هذا الموضوع؛ أن يجعلوا من هذه النقاط مشاريع أبحاث يقدمونه في أطروحاتهم، ويتعمقون في دراستها وتوضيحها، ويتعرفون مدى عمومية هذه الحالات في البشر والظروف التي ترافقها، والصعوبات التي تحول دون كشفها في المجتمعات.
إن دراسة الناس للمجتمعات الأخرى غير مجتمعهم، تمكنهم من فهم وإدراك أنّ الناس يرون الحسنة سيئة والسيئة حسنة، ولكنهم ينزهون أنفسهم عن أن يصابوا بهذا المرض، وقد بدأت الدراسات الإنسانية بالكشف عن هذه الحالات.
كيف نخدع المرء نفسه دون أن يشعر؟ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ، قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) البقرة: 2/11-12، (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) الكهف: 18/57.